في أبعاد صعود الربّ

الأب سمعان ابو حيدر Monday May 14, 2018 1624

«إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم» (يوحنا ٢٠: ١٧)

بهذه الكلمات العجيبة وصف الربّ القائم من بين الأموات سرّ قيامته لمريم المجدليّة – أمّا هي فكان عليها نقلها الى تلاميذه الذين كانوا «ينوحون ويبكون» (مرقس ١٦: ١٠). خاف التلاميذ وتعجّبوا لدى سماعهم هذه البُشرى التي تلقّوها بشكّ وعدم ثقة. لم يكن توما الوحيد الذي شكّ، بل كلّهم شكّوا، حتّى بطرس، الذي خرج من القبر مندهشًا فقد «مضى متعجّبًا في نفسه ممّا كان » (لوقا ٢٤: ١٢ ) لكن يبدو أنّ واحدًا فقط من الأحد عشر لم يُشكّك – يوحنّا، التلميذ الذي «كان يسوع يحبّه». وحده يوحنّا تلقّف سرّ القبر الفارغ للحال: «وَرَأَى فَآمَنَ» (يوحنا ٢٠: ٨).

لم يتوقّع تلاميذ المسيح قيامة الربّ. ولا النسوة توقّعن ذلك، بل بالغالب ظنّوا أن يكون جسده يرتاح ميتًا في القبر؛ فقد أتين القبر إلى «حيث وضعوه»، حاملات الحَنوط الذي أعددنه «ليأتين ويدهنّه». جلّ ما كان يشغل بالهنَّ السؤال: «مَن يُدحرج لنا الحجر عن باب القبر»؟ (مرقس ١٦: ١-٣؛ لوقا ٢٤: ١).

كمال معنى القيامة يكمن في صعود المسيح المجيد

لم يقم الرّب لكي يعود إلى نظام الحياة الجسديّ السابق، لا ليحيا من جديد لكي يشترك مع تلاميذه ومع الجموع بواسطة البشارة والعجائب. الآن، بعد قيامته هو لا يبقى معهم، ولكنّه صار «يظهر» لهم بطريقة عجيبة وسرّية، من وقت لآخر، طوال مدّة أربعين يومًا. هكذا يوضح القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم: «هو لم يعد معهم دائمًا كما في سابق عهده قبل القيامة»، ويضيف «كان يأتي ومن ثمّ يختفي، ليقودهم بذلك إلى إدراكٍ أسمى. هو لم يعد يسمح لهم الاستمرار بعلاقتهم السّابقة به، ولكنّه حرص على جعلهم يُدركون موضوعين أساسيّين: الإيمان بحقيقة قيامته؛ والادراك بأنّه، من الآن فصاعدًا، هو نفسه صار أعظم من البشر». صار ثمّة أمرًا جديدًا وغير اعتاديًا في شخصه الآن (يوحنا ٢١: ١-١٤). أو كما يوضح الذهبي الفم: «لم يعد حضوره مكشوفًا، ولكن نوعًا من الشهادة على حقيقة أنّه موجود». لم يقم المسيح بنفس الطريقة التي أُعيد بها إلى الحياة بعض الأشخاص الذي أُقيموا قبله، بالنسبة لهم كانت قيامتهم وقتيّة، لأنهم عادوا للحياة بنفس الجسد، عادوا عِرضة للموت والفساد إلى نظام الحياة السّابق. قام المسيح إلى الأبد، لن يعود للموت من بعد، قام بجسد مُمجّد لا يعرف الفساد. «يُزرع في فساد ويُقام في عدم فساد. يُزرع في هوان ويُقام في مجد. يُزرع في ضعف ويُقام في قوة. يُزرع جِسمًا حيوانيًا ويُقام جِسمًا روحانيًا» (١ كور ١٥: ٤٢-٤٤). قام المسيح إلى حالة من الوجود جديدة أسمى من الأولى. لذلك بصعوده الآن إلى أبيه، هو «لا يذهب» لا يغادرنا. هو يُصعد معه الأرض إلى السماء – يرتفع أعلى من أيّة سماء. «لم تظهر قوّة الله بالقيامة فقط ولكن بأمر أعظم» يضيف الذهبي الفم، «لأن المسيح ارتفع إلى السماء، وجلس عن يمين الله» (مرقس ١٦: ١٩).

مع المسيح تصعد طبيعة البشر أيضًا

«نحن الذين بدونا غير مستحقّين للأرض، رَفَعنا الآن إلى السماء» يؤكّد الذهبي الفم. «نحن الذين لم نكن مستحقّين سيادة الأرض، صعدنا إلى الملكوت العلويّ، صعدنا أعلى من السموات، أُعطي لنا عرش الملك؛ طبيعتنا التي طُردت قديمًا من الجنة ووُضعت الملائكة الحرّاس لمنعها من العودة، لم تُمنع الآن من الصعود إلى عرش الربّ». رَفَعنا الله، كما يؤكّد بولس الرسول: «وأقامنا معه، وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع» (أفسس ٢: ٦). «باكورة الراقدين» يجلس الآن في الأعالي، به تجتمع البشرية وتتّحد. «تفرح الأرض بالسّر، وتمتلئ السموات بالسرور».

الصعود هو علامة العنصرة ورمز حلولها

«صعد الربّ إلى السماء وسيُرسل الرُوح المعزّي للعالم». سبق الربّ وأخبر تلاميذه: «لأنّه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزّي» (يوحنا ١٦: ٧). لذلك، مواهب الرُوح هي «مواهب المصالحة»، وختم تمام الخلاص والاتّحاد المطلق بالله. يكمُن فرح الصعود بموعد الرّوح: «وفرّحتَ تلاميذك بموعد الرّوح القدس». يعمل انتصار المسيح فينا بقوة الرّوح القدس. من خلال التجدّد والتمجيد بالمسيح الصاعد إلى السموات، صارت الطبيعة البشريّة قابلة للرّوح القدس.

وجود الكنيسة بذاتها هو ثمرة الصعود الإلهي. ففي الكنيسة حقًا تصعد الطبيعة البشرية إلى الأعالي الإلهيّة (أفسس ١: ٢٢).

الصعود هو علامة المجيء الثاني ورمزه

«إن يسوع هذا الذي ارتفع عنكم إلى السماء سيأتي هكذا كما رأيتموه منطلقًا إلى السماء» (أعمال ١: ١١). سرّ العناية الإلهية يكمُل في عودة الربّ القائم من بين الأموات. ففي كمال الأزمنة تُعلن قوّة ملكوت المسيح وتُبسَط على كلّ البشر المؤمنين، يجعلهم المسيح ورثة لملكوته: «وأنا أجعل لكم كما جعل لي أبي ملكوتًا، لتأكلوا وتشربوا على مائدتي في ملكوتي، وتجلسوا على كراسي تدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر» (لوقا ٢٢: ٢٩-٣٠)، و«من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي، كما غلبت أنا أيضًا وجلستُ مع أبي في عرشه» (رؤيا ٣: ٢١).

في مواجهة هذا السموّ يقف كلّ جسد صامتًا بالرعدة والدهش. «هو نزل بنفسه إلى أسفل دركات الذلّ، وأصعد الإنسان إلى أرقى علوّ المجد».

كيف علينا التصرّف إذن؟ «أنت أيها المسيحي، إذا كنت جسد المسيح، احمل الصليب، لأنه حمَلَه أيضًا» (الذهبي الفم).

«بقوّة صليبك أيها المسيح، ثبّت قلبي، أيها المسيح، لكي أُنشد وأُمجّد صعودك المخلّص».

الأب سمعان ابو حيدر

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share