صاحبَ الغبطة البطريرك يوحنا العاشر الكلّي الطوبى والجزيل الاحترام،
أصحابَ السيادة المطارنـة والأساقفة الأجلاء،
الآباء المحترمون، السيدات والسادة العمداء والمدراء وممثليّ الهيئات والمؤسسات والارثوذكسية والمجالس الرعائيـة، الأخوة الأمناء العامّون السابقون ورؤساء المراكز والفروع، الأخوة الأصدقاء والأعضاء الأحباء،
سلام لكم من قلب يرتكض فرحًا وحبورًا. فها نحن نتحلّق، والربّ في وسطنا، في ذكرى تكوين رحمٍ ولدنا، في الطريق الى الخلاص، تحتَ قدميِ المصلوب. نتحلّق في كنف أبٍ، أخٍ، معلِّم لأجيالٍ وأجيالٍ منّا، رئيسِ رعاتنا، بطريرك كرسينا الأنطاكي يؤمّنا. فيا سيّدي صاحب الغبطة، ليسَ واجب الشكر هو، فنحن نعلم أنكم أهل البيت وأصحابه، أن عيدنا، اليوم، يعنيكٓم فوق ما يعنينا، خاصّةً أن هذا الالتزام الكليّ للربّ الذي تقيمون فيه، هذا الولـه، الذي تعيشون، بكنيسةٍ على قلب الله انّما نما وارتوى في هذا الحقل الذي رُمينا، جميعًا، فيه بذورًا. فقط، إنه واجب البنوّة، في المسيح، تجاه الأبوّة التي تمثلون، أن أحمل اليكم دعاء الاخوة في سائر مراكز الحركة وصلواتهم، لأجل أن يزيدكم الله صحةً وقوةً وحكمةً وأعوامًا تفي بحاجة كنيسة أنطاكية الى رئاستكم علّنا نعاين، يومًا، كنيسة المسيح جسدًا مُشتهىً في هذا العالم.
السيدات، والسادة والأخوة، نحن اليوم لا نحتفل بذكرى تأسيس حركتنا، بل بذكرى ولادة كلّ منّا في معمودية مُمتدّة مستمرّة بالمسيح. هو عيدنا لأن بهذا الحدث كُشف طريق خلاصنا. به استحالت حروف الانجيل قصيدة ايمانٍ وحياة. به صارت الطقوس لغة وصلنا بالله، وصارت الصلاة نبضة قلبٍ تُسمَع في السماء. به صارَت قاعات الكنائس منازلَ، وصار مرحُ الشباب خدمةً. به كُسرت الأنـا، وصار الشخص خميرَ الجماعة، والجماعة صارت أمّ الأشخاص. قد يكفي هذا لاختصر، بكلمات، بأيُّ حدثٍ نحتفل اليوم، ولماذا به نحتفل. أما متى يُكمَّل احتفالنا ويستقيم فهذا ليس مِلكَ لحظة ويوم. هو مِلكُ الأيام والعقود الآتية. تاريخُنا ماسيّ إن امتدت ماسيّته فينا وفي الأجيال اللاحقة، التزامًا للمسيح وكنيسته، ونشرًا لانجيله وفضائله فينا وفي مَن حولنا، ولهمّ الكنيسة والتجنّد لما يخدم جمالها ووحدَتها.
أيها الأحبّة، في العام ١٩٤٢، تطلّع المؤسّسون الى تلبية الحاجات الايمانية والكنسية، والتي كانت أولويتها أن يعرف الارثوذكسيّون مسيحهَم وانجيله وكنيسته وتراثها حقّ المعرفة. درسوا وعلّموا وأرشدوا ورعوا وشاركوا وضحّوا في سبيل هذه الغاية. غيرَ أنهم قالوا أولاً: الالتزام والحبّ ليسوع المصلوب لا يعرَّف بالكلام، بل بالمثال، وكان أن وضٓع كلٌّ منهم ذاته في عهدة الربّ حيث اقتضى أن تكون مواهبُ كلّ منهم. هذا التكرّس الشخصي هو الأهمّ في تاريخنا لأنّه كان، أولاً، وفاءً لمن أحبّنا أولاً. ليسَ من لون أو طعم أو نكهة لحركة الشبيبة الارثوذكسية دون هذا الوفاء، وليسَ من مشروعية انجيلية لأي طرح وخطوة ونشاط ولقاء وارشاد ونشر وشهادة ما لم ننطلق اليها من هذه البنوّة الالتزامية. أن نكون أبناءً وليس عبيدًا معناه أن نكون أحرارًا من عبودية الذات والخطيئة متطلّعين الى النهوض بالمسيح مصلوبًا، متطلعين الى أن نصلب شهواتنا وأنفسنا على مذبح الخدمة والتخلّي. إن غابت هذه البنوّة عن مشهدنا الحركيّ غابت روح الحركة التي وَلَدها الحبّ، وبقيت أشكالها التي وَلَدَهـا التاريخ. هذه ليست مراوحة في الزمن العتيق، هي مراوحة في الأساس الذي عليه يُبنى كلّ جديد. أمّا الجديد دائمًا فهو أن يكون يسوع المسيح الملجأَ الخلاصي لكلّ شخص ولكلّ العالم مهما اشتدّت أزماته. هذا يقتضي أن يكون المُبشّرون به عاملَ جذبٍ إليه، وأن يكونوا محتضنين لما يؤلم الناس وما يفرحهم. بهذا يزرعون حضور الربّ وفكره في الأرض خلاصًا مّما يؤلم ومشاركةً من السماء بما يُفرح. وهذا ما يضعنا أمام ضرورة أن يتجلّى فينا اليوم ما يحتاج اليه العالم.
يا أحبّة، كلّ ما يحوط بنا يدعونا الى عهد حركيّ متجدّد، الى حضورٍ متمايز يتوافق مع الحاجات والتحدّيات والمتغيرات الكنسية والاجتماعية الكُبرى. في كنيستنا، تغيّر الكثير ويتغيّر، ولعلَّ أهمَّه أننا نواكب انطلاقة عهد انطاكيّ جديد، بإمامة غبطة البطريرك يوحنّا العاشر، وهو الأمر الذي ينادينا للتجنّد في خدمة كلّ خطوة تؤول الى أن يكون عهدَ فرحٍ للمسيح بكنيسة أنطاكية. وهنا، اسمحوا لي، صاحب الغبطة، أن ألتفتَ، مثمّنًا، الى باكورة خطوات أطلقتموها في هذا السبيل. فالمؤتمر الأنطاكي الذي عُقد في البلمند، بما واكبه من جهود وتنظيم ودراسات ومشاريع تخدم وحدة كنيستنا وشهادتها وحياتها، وما خلص اليه من قرارات، يشكلّ ركيزةً، كانت مُفتقدة، لعمل كنسيّ هادف الى استقطاب الشباب المؤمن، وتفعيل الرعاية والتواصل بين الكنيسة وشعبها، هذا إن اتخذت قرارته مسار التنفيذ. ولهذا نرفع صلواتنا كي يُلهم الله المجمع الانطاكي المقدّس الى إيلاء هذه الغاية الأولوية والمتابعة اللتين تستحقهما رغمّ ما مرَّ عليها من سنوات. لعلّنا بهذا نتلافى المزيد من غربة الأجيال الفتيّة والشابة عن الكنيسة وحياتها، ونجد حلولاً لأزمة غياب الرعاية المُستَفحِلة في كثير من الرعايا، وأزمة مشاركة المؤمنين، ونُجيب عن أسئلة وقضايا تواجهنا، والأهمّ، لعلَّنا نعالج أزمة ثقة المؤمنين بقدرة كنيستهم على تلبية المرجوّات. وانتهزها، فرصةً، وفي موضوع مشاركة المؤمنين، لأسجّل، في هذا اليوم، أنّها مسؤولية الجميع أن نبني ما تحيا فيه هذه المشاركة وتنمو. فالعودة الى قانون مجالس الرعايا والأبرشيات، بالروحيّة التي أُقرَّ بها والمسطّرة في كتيّب الأخ كوستي بندلي “مجالس الرعايا ومتطلّبات النهضة الانطاكية”، قد تكون أساس هذا البناء، إن عُدّلَ هذا القانون، وطوّر، بما يأخذ بعين الاعتبار تغيّر المُعطيات والاحتياجات التي أحاطت بكنيستنا يومَ إقراره. أمّا الأهمّ الذي يجدر توضيحه لأنفسنا، وللأصوات المتصاعدة في هذا الشأن، هو أن المسؤولية في الكنيسة لا تُكتَسب مما خُطَّ على بطاقة الهويّة بل من تعميد الحياة، بكليتها، بالمسيح.
أيها الأخوة،
قالت إحدى الأخوات في احتفالنا بالذكرى الثانية والسبعين إن كلّ حركيّ هو مؤسّس. هذا كلامُ مرجوّ من كلّ منّا في كلّ يوم حركيّ، ولنحققّ هذا الرجاء لا بدّ من أن نتأمّل في معالم الهويّة التأسيسية التي برزت في مؤسّسي حركة الشبيبة الأرثوذكسية لتكون مسعانا. فبعدَ الألف والياء، هذا الالتزام الشخصي، أتأمّل في مَعلَمين آخرين أراهما الأهمّ. أولّهما النَفَس الوحدوي المبني على الثبات في الايمان بالجسد الواحد. هذا المنظر الوحدوي الذي نبسطه، الآن، هو ما يجب ألا يغيب من كنيسة إنطاكية. جرحُنا كلّنا في الكنيسة، اليوم، بُعدُ كلّ منّا عن الآخر وغُربتُه عنه، واختلاط مفاهيم الوحدة والاستقلالية وما شابه. هل لنا أن نُطلّ على مجتمعنا شاهدين للاله الواحد دون أن تُرى هذه الوحدة في إطلالتنا؟ كيفَ نقول للعالم المُتصارع اللاهث خلفَ التغذّي من فقر الناس ودمائهم إن خلاصكَ هو بالشركـة المرتقية الى التخلّي ما لم يرها متجلّيةً فينا. رعيّة لا تشارك رعيّةً ومؤسّسة لا تساعد مؤسّسةً، وأبرشية لا تحتضن أبرشيةً، ومشاريعُ متشابكة متشابهة تتكرّر، فقط، لتكون هذه باسم هذه الرعية أو الأبرشية وتلكَ باسم تلك. في كنيسة المسيح ما لكَ هو لي وللكلّ، ومن أجلي وأجل الكلّ، وما لي هو لك ومن أجلك والكلّ.
أما المَعلم الآخر فالفقراء والفقراء. يلفتني أنّ هذه القضيّة ليست في الصدارة المرجوّة ونحن نتباحث ونفكّر في سبل البشارة الحديثة والعصر والمعلوماتية وما الى ذلك. دعوني أؤكّد ما قد نعرفه جميعًا، إنمّا يتطلّب، بالتأكيد، مزيدًا من الترجمة الصادقة. باطلَةٌ هي كلّ بشارة ما لم تكن غايتها خلاص المُبشَّر بالمسيح. وكيف يُكشَف له الخلاصُ، من خلال الجماعة الكنسية، ما لم يلمس أن ألمه وجوعه ومظلوميته تحيا فيها ومعها؟ باطلٌ كلّ سجود ما لم تنحن قلوبنا أولاً، وتَطرَ، أمام الآم الآخر ليستقم، بهذا، سجوداً أمام الصليب. العطاء، الموقف الجريء الشاهد الذي لا يُراعي ظالمًا أو مصلحة غيرَ مصلحة “الصغار” وكرامتهم أولاً ينهض الى حيث يسكن يسوع فلا ننحدر الى حيث يُقيم المال، ومعه، تقيمُ أنانا وأهواؤنا. ما لم نؤسّس هذا المعبر لبشارة حديثة ثقوا أنه لن يكون لنا آخر.
صاحب الغبطة،
أصحاب السيادة والآباء الأجلاء، وجميع الأحبة،
ليس من منطق الأمور أن نقدر، نحن المخلوقون، على استبيان آفاق إرادة الله في كنيسته، بالغد، لنقول هذا سيكون سعينا وتلك ستكون خطواتنا. أمّا النبوّة المرجوّة ثابتةً فينا فهي أن سعينا سيكون إليه أبدًا، وخطواتِنا سيكون هو، أبدًا، وجهتَها. هذا ما نرجو أن ينعم علينا به هذا المساء الذي فيه تغمرنا بركة الكنيسة بإمامة أبينا غبطة البطريرك. نرجو أن يسكبَ علينـا نعمة الفضائل الشخصيّة والجماعية، ويهبَنا الثبات فيها، لنفرشها، بجرأة وإصرار، في بيته سعيًا الى أن يفيضَ فيه ما فاض في كنيستنا الأولى من جمالات شدّت العالم إليه.
فسلّموا، أيها الأخوة، أنفسكم وذواتكم وحركتكم لله وابنه وروحه القدّوس واطمئنّوا. بهذا التسليم نثبت في الله المحبّة، وكنيسته، وتثبت الحركة في الحبّ الذي شئناه شعارًا لهذا اليوبيل.
ونحن على هذا الرجاء نذكر الوجهَ الذي لم نعتد غيابه عن مثل هذه المناسبة، أبينا المطران جورج خضر ضارعين الى الله أن ينعم عليه بالصحة والعزّة وبشيخوخة كريمة.
أيها الأحبة، تحرّكوا في الجسد الحبيب وثقوا أن الله في كنيسته ولن تتزعزع.
شكرًا لكم صاحب الغبطة، شكرًا لكم أصحاب السيادة، شكراً لكم جميعاً والسلام