المسيحيّة في بلادنا متى تزول ؟

الأب جورج مسّوح Saturday August 26, 2017 165

هل المسيحيّة في بلادنا إلى زوال؟ سؤال عالجناه آنفًا في مقالات عدّة. لكنّنا، اليوم، نعود إليه من باب نظرة المسيحيّين إلى أنفسهم وإلى شهادتهم في عالم اليوم. لن نكرّر ما قلناه عن إسهام الركود الاقتصاديّ وتنامي الإسلام المتطرّف ونشوء دولة إسرائيل في تقهقر أعداد المسيحيّين، بل سنكتفي بالإشارة إلى بعض الظواهر التي برزت مؤخّرًا في سلوك المسيحيّين وموقفهم من القضايا الراهنة.

الظاهرة الأمّ التي تنبثق منها الظواهر الأخرى كلّها هي إهمال المسيحيّين لما هو جوهريّ في المسيحيّة، والاكتفاء بما هو غير جوهريّ فيها. ولا نقصد بالجوهريّ المسائل العقائديّة الأساسيّة التي تميّز المسيحيّين عن سواهم، أو تلك التي تميز المسيحيّين بعضهم عن بعض وفق انتماءاتهم المختلفة، بل نقصد جوهر تعليم يسوع المسيح الأخلاقيّ والحياتيّ.

إذا شئنا توصيف المسيحيّة بإيجاز، لقلنا إنّها اقتداءٌ بيسوع المسيح في الحياة اليوميّة وفي الاهتمام بالإنسان بعامّة، والمحتاج بخاصّة. تأتي المحبّة في جوهر هذا الجوهر، فالمسيح نفسه جعلها وديعته الوحيدة لدى تلاميذه، بل جعلها الدليل الوحيد على مسيحيّتهم فإنْ فقدوها فقدوا انتماءهم إليه، وتاليًا إلى المسيحيّة: “بهذا يعرف الجميع أنّكم تلاميذي: إنْ كان لكم حبٌّ بعضًا لبعض” (يوحنّا 13، 35).

أن يبتعد المسيحيّون عن هذا الجوهر في مواقفهم الأخلاقيّة، لأسباب سياسيّة أو وطنيّة أو اقتصاديّة أو طائفيّة، إنّما هو الظاهرة المثيرة للقلق أكثر من سواها. فسيّان أن يزول المسيحيّون جسديًّا أو أن يزولوا روحيًّا. فما معنى بقاء مسيحيّين لا يقتدون بالمسيح ولا يقيمون للإنجيل وزنًا إلاّ حين يوافقهم؟ “بهذا يعرف الجميع أنّكم تلاميذي”، فهل يُعرف المسيحيّون بسلوكهم، أم بأسمائهم وأسماء عائلاتهم وحسب؟ ألا يمكننا القول إنّ المسيحيّة زالت من بلادنا على الرغم من بقاء مسيحيّين لا يرضون الحياة وفق ما يريد المسيح؟ هل يبقى المسيحيّ مسيحيًّا إذا قال إنّ الإنجيل ليس أوانه الآن؟

ما نشهده حاليًّا يجعلنا نؤكّد على القول إنّ فقدان الجوهر الأخلاقيّ لدى المسيحيّين إنّما هو العامل الأكثر فاعليّة في زوال المسيحيّة. ودونكم هذه الظواهر التي تقدّم نماذج عن الانحرافات السلوكيّة التي تثير القلق في شأن مستقبل المسيحيّة في بلادنا:

  • عندما يصفّق المسيحيّون لأنظمة جائرة متذرّعين بإنّها تحميهم من خطر أكبر، كما لو أنّ المسيح اختار بين السيء والأسوأ. السيء والأسوأ سيّان!
  • عندما تصبح “حقوق المسيحيّين” أهم من “حقوق الإنسان”.
  • عندما تصبح “حقوق المسيحيّين” أهمّ من “حقوق المسيح”. “حقوق المسيح” ليست سوى احتضان الفقير وإطعام الجائع ومساعدة المرضى وإيواء الغريب… أمّا “حقوق المسيحيّين” فلا تُعنى إلاّ بحقوق الأثرياء، أو المرشّحين لأن يصبحوا أثرياء، من رتبة “مدير عامّ” وما فوق.
  • عندما يدعم المسيحيّون سياسة التمييز بين خلق الله، مخالفين بديهيّات تعاليم يسوع المسيح.
  • عندما يتماهى الانتماء الكنسيّ بالانتماء الطائفيّ.
  • عندما يصبح قبر المسيح أهمّ من بقاء أبناء فلسطين في وطنهم.
  • عندما يصبح رفع الصلبان والتماثيل الضخمة على قمم الجبال أهم من استثمار أراضي الوقف الكنسيّ لدعم بقاء الناس في البلاد ضدّ إغراءات الهجرة.
  • عندما يتوهّم بعضهم استعادة كنيسة آيا صوفيا في القسطنطينيّة، ويتغافل في الآن عينه عن دعم الصامدين في بلداتهم كي لا يحصل معهم ما حصل مع أهل القسطنطينيّة!

نعم، المسيحيّة في بلادنا إلى زوال إذا أهملنا هذا الجوهر الأخلاقيّ لتعاليم يسوع المسيح. “لا تخافوا ممّن يقتلون الجسد ولا يستطيعون قتل النفس، بل خافوا ممّن يقدر أن يهلك الجسد والنفس معًا في جهنم” (متّى 10، 28). أين نحن من هذا القول؟

الأب جورج مسّوح

“النهار”،26 آب 2017

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share