ليلة القبض على يسوع وتسليمه إلى الصلب، أمضى ليلته يصلّي في بستان اسمه جتسيماني، وقد رافقه في سهرته تلك الثلاثة التلاميذ الذين شهدوا مجده في التجلّي بطرس وابنا زبدى. لكنّ التلاميذ استغرقوا في النوم، أمّا يسوع فسهر وصلّى منفردًا منتظرًا ساعة القبض عليه. ثمّة قولان ليسوع في هذه السهرة الصلاتيّة ينبغي التوقّف عندهما.
قال يسوع للثلاثة التلاميذ الذين كانوا حاضرين معه: “نفسي حزينة حتّى الموت.انتظروا هنا واسهروا معي” (متّى 26، 38). لماذا كان يسوع حزينًا حتّى الموت؟ جواب القدّيس هيلاريون أسقف بواتييه على هذا السؤال واضح وصريح: “قال لهم يسوع: “نفسي حزينة حتّى الموت”. هل قال: نفسي حزينة من الموت؟ حتمًا لا. حزنه هو لسبب آخر… كان قد قال لهم: “في هذه الليلة ستتخلّون عنّي كلّكم” (متّى 26، 31). علم أنّهم سيضطربون ويهربون وينكرونه… لذلك خاف أن ينكروا لاهوته متى شاهدوه مضروبًا ومبصوقًا عليه ومصلوبًا”. واضح، إذًا، أنّ حزن يسوع سببه إنكار الناس جميعًا، بمَن فيهم التلاميذ، وابتعادهم عنه ساعة البلاء: بطرس الأقرب إليه أنكره وهرب، وتخلّي الرسل كلّهم عنه، رفض الشعب اليهوديّ له، ارتداد أورشليم المفجع…
أمّا الآية الثانية، والأهمّ من الأولى، حيث يسوع يتوجّه إلى الآب بالصلاة قائلاً: “يا أبتِ، إنْ شئتَ فاصرفْ عنّي هذه الكأس. ولكن لا مشيئتي، بل مشيئتك” (لوقا 22، 42). يعلّق القدّيس كيرلّس الإسكندريّ على هذه الآية بقوله: “لا يمكن أن يُعزى ألم الحزن، أو الأسى أو الضيق، إلى طبيعة الكلمة الإلهيّة، التي لا تتألّم. إنّها تسمو على كلّ ألم. نقول إنّ الكلمة المتجسّد سُرَّ أن يُخضع ذاته إلى مستوى الطبيعة البشريّة، قابلاً الألم الملازم لها… لقد أخضع نفسه لضعف الجنس البشريّ لئلاّ يبدو رافضًا مقتضيات الوقت الحاضر. خضع للعادات والقوانين البشريّة من دون أن يحتملها بطبيعته الإلهيّة”.
عندما يحكى عن طبيعتَي الإلهيّة والبشريّة وعلاقتهما إحداهما بالأخرى في جسد يسوع الواحد، نكون قد دخلنا لبّ النقاش في الإجابة على التشكيك بمسألة طلب يسوع بصرف الكأس عنه. وقد تناول العديد من الآباء هذا العلاقة، وكان ثمّة إجماع على أنّ يسوع كان يتألّم ويطلب إلى الآب صرف الكأس عنه “بطبيعته البشريّة” التي من أجلها تنازل وأفرغ ذاته كي يصير إنسانًا كاملاً، يحيا على الأرض ككلّ البشر “ما خلا الخطيئة”. ويضيف الآباء أنّ المسيح ذا المشيئة الإلهيّة لن يتألّم على الصليب فطبيعته الإلهيّة منزّهة عن الألم. ما أراده المسيح بقوله هو أن يتألّم حقًّا بطبيعته البشريّة، وهو قد اختار ذلك منذ تجسّده، وليست الآن ساعة الهرب. لذلك طلب إلى الآب، كونه إنسانًا، صرف الكأس عنه. مشيئة المسيح الإلهيّة ومشيئة الآب كانتا منسجمتين في كلّ شيء، لكن المشيئة البشريّة بالمسيح هي التي كان يعتريها بعض التردّد، سرعان ما تحوّل إلى خضوع للمشيئة الإلهيّة.
يقول القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلانو: “المسيح لم يحزن لنفسه، بل حزن لأجلي. وضع جانبًا المسرّة بلاهوته الأزليّ، ليحتمل ضعفي. اتّخذ حزني ليمنحني فرحه. انحدر إلى آثار أقدامنا، وإلى معاناة الموت ليعيدنا إلى الحياة باقتفائنا آثار قدميه. اذكرْ واثقًا الحزن، لأنّني أبشر بالصليب. لم يُشبَّه لنا أنّه اتّخذ جسدًا، بل صار بشرًا حقًّا. لذا كان عليه أن يتّخذ الحزن ليتغلّب عليه”.
ما صنعه يسوع لنا عظيم جدًّا، لقد تنازل واتّخد إنسانيّتنا من دون نقصان. أن ترفض هذا التنازل فهذا يُسمّى بخلاً وجحودًا، أمّا أن تقبل هذا التنازل كي ترفع إنسانيّـتك فهذا هو الكرم الحقيقيّ. أن نُخضع مشيئتنا البشريّة للمشيئة الإلهيّة، “لتكن مشيئتك على الأرض كما في السماء”، لا يمنعنا من أن نطلب دائمًا صرف الكأس عنّا. لكن لا يمكن الإنسان أن يطلب صرف الكأس إلى الأبد، لأنّ ذلك أمر حتميّ. فما على الإنسان إلاّ قبول هذه الكأس ساعة تحلّ، لأنّ الحياة تستمرّ، فيما هذه الدنيا تنتهي غير مأسوف عليها.
الأب جورج مسّوح
“النهار”،25 تشرين الثاني 2017