جسد الشهيد قربان حيّ

الأب جورج مسّوح Saturday August 12, 2017 202

أصدر الدكتور إلياس رشيد خليل ومجموعة من المؤلّفين، بمبادرة من رابطة قدامى الإكليريكيّة المارونيّة في لبنان، وبعد جهد دام سنوات، “موسوعة شهداء الكنائس في آسيا الصغرى والشرق الأوسط وشمالي إفريقيا” (مجلّد واحد، 1072 صفحة). هذه الموسوعة العلميّة، التي نالت بركات رؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة والكاثوليكيّة في المشرق، تتميّز بأمر يحدث للمرّة الأولى في تاريخ الكنيسة، وهو أنّها جمعت سير القدّيسين الذين تعيّد لهم كلّ كنيسة من الكنائس. أمّا عن أهمّيّة هذه الموسوعة فلنا في رسالة غبطة البطريرك يوحنّا العاشر يازجي المنشورة في فاتحتها خير الكلام: “إنّنا نجد في هذا العمل الجديد خطوةً أساسيّة نحو مزيد من التعرّف بتراثاتنا المشرقيّة المشتركة، وتذكيرًا بتاريخ الكنيسة المجاهدة في بلادنا، وتأكيدًا على شهادتنا الواحدة في هذا الزمن العاصف”.

ودونكم أجزاء من دراستي “جسد الشهيد قربان حيّ: شهادة كنيسة الروم الأنطاكيّة” المنشورة في الموسوعة:

يحفل تاريخ الكنيسة بأخبار القدّيسين الشهداء الذين لم يهابوا الموت، فواجهوا جلاّديهم بعزم وشجاعة يفوقان الوصف، ولم يتراجعوا عن إعلان ثباتهم على الإيمان بالربّ يسوع ربًّا وإلهًا وفاديًا ومخلّصًا. وقد تعدّدت أسباب استشهادهم باختلاف الظروف والسياقات والعصور والمناطق والدول. فأوّلهم القدّيس استفانس (أعمال الرسل، الفصل السابع) قتله اليهود كما قتلوا سواه، ومنهم مَن ذهب ضحيّة أباطرة رومية الوثنيّين، ومنهم مَن استشهد إبّان الخلافة الإسلاميّة، ومنهم مَن استشهد في عصرنا الحاضر في ظلّ الدول القائمة على مبدأ “العلمانيّة”، ومنهم مَن قُضي أجله على أيدي مسيحيّين آخرين اعتبروهم هراطقة أو أصحاب بدعة تستوجب القصاص قتلاً.

يؤكّد الأرشمندريت المتوحّد توما بيطار، الذي يعود له الفضل بإصدار السنكسار الأرثوذكسيّ باللغة العربيّة، أنّ “أوّل مَن شقّ طريقه إلى الإكرام في العبادة كان الشهداء. هؤلاء جرى المؤمنون على إكرامهم في المواضع التي قاسوا فيها عذاباتهم أو استُشهدوا ودُفنوا. كانت بقاياهم تُحفظ بعناية كأثمن الكنوز، لا لأنّه كان لها مفعول عجائبيّ بالضرورة بل لأنّ أصحابها جاهدوا الجهاد الحسن وأكملوا السعي وحفظوا الإيمان (2 تيموثاوس 4، 7) ؛ قدّموا أجسادهم ذبيحة حيّة مقدّسة مرضيّة عند الله  (رومية 12، 1) ؛ تشبّهوا بموت السيّد (فيليبّي 3، 10) ؛ حملوا سمات الربّ يسوع في أجسادهم (غلاطية 6، 17) ؛ وليسوا هم الذين، بعد، يحيون بل المسيح يحيا فيهم (غلاطية 2، 20)”[1].

بات من النافل القول إنّ إكرام الشهداء قد بدأ في حقبة مبكّرة من تاريخ الكنيسة. ففي رواية استشهاد القدّيس بوليكاربوس أسقف إزمير (+158) يذكر الكاتب احتفال المسيحيّين بالذكرى الأولى لاستشهاده. ويروي أحد الشهود أنّ قاتلي بوليكاربوس رفضوا تسليم المسيحيّين جسده ليدفنوه، ثمّ أحرقوه. لكنّ محبّيه قاموا بجمع عظامه التي كانت بالنسبة إليهم “أثمن من الذهب والفضّة”. من هنا نشأ تقليد مقدّس ما زال حيًّا إلى اليوم، يقضي بضرورة بناء الكنائس على قبور الشهداء، أو وضع أجزاء من رفاتهم فيها. وقد أمر مجمع قرطاجة (397) بتدمير الكنائس غير المشادة على قبور الشهداء الحقيقيّين. أمّا القانون السابع من المجمع المسكونيّ السابع فيقول: “لتوضعْ بقايا الشهداء القدّيسين في الكنائس التي دُشّنت بدونها. ومَن يكرّس كنيسة بدون شيء من بقايا الشهداء فليسقط لمخالفته تقاليد الكنيسة”.

يسعنا القول، إذًا، إنّ الشهيد، في المسيحيّة، هو الذي يحتفل بالقدّاس مقدّمًا جسده قربانًا حيًّا عوض الخبز والخمر. يتحوّل جسده إلى جسد المسيح. يتحول جسده إلى “الكنيسة” بكلّ ما تتضمّنه هذه الكلمة من معنى. ألم يشبّه القدّيس بولس الرسول الكنيسة بـ”جسد المسيح”؟ ألم يقل هو نفسه إنّ أجساد المؤمنين هياكل للروح القدس؟ لذلك كلّه نكرم رفاته كونها قد أضحت قربانًا مقدّسًا. ففي سيرة القدّيس أفبلس (+204) ما يؤكّد هذا الاعتقاد السائد، فقدّيسنا يصرخ في وجه جلاّده الذي يطلب منه أن يقدّم ذبائح للأوثان كي يعفو عنه ويبقيه حيًّا: “نعم، سوف أقدّم ذبيحة. ولكنّي سأقرّب نفسي أمام المسيح الإله، وليس عندي أيّ شيء آخر أقدّمه”.

في هذا السياق يقول المطران جورج خضر: “كان المسيحيّون الأوائل يقيمون الذبيحة على ضريح الشهداء لأنّ الشهداء أحياء والقدّاس حياة جديدة… معنى كلّ ذلك أنّ الشهيد أو القدّيس حيّ عند ربّه ويساهم في إحيائنا”. لكن، مع انتشار الكنائس وعدم وجود أضرحة للشهداء، ارتأت الكنيسة أن يتمّ “وضع بقايا القدّيسين والشهداء في أساسات الكنيسة الجديدة وكذلك في المائدة. هذه نجعل فيها حفرة صغيرة نضع فيها هذه البقايا عند تكريس كنيسة ثمّ تغطّى المائدة بالأغطية”. ويختم المطران خضر حديثه عن هذا الموضوع بالتأكيد على أنّ “رفات القدّيسين ليست مجرّد عظام. إنّها جسمُ مَن حلّ عليه القدس، جسم تائق إلى القيامة”[2].

أمّا عن الشروط الواجبة لإعلان قداسة أحد المؤمنين المشهود لهم بالاستقامة، فليس ثمّة قرار رسميّ تتّخذه الكنيسة الأرثوذكسيّة بعد مسار من التحقيقات والاستقصاءات والاستجوابات. بل يعود إلى كلّ كنيسة محلّيّة “إعلان قداسة”، أو “تمجيد”، القدّيس الجديد. ذلك أنّ القدّيسين يبدأ إكرامهم من الشعب الذي ينادي بهم ويكرّمهم ويزور مقابرهم، ثمّ تعترف الرئاسة الروحيّة بصحّة هذه الحركة الشعبيّة، فتعلن قداسة الشخص المعني. والجدير بالذكر أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة لا تشترط الأعجوبة معيارًا للقداسة، لكن لا بدّ من التدقيق بشيئين، كما يقول المطران جورج خضر[3]:

أوّلهما: أن يكون، المطلوب تطويبه مستقيم الرأي، هذا إذا كتب، فمَن انحرفت آراؤه لا يمكن إعلان قداسته ولو كان – حسب سلوكه الظاهر – صالحًا.

ثانيهما: أن يكون عظيم الفضائل لم يُنسب إليه ارتكابٌ.

عند الحديث عن الشهادة المسيحيّة لا بدّ من استذكار محوريّة الصليب ومركزيّته في حثّ المسيحيّين على الشهادة للحقّ والنأي بأنفسهم عن الشهادة للزور والبهتان. فالصليب هو زبدة تعاليم المسيح وخلاصتها، ولا يستقيم السلوك المسيحيّ من دون القبول بالصليب معيارًا وحيدًا للحياة الدنيا، والدرب الوحيد إلى الكمال المدعو إليه المؤمنون بالمصلوب والقائم من بين الأموات. لذلك، ليس الصليب مجرّد شعار نرفعه هنا وثمّة، بل هو نهج حياة واقتداءً بسيرة السيّد المسيح من ألفها إلى يائها.

 

[1]  سِيَر القدّيسين وسائر الأعياد في الكنيسة الأرثوذكسيّة (السنكسار)، منشورات عائلة الثالوث الأقدس في دوما، الجزء الأوّل، 1992، ص 11.

2 المطران جورج خضر، سنة الربّ المقبولة، منشورات مطرانيّة جبل لبنان للروم الأرثوذكس، 2000، ص 13-14.

3 المطران جورج خضر، المرجع السابق، ص 11-12.

الأب جورج مسّوح

“النهار”،12 آب 2017

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share