ثمّة هاجس استولى على المسيحيّين يتّصل باستمراريّتهم في بلادنا، حتّى صار مسموحًا لديهم أن يفعلوا ما يشاؤون، ولو ضدّ التعاليم البديهيّة للسيّد المسيح، في سبيل الدفاع عن وجودهم. أدّى هذا التناقض ما بين الحفاظ على التعليم وممارسته في الحياة اليوميّة من جهة، والحفاظ على الوجود الجسديّ مع إهمال التعليم من جهة أخرى، إلى أزمة إيمانيّة وفكريّة يمكن إيجازها بالسؤال: كيف لنا أن ندافع عن وجودنا مع الأمانة للمسيحيّة الحقّ؟ سوف نعرض لمثلين تاريخيّين عن تصرف المسيحييّن في عصور الاضطهاد وفي عصور ابتعادهم عن ممارسة السلطة الزمنيّة.
في نهاية القرن الميلاديّ الثاني وجّه كاتب مسيحيّ مجهول إلى امرئ وثنيّ اسمه ديوغنيطُس رسالةً دفاعيّة عن المسيحيّة، قال له فيها: “ألا ترى كيف يرمون بالمسيحيّين إلى الوحوش ليرغموهم على نكران السيّد (المسيح) فلا ينغلبون؟ ألا ترى أنّه كلّما كثر الشهداء كثر المسيحيّون؟”. ويضيف كاتب الرسالة قائلاً إنّ المسيحيّين لا يحقّ لهم، وإن كانوا مجتمعًا صغيرًا، أن ينعزلوا في غيتوات، إذ إنّهم في وسط العالم يخصبونه مثل القوّة التي تبثّها النفس في الجسد.
هذه الرسالة التي دُوّنت في أوج عصر الاضطهاد الذي مارسته الإمبراطوريّة الرومانيّة ضدّ المسيحيّين، تعبّر خير تعبير عن ذهنيّة مسيحيّة متجذّرة في الإنجيل. فالاضطهاد لم يثنِ المسيحيّين عن الإيمان، بل زاد عددهم. لم يتملّك الخوف من نفوس المقبلين على الاضطهاد ولم يثبط من عزيمتهم، بل زادهم إصرارًا على صواب معتقدهم ورجائهم بالحياة الأبديّة. فاقبلوا على الاستشهاد كمَن يقبل على الحياة الحقّ. لذلك سمّي هذا العصر بالعصر الذهبيّ للمسيحيّة.
لم يمالئ المسيحيّون الأباطرة والولاة والحكّام. لم يهادنوا نيرون أو ماركوس أوريليوس أو ديوكليسيانوس، ولم يتعاونوا معهم، ولم يخضعوا لسلطانهم. ولم يتوانَ بعض رجال البلاط الرومانيّ وبعض الضبّاط والجنود ممّن أشهروا مسيحيّتهم عن التخلّي عن وظائفهم ومصادر رزقهم كي لا يخدموا دولةً ظالمة، فأقدموا على الاستشهاد بعد أن تخلّوا عن أسلحتهم التي كانوا يقدرون على القتال بها، ليشهدوا للربّ وكنيسته. هكذا انتصر بطرس الرسول، صيّاد السمك، وبولس الرسول على نيرون وحاشيته. هكذا انتصرت الكنيسة على الإمبراطوريّة.
تراجع المسيحيّون عن هذا المنهاج في كلّ الحقب التي تحالفت فيها الكنيسة مع الأباطرة وسلاطين هذا العالم، منذ عهد قسطنطين الكبير (توفّي 335) إلى أيّامنا هذه. وقد تأسّس النمط الرهبانيّ بعيد انقضاء عصر الاضطهاد، استنكارًا لهذا التناغم الذي قام بين السلطتين الدينيّة والزمنيّة. فانتقد بعض الكتّاب المسيحيّين اعتناق العديدين المسيحيّة لمجرّد أنّها أصبحت دين الدولة الرسميّ على عهد الإمبراطور ثيوذوسيوس الكبير عام 381، كما انتقدوا أن تكون المصالح الشخصيّة والانتفاع من مناصب الدولة هي الدافع لاعتناق المسيحيّة.
في العصور الإسلاميّة لم يتولَّ المسيحيّون شؤون الدولة، ومع ذلك استمرّ حضورهم الفاعل ولم يشكّل العدد هاجسًا لهم. وهنا لا بدّ من ذكر شهادة الجاحظ (توفّي 868) الذي يستغرب في كتابه “الردّ على النصارى” كيف يتكاثر المسيحيّون على الرغم من “أنّ كلّ جاثليق لا ينكح، ولا يطلب الولد، وكذلك كلّ مطران وكلّ أسقف، وكذلك كلّ أصحاب الصوامع والمقيمين في الديورات، وكلّ راهب في الأرض وراهبة مع كثرتهم. وأنّ مَن تزوّج منهم امرأة لم يقدر على الاستبدال بها، ولا على أن يتزوّج أخرى معها، ولا على التسرّي عليها. وهم مع هذا قد طبّقوا الأرض وملأوا الآفاق وغلبوا الأمم بالعدد وبكثرة الولد”.
هذان المثلان يمكن أن نضيف عليهما الكثير من الأمثلة الأخرى التي تؤكّد أنّ القوّة أو السلطة ليستا هما الطريق الفضلى للحفاظ عن الوجود المسيحيّ. قال الربّ: “لو كنتم من العالم لكان العالم يحبّ ما هو له، لكن لأنّكم لستم من العالم بل أنا اخترتكم من العالم لأجل هذا يبغضكم العالم” (يوحنّا 15، 19). مصير المسيحيّ الحقّ ألاّ يُرضي هذا العالم، بل أن يقف ضدّه وضدّ الأخلاقيّات التي تحكمه، والعودة إلى الجذور المسيحيّة وإلى العيش بمقتضاها.
الأب جورج مسّوح
“النهار”،27 كانون الثاني 2018