الشعبويّة الكنسيّة آخر البدع !

الأب جورج مسّوح Saturday October 7, 2017 148

بعد أن أفسدت الشعبويّة السياسيّين والجماهير المنقادة إليهم، دخلت الشعبويّة الحقل الكنسيّ وبدأت بإفساده. والمقصود بالشعبويّة هو استغلال الغرائز والمشاعر الطبيعيّة اللاعقلانيّة لكسب الشعبيّة والمجد الشخصيّ. في السياسة، مثلاً، يمكننا القول إنّ العامل الأبرز الذي يدغدغ الجماهير إنّما هو الطائفيّة، فترى السياسيّين يُقحمون المطالب الطائفيّة في خطاباتهم التجييشيّة، وبخاصّة في مواسم الانتخابات والتعيينات في الدولة.

وصل الوباء إلى الحقل الكنسيّ العامّ، ولا نقول وصل إلى الكنيسة. فالعديد من الأرثوذكس، إكليريكييّن وعلمانيّين، باتوا يستعملون الخطابات الناشزة الغريبة عن اللغة الكنسيّة الحريصة على وحدة الكنيسة، وحسن سير العمل السليم فيها، وخدمة المؤمنين… وبات هؤلاء يبحثون عن انسياق الجماهير إلى اتبّاعهم واتّباع أفكارهم، لا إلى الاقتداء بيسوع وتنفيذ تعاليمه. بات يبحثون عن محبّة الناس لهم، لا محبّة يسوع وكنيسته. هم باتوا يناقضون قول القدّيس يوحنّا المعمدان عن المسيح: “لا بدّ له من أن يعظم، ولا بدّ لي من أن أصغر” (يوحنّا 3، 30). هم يعظّمون أنفسهم على حساب يسوع المسيح وباسمه ومن منبر التعليم في الكنيسة. هذه هي الشعبويّة الدخيلة على الحقل الكنسيّ. تصبح الخدمة الكنسيّة خدمة لصورة الذات ولاكتساب الشعبيّة.

فعلى سبيل المثال، ثمّة كاهن مخلوع وانضمّ إلى جماعة غير معترف بها من الكنيسة الأرثوذكسيّة، نشر تسجيلاً ونشره على مواقع التواصل، وهو مليء بالشتائم الموجّهة إلى المطارنة الأرثوذكس متّهمًا إيّاهم بالفساد والنفاق… كما صدر حكم بحقّ أحد رؤساء الأديار فتسابق أتباعه إلى شتم البطريرك والأساقفة والكهنة، جاعلين منه قدّيسًا معصومًا عن الخطأ… ثمّ ثمّة  كهنة يرغبون بتأدية دور النبيّ والثائر في الكنيسة، فيقدّمون أنفسهم مصلحين في الكنيسة، فيما هم، في ما يقومون به من دور مبتذل، دون قامة “دون كيشوت” في عيشهم بالأوهام ومحاربة طواحين الهواء.

هذان المثلان هما دليل ساطع على هذه الشعبويّة اللئيمة. فكيف يمكن الأرثوذكس أن يشتموا أو أن يستحسنوا شتم أعضاء مجمعهم المقدّس؟ كيف يمكنهم أن يرضوا بشتم آبائهم؟ لهم الحقّ بانتقادهم أو بتوجيه الأسئلة إليهم، بلغة تليق بالمؤمنين كأبناء لا كغرباء يرشقون الكنيسة وقادتها بأقذع الألفاظ. هذه الشعبويّة البغيضة باتت مرضًا قاتلاً وخطرًا داهمًا يهدّد الكنيسة من داخلها… ولذلك لا بدّ من استئصال هذه الظاهرة بمواجهتها، لا بأسلحتها بل بما يليق بتلاميذ يسوع من محبّة وصلاة وصوم.

يسعنا القول أنّ هذه الشعبويّة نوع من أنواع البدع التي سوف يقضى عليها كما قضي سابقًا على الكثير من البدع. هذه البدعة التي تغيّب يسوع عن حياة الكنيسة لمصالح شخصيّة سبّبتها بعض القرارات الكنسيّة بحقّ الشخصيّات التي تلجأ إلى التأثير السلبيّ على المؤمنين وجرّهم إلى مواقف مستهجَنة. قرارات كنسيّة أبعدتهم عن مواقع كنسيّة كانوا يستعملونها لبناء مجدهم الشخصيّ، ولو كانوا ما زالوا يشغلون مواقعهم السابقة لما كانوا لجأوا إلى الشتم بدافع الانتقام والحقد والضغينة تجاه مَن يعتبرونهم المسؤولين عن القضاء على مجدهم الشخصيّ مع بقاء صورتهم البهيّة. فقدوا مجدهم وصورتهم، فما بات أمامهم سوى الشتم، فكلّ إناء ينضح بما فيه.

الكنيسة أقوى من يؤثّر فيها الأبطال المرضى بأوهام العظمة. الأذكى منهم، كبار الهراطقة، قضي على تعاليمهم، واستمرت الكنيسة بقوة الروح القدس العامل فيها. الشعبويّة، آخر البدع، سوف تمضي كالغبار الذي يذرّيه الريح، وسوف تبقى الحكمة الكنسيّة التي يتحلّى بها المجمع المقدّس والمؤمنون أقوى من هذه الهذيانات والمماحكات.

الأب جورج مسّوح

“النهار”،7 تشرين الأول 2017

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share