احتقار “حقوق الإنسان” ثقافة رائجة

الأب جورج مسّوح Saturday July 8, 2017 184

ورد في مقدّمة الدستور اللبنانيّ التي أضيفت بموجب القانون الدستوريّ الصادر في 21 أيلول 1990، في الفقرة “ب”، ما يلي: “لبنان عربيّ الهويّة والانتماء وهو عضو مؤسّس وعامل في جامعة الدول العربيّة وملتزم مواثيقها، كما هو عضو مؤسّس وعامل في منظمّة الأمم المتّحدة وملتزم مواثيقها والإعلان العالميّ لحقوق الإنسان. وتجسّد الدولة هذه المبادئ في جميع الحقوق والمجالات دون استثناء”.
كما يرد في الفقرة “د” من المقدّمة عينها أنّ “الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسّسات الدستوريّة”.

لبنان “يلتزم”، مع كلّ ما يحمله هذا الفعل من مضامين وطنيّة وسياسيّة وأخلاقيّة،  بالإعلان العالميّ لحقوق الإنسان ومبادئه كافّة. هو التزام فعليّ تخضع له الدولة بمؤسّساتها كافّة، والحكومة المؤتمنة ديمقراطيًّا على تسيير شؤون الدولة والناس. لكنّ المقدّمة ذاتها في الفقرة “ي” تشرّع بابًا قد يؤدّي إلى نشوء تناقض مع الالتزام الكامل بتطبيق الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان، فالفقرة المذكورة تقول: “لا شرعيّة لأيّ سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”.

اللافت أعلاه أنّه في مقابل “إعلان عالميّ لحقوق الإنسان” واضح المعالم، ثمّة حديث عن “ميثاق عيش مشترك” غير واضح البتّة، وغير متّفق عليه، فكلٌّ يراه من منظوره لما فيه مصالحه. فبذريعة الفقرة “ي” تمّ، على سبيل المثال، رفض إقرار حقّ من حقوق الإنسان، وهو التمتّع بـ”أحوال شخصيّة مدنيّة” لا دينيّة لـمَن يشاء من المواطنين اللبنانيّين. وبذريعة الفقرة ذاتها يتمّ نحر حقّ المرأة اللبنانيّة بمنح جنسيّتها لأطفالها في حال اقترانها بغير لبنانيّ…

ثمّة حالة مَرضيّة متفاقمة باتت ضاربة في عمق الجسد اللبنانيّ، هي حالة احتقار لكلّ ما يسمّى بثقافة “حقوق الإنسان”. ثمّة مَن يسخر ويهزأ بخفّة لا تطاق من المواطنين اللبنانيّين ذوي التوجّه المدنيّ عن حقّ. فيتعاملون بسخافة وتفاهة مع الذين يثيرون من حين إلى آخر مسألة احترام الإنسان وحقوقه. هذا الانحطاط الأخلاقيّ يتناقض وما يقوله كثير من اللبنانيّين عن سعيهم إلى بناء “دولة مدنيّة”. الدولة المدنيّة أساسها إقرار حقوق الفرد المواطن، واتّخاذ الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان معيارًا للسلوك الوطنيّ والمجتمعيّ والسياسيّ.

يقول أنتوني غدنز إنّ “مفهوم الحكم / الحكومة يشير إلى تطبيق المسؤولين في نطاق نظام سياسيّ معيّن للسياسات والقرارات والقضايا المتّصلة بسيادة الدولة. أمّا السياسة فهي الوسائل التي تُستخدم بها السلطة لتفعيل الأنشطة الحكوميّة في نطاق معيّن ووفق مضمون متميّز” (علم الاجتماع، المنظمّة العربيّة للترجمة، بيروت، 2005، ص 467). وهذا يعني ضرورة التمييز ما بين الحكم / الحكومة من جهة، والدولة ومؤسّساتها من جهة أخرى. فالمؤسّسة، أيّ مؤسّسة، لا تعمل من ذاتها بل تخضع للسلطة السياسيّة الممثّلة في الحكم / الحكومة. والسلطة السياسيّة، مهما علا شأنها، تخضع للمساءلة من الشعب الذي هو “مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسّسات الدستوريّة” (الفقرة “د” من المقدّمة).

لا عصمة بالمطلق لأيّ مؤسّسة من المؤسّسات التي تتكوّن منها الدولة، وبخاصّة أنّها في ممارساتها تخضع للسلطة السياسيّة المنتَخبة ديمقراطيًّا، والقابلة للتغيير. مَن يخضع للمساءلة هو السلطة السياسيّة المسؤولة التي تصدر القرارات، وهذا لا يعني البتّة التشكيك بالمؤسّسة وبنزاهتها ومناقبيّتها وأدائها لمهامّها الوطنيّة. هذا يعني، إذًا، أنّ المساءلة مشروعة وليست خطيئة تستوجب العقاب. أمّا إذا قدّسنا مؤسّسة من المؤسّسات وجعلناها فوق المحاسبة، فكأنّنا نقول إنّها معصومة عن الخطأ، والعياذ بالله. من هنا نبدأ ببناء دولتنا المدنيّة الحقّ.

الأب جورج مسّوح

“النهار”،8 تموز 2017

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share