الحياة هي أجمل ما في هذه الحياة

الأب جورج مسّوح Saturday May 20, 2017 187

الإنسان، إذا أخذنا ظاهره فقط، هو كيان مكوّن من موادّ عديدة قابلة للانحلال في أيّ وقت من الأوقات. هو كيان سيتفكّك ويتحلّل، لأنّه أصلاً كيان قابل للفساد. في هذا المنظور المادّيّ للكيان الإنسانيّ، يصبح أيّ عارض يصيب الجسد، من تعب وإرهاق وأوهان ومرض وأوجاع، أمرًا طبيعيًّا، بل حتميًّا. لذلك، طالما الإنسان يسعى على وجه البسيطة سيكون قابلاً لكلّ العوارض الجسديّة أو لبعضها.

لا ينكر الإيمان المسيحيّ هذا الواقع الطبيعيّ الذي لا يمكن امرئًا أن ينكره. فالإنسان، كما يقول الكتاب المقدّس، قد أُخذ من التراب، وإلى التراب يعود. وفي هذا القول وصف ظاهريّ لمآل الجسد المادّيّ، لا لمآل الإنسان بكلّيّته. فالمسيحيّة تؤمن بالخلاص وبالحياة الأبديّة التي سوف ينالها الإنسان مكافأةً من الربّ على انتهاجه نهج المسيح وتعاليمه في الحياة الدنيا. لذلك، يموت الجسد ويفنى، أمّا الإنسان فيبقى حيًّا إلى الأبد، بعد أن يقوم بجسده الممجّد على مثال السيّد المسيح بعد قيامته من بين الأموات.

مقولة “اذكرْ يا إنسان أنّك من التراب، وإلى التراب تعود”، ناقصة إذا لم نأخذها بالمعنى الظاهريّ فقط، أي بما نراه وندركه بحواسّنا في هذه الدنيا. أمّا الإيمان فيقول أكثر من ذلك، يقول إنّ الإنسان سوف يحيا مع الله حياة لا تنتهي. يسعنا، هنا، أن نوجز الإيمان المسيحيّ بالقول: إنّ الإنسان صُنع من الله، وإلى الله صانعه يعود.

يتّفق الجميع، إذًا، على القول بأنّ الجسد الأرضيّ فانٍ، وبأنّه لا يمكن أن ينتصر دائمًا على الموت. فلا بدّ أن يحلّ الموت عاجلاً أم آجلاً، وأن يخطف كلّ ساعٍ على الأرض. لذلك، يكون التساؤل في شأن مصدر الأمراض والعلل والأتعاب والأوهان والأوجاع، تساؤلاً غير منطقيّ إذا لم يتم حصره في الميدان الطبيّ. التساؤل الشرعيّ الوحيد عن مصدر الأعراض الجسديّة في سبيل معالجتها لا يمكن أن يجيب عليه سوى المختصّين بهذه الأعراض.

الله أوجد العقل في الإنسان كي يستعمله، لا كي يحتقره، والعلوم جزء من منتجات العقل. لذلك، لا حاجة لأن يلجأ الإنسان إلى مصادر غيبيّة، أو ماورائيّة، كي يعرف مصدر الأعراض التي تصيب الجسد. الجسد من هذه الدنيا، لذلك ثمّة أجوبة من هذه الدنيا تفسّر الأمراض التي تصيب هذه الجسد، وتقدّم العلاج تاليًا. حتّى الأمراض النفسيّة بات لها مختصّوها، ولا يجوز إهمالها بذريعة أنّ ثمّة علاجًا “روحيًّا” لها. فالروحانيّة لها ميدانها الخاصّ، والطبّ النفسيّ له ميدانه.

لا تحتقر المسيحيّة الجسد، بل تعتبره مقدّسًا لأنّ الإنسان به يتقدّس، لذلك ينبغي الاعتناء به من كلّ وجه. فالإنسان بجسده ينال المعموديّة والميرون، وبجسده يتناول من الكأس المقدّسة، وبجسده يسجد ويصلّي ويصوم. الجسد شريك صاحبه الإنسان في كلّ شيّ، ومن دونه لا يمكن اعتبار الإنسان إنسانًا، قد يكون ملاكًا مثلاً، لكنّه ليس إنسانًا تامًّا… والمسيح قد اتّخذ الجسد وصار إنسانًا، جاعلاً الجسد الإنسانيّ مقدّسًا.

بيد أنّ قداسة الجسد لا تمنع إصابته بأيّ عارض طارئ. قداسته لا تحصّنه ضدّ الموت المادّيّ. قداسته لا تجعله يستعلي على العلاج البشريّ. قداسته تأمره بأن يعتني بنفسه، لا أن يهملها. ومع تقدّم الطبّ يمكننا القول، براحة ضمير، أنّ ما أنجزه الطبّ من شفاءات وعقارات لأمراض مستعصية يفوق بكثير عدد “المعجزات” التي يجترحها القدّيسون والقدّيسات هنا وثمّة. نقول ذلك فقط إنصافًا للطبيبات والأطبّاء، لا للانتقاص من كرامة القدّيسات والقدّيسين.

قداسة الإنسان لا تنتهي بموت جسده. تستمرّ قداسته عبر حياته المستترة والمستمرّة مع الله إلى الأبد. المؤمن يصلي من أجل أن يحيا مع الله إلى الأبد. فإذا كان الموت الجسديّ أمرًا حتميًّا، فلنرجئه ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً. الحياة مع الله في الزمن الآتي ستكون جميلة بلا ريب، لكنّ العيش مع الله في هذه الدنيا جميل أيضًا. الحياة هي أجمل ما في هذه الحياة.

الأب جورج مسّوح

“النهار”،20 أيار 2017

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share