الأعجوبة الحقيقيّة

الأب جورج مسّوح Saturday May 27, 2017 180

هل الأعجوبة، في المسيحيّة، وسيلة أم غاية؟ الجواب البدهيّ هو أنّها ليست غاية يجاهد المرء في سبيل اقتنائها. الأعجوبة هي وسيلة من وسائل أخرى، إذا ما حصلت مع امرئ قد تؤدّي به إلى الإيمان. هي، لكونها لا تعمل في كلّ الناس، لا يمكن اعتبارها جوهريّة البتّة. هي قد تحدث مع بعضهم من دون الآخرين، والحادث ليس هامًّا بحدّ ذاته. الأعجوبة حادثة وليست جوهريّة، لذلك لا يمكن التعويل عليها.

حدّد السيّد المسيح الهدف الجوهريّ من بشارته في العبارة الأولى التي تنقلها الأناجيل عنه: “توبوا فقد اقترب ملكوت السموات” (متّى 4، 17). والتوبة، لكونها متاحة لكلّ بني البشر، ولا تقتصر على بعض الأفراد عبر التاريخ، يمكننا اعتبارها هدفًا أساسيًّا في المسيحيّة، بل الهدف الأسمى للحياة المسيحيّة. التوبة إلى الله، أي العودة إليه، هي الهدف الوحيد الذي يريد الله من الإنسان أن يصل إليه.

عندما أُتي إلى يسوع  بإنسان كسيح كي يشفيه لم يشفه توًّا، بل توجّه إليه بالقول: “يا بنيّ مغفورة لك خطاياك”، لكنّه لـمّا رأى استهجان علماء الشريعة لقوله هذا، لأنّ لله وحده سلطان مغفرة الخطايا، حينئذ قال للمخلّع: “قم واحمل سريرك واذهب إلى بيتك”، فقام وحمل سريره ومشى (إنجيل مرقس 2، 1-12). هذه الحادثة تشير إلى أنّ الأولويّة لدى يسوع ليست لشفاء الإنسان من أمراض الجسد، بل لشفائه من أمراض الخطيئة. فالموت الجسديّ من جرّاء المرض لا ينهي حياة الإنسان، بينما الخطيئة تهلكه إلى الأبد.

وبعدما شفى يسوع كسيحًا آخر، نبّهه قائلاً: “ها قد عوفيت فلا تعد تخطئ لئلاّ يصيبك أشرّ” (إنجيل يوحنّا 5، 1-14). الأشرّ هو الذي ينجم عن الخطيئة، وهو أكثر ضررًا من عاهات الجسد. العبرة الأساسيّة من هذا القول هو أنّ مرض الخطيئة أكثر خبثًا من الأمراض كلّها. فبالموت يستحيل الإنسان ترابًا، والأعضاء التي تُشفى، جرّاء العجائب أو الطبّ، تُشفى إلى حين وليس إلى الأبد، غير أنّ الشفاء من الخطيئة، بالنسبة إلى المؤمنين، يبقى ويدوم إلى الحياة الخالدة.

كلّنا نؤمن بأنّ أيّ أعجوبة تحدث في هذا العالم لن تدوم إلى الأبد. كلّ الناس وقعت تحت قضاء الموت، مَن حدثت معه أعجوبة ومَن لم يحدث مع شيء من هذا القبيل، حتّى الذين شفاهم يسوع من عاهاتهم قد رحلوا من هذه الدنيا. ولنا في قصّة القدّيس لعازر الذي أقامه يسوع من الموت مثالاً ساطعًا، فعلى الرغم من خروجه من القبر حيًّا ما لبث أن توفّي. لذلك نقول إنّ الأعجوبة ليست ذات أهمّيّة في اللاهوت المسيحيّ بكلّ ميادينه.

بيد أنّ ثمّة أعجوبة جعلها الله في متناول البشر كلّهم وقدرتهم. التوبة هي الأعجوبة التي يمكن كلّ إنسان أن يصنعها. نعم، إنّها لأعجوبة أن يقبل الإنسان بالانتقال من حالة الخطيئة إلى حالة التوبة، وهذا بلا ريب أعظم بما لا قياس من انتقال جبل من مكان إلى آخر. فما فائدة أن ينتقل الجبل، أو أن يُكسف القمر، أو أن تُخسف الشمس؟ هذا لا ينفع الإنسان شيئًا. ما ينفعه هو أن يصبح، بتوبته، جديدًا نقيًّا بعد أن يخلع عن نفسه القذارة والنجاسة.

أليست أعجوبة خارقة مثلاً أن نرى ناهبي المال العامّ من المسؤولين يتمثّلون بزكّا، رئيس الجباة، الذي بعد توبته قال ليسوع: “هاءنذا يا ربّ أعطي المساكين نصف أموالي. وإن كنت قد ظلمت أحدًا في شيء أردّه عليه أربعة أضعاف”، فقال له يسوع: “اليوم قد حصل الخلاص لهذا البيت” (إنجيل لوقا 19، 1-10)؟ التوبة، كونها تتطلّب تحرّرًا من الأنا، هي أعظم أعجوبة قد يجترحها إنسان. هكذا فقط يصبح الإنسان شريكًا لله خالقه.

الأب جورج مسّوح

“النهار”،27 أيار 2017

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share