مارَس قبريانوس القرطاجيّ رعايته كأسقفٍ في زمنٍ من الاضطرابات و الانشقاقات فترَك لنا في رسائله أنواراً من شخصيّته الحكيمة التي تُلهم الوحدة والسّلام عبر منهجِ ينضَح منه الإيمان بالأخوّة في الكنيسة. فبالنسبة له الكنيسة جماعةٌ من الإخوة. شعبُ الله – يقول- لا يمكن أن ينقسم كما أنّ رداء المسيح غير المخيط لا يمكن أن يتمزّق : فهو، كنسيجٍ واحدٍ، يصوِّر وحدة الشّعب الذي لبس المسيح. “عبر سرّ ردائه ورمزه، كشَف المسيح وحدة الكنيسة”. طبعا تأتي هذه الوحدة “من السّماء والآب”. غير أنّ لها ترجماتها على الأرض : فيتكلّم الأسقف قبريانوس على علاقة القربى والحميميّة بين الرّاعي و قطيعه وعلى مائدة العشاء الفصحيّ التي يأكلها الشّعب “في بيتٍ واحد” (خروج 12 : 46 ). يتمّم هذه الوحدة الرّوح القدس الذي يأتي أحيانًا على شكل حمامة: فالحمامةُ “حيوانٌ بسيط وفرح، لا مرارة فيه، و غيرُ قادر على التّسبب بلدغاتٍ وحشيّة… يحبّ ضيافة البشر ويحيا في حميميّة بيت واحد”.
يستخدم قبريانوس الأسقف في عدد من رسائله مفردات تخصّ التشاور والإصغاء إلى الكهنة والعلمانيين أي كلّ الإخوة في الكنيسة. فيقول في رسالته 17 الموجّهة إلى ” الإخوة من الشّعب المؤمن” ، متكلّمًا عن بعض السّقطات والانشقاقات : “عندما نعود إلى الكنيسة وقد أعطانا الرّب السّلام لنا كلّنا، سنفحصها واحدة واحدة، بمؤازرتكم وإبداء آراءكم”. ويستعمل في هذه الجملة مفردة تتقاطع، بصورة مفاجئة، مع مفاهيمنا المعاصرة للتصويت الديمقراطي. وفي رسالته 14، الموجّهة إلى الكهنة والشّمامسة، يقول : ” أمّا في ما يخصّ الأمور التي كتب لي عنها إخوتنا في الكهنوت …فلم أستطع أن أجيب عنها وحدي، فإني وضعت لنفسي قاعدةً، منذ بدء أسقفيّتي، ألاّ أقرر شيئًا من دون نصحكم وإبداء آراء الشّعب”. يظهر في أماكن أخرى من الرسائل أنّ قبريانوس يعطف آراء الشعب المؤمن على حكم الله، وأنّ رفضها يعادل بالنسبة له رفضًا لحكمِ الله من قبل المهرطقين أو الظّالمين.
سعى الأسقف قبريانوس إلى بثّ السلام والنّظام والوحدة في الكنيسة، ليس بناءً على تنظيم اصطناعيّ ولا على السّلطة، بل على الإيمان و المحبّة بين الإخوة التي كان لها نموذجًا وأيقونة. لقد جمَع الوداعة إلى الشهادة للحقّ ولم يفرض آراءه كمعصوم ٍعن الخطأ. كان أسقفًا في قلب الكنيسة لذلك كانت الكنيسة فيه. لم يختزل الكنيسة في شخصه بل كان صورة وحدة الكنيسة وانسجام الإخوة فيها. ليس في كتابته أثرٌ لكنيسة معلِّمة و كنيسة متعلِّمة. بل كان يعلّم ويتعلّم ويدرس كلّ يوم ليصل إلى المسيح في كلّ ألَقِه وصفاء تعاليمه. فالمسيح هو راعي الرّعاة وهو الذي يسمّي خرافه بأسمائها ويقودها إلى مياه الحياة الأبديّة.
القديس قبريانوس نموذجٌ للأسقف الذي يصغي لما يقوله الرّوح للكنائس في كلّ عضوٍ من أعضاء الجسد الواحد وصورة عن الشخصيّة الحواريّة الحاضنة الرّاعية لكلّ الجماعة الإفخارستية في كلّ زمان.