الحرّيّة بابًا إلزاميًّا للاجتهاد الدينيّ

الأب جورج مسّوح Saturday December 9, 2017 311

لا بدّ، قبل المباشرة بقراءة هذه المقالة، من ملاحظة منهجيّة وعلميّة كي لا يقع القارئ في الالتباس والشكّ في رأي الكاتب. وهذه الملاحظة تكمن في التمييز ما بين المدوّنات الفقهيّة المجمع عليها لدى المسلمين السنّة من جهة، ولدى المسلمين الشيعة من جهة أخرى، واعتمادها مراجعَ لا يجوز تجاوزها في إصدار الأحكام وإبداء الآراء ؛ وما بين الآراء السياسيّة أو المبادرات الحواريّة التي تسمح لنفسها بإبداء الانفتاح في قضايا قد لا تقبلها المدوّنات الفقهيّة.

مع احترامنا للبيانات الفائضة بالانفتاح التي صدرت مؤخّرًا عن بعض المرجعيّات الكبرى في الإسلام أو عن لقاءات إسلاميّة مسيحيّة، والتي تناولت قضايا أساسيّة ما زالت مطروحة على بساط البحث: المواطنَة لكلّ أبناء الوطن الواحد، الدولة الدستوريّة، المساواة ما بين المسلمين والمسيحيّين في الحقوق والواجبات، تطبيق الشريعة الإسلاميّة أو اعتبارها مع القرآن المصدر الإساسيّ للتشريع… إلاّ أنّنا لن نتناول، هنا، المبادرات السياسيّة المتّصلة بموضوعنا هذا لأنّها غير ثابتة ومتبدّلة مع تبدّل الأهواء والظروف. والمواقف السياسيّة المتذبذبة لا يعوَّل عليها في المقام الدينيّ والفقهيّ، بل ما يعوَّل عليه إنّما هو الاجتهاد في النصوص الفقهيّة عبر تأصيل هذا الانفتاح السياسيّ في الفقه الدينيّ واعتماده مرجعًا دائمًا في بناء العلاقات الجيّدة مع شركائهم في الوطن الواحد.

للمسلمين، وحدهم، أن يفكّروا في مسائلهم الفقهيّة وكيفيّة الاجتهاد فيها. لكنّ كوني معنيًّا، بصفتي مسيحيًّا أسكن في بلاد ما زالت فيها بعض القضايا الفقهيّة المتعلّقة بوضع المواطنة والمساواة، وبوضع أهل الكتاب القانونيّ في ظلّ الدولة المحكومة بالشريعة الإسلاميّة الذي ما زال واضحًا لم يتغيّر منذ قرون، أراني أجرؤ على مناقشة قضايا فقهيّة حصريًّا ضمن هذا الإطار.

المعضلة الأولى التي تحول من دون الاجتهاد في هذه القضايا إنّما هي في معظم الأحيان خضوع المرجعيّات والمفتين للنظام القائم إلى حدّ انعدام الحرّيّة، لدى العديد منها، وإذا انعدمت الحرّيّة فلن يمكن إجراء إصلاحات على أيّ صعيد. سبيل الأنظمة هو دعم المنظّمات المتشدّدة لذلك نرى معظم المفتين في العالم العربيّ خاضعين لسلطة النظام أو “السيّد الرئيس” ليس لهم سوى تمجيد كراماته والعمل على إصدار فتاوى يطلبها منهم، فيذهبون إلى انتقاء بعض الآيات والأحاديث وربطها بعضها ببعض، ويصدرونها وإنْ خالفت بعض قناعاتهم.

المعضلة الثانية وهي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمعضلة الأولى: التماهي ما بين الدولة، وإنْ لم تكن إسلاميّة لكنّها تعتمد القرآن مصدرًا أساسيًا للتشريع، والمؤسّسات الدينيّة القائمة. الحرّيّة التي يمكن أن تكسبها المؤسّسات الدينيّة تمرّ حتمًا بإبعاد السلطة السياسيّة عن التدخّل في الشؤون الدينيّة، وقد تؤدّي إلى اجتهادات يعوّل عليها من أجل المستقبل. أين الضرر، إذًا، في مسائل تخصّ حصرًا الدولة والمواطنة، في فصل الدولة عن المؤسّسات الدينيّة؟ هذا السؤال يتبعه سؤال آخر لا يمكن الإجابة عليه أن تكون سهلة قبل قبول الفصل ما بين الدولة والمؤسّسات الدينيّة. أمّا السؤال الثاني فهو: لماذا الخوف من مسألة الفصل ما بين الدين والدولة؟

لا بدّ، أيضًا، من الإشارة إلى أنّ الآليات التقليديّة المستعملة في عمليّة الاجتهاد ما عادت وحدها تكفي، بل تجب الاستعانة بالعلوم الاجتماعيّة والسياسيّة والفلسفيّة والنقد التاريخيّ وما قدّمته على صعيد الدولة الحديثة والمواطنة الكاملة. وهذا الأمر يتطلّب حرّيّة لا حدود لها في التعامل مع النصوص، ضمن قاعدة احترام ما تمّت ممارسته آنفًا والسعي إلى تنفيذ ما تمّ إقراره من اجتهادات جديدة قد تساهم في إنشاء نظرة مغايرة لأمرين أساسيّين في بناء علاقات فضلى مع شركائهم في الوطن الواحد: الدولة والمواطنة.

الأب جورج مسّوح

“النهار”،9 كانون الأول 2017

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share