فَمَنْ أَنَا؟ أَقَادِرٌ أَنْ أَمْنَعَ اللهَ؟

الأب رامي ونوس Tuesday May 29, 2018 1403

في صلاة غروب عيد العنصرة تضع الكنيسة أوّل قراءةٍ من سفر العدد الاصحاح ١١ الآيات ١٥ و١٦ و٢٣-٢٨:

“وقال الرّب لموسى إجمع لي سبعين رجلاً من شيوخ الشّعب الذين تعرفُهم أنت أنّهم شيوخ الشعب وكتَّابهم وأوردهم إلى مضرب الشهادة ويقفون هناك معك. وسأنحدر وأتكلّم هناك معك وأنتزع من الرّوح الذي عليك وأضعها عليهم فيحملون معك ثقل الشعب ولا تحمل الثقل أنت وحدك . فجمعَ موسى سبعين رجلاً من شيوخ الشعب وأوقفهم حول المضرب . وانحدر الرّب في سحابةٍ وكلَّم موسى وانتزع من الروح الذي عليه ووضعه على السبعين رجلاً الشيوخ فمع ما استقرّ الروح عليهم تنبّأوا في المعسكر وما ارتدّوا أيضاً . وتخلَّف في المحلة أيضاً رجلان اسم أحدهما هلداد واسم الثاني موداد فاستقرَّ الروح عليهما وهما كانا من المكتوبين وما أتيا إلى مضرب الشهادة. وتنبّأا في المعسكر فبادر شابٌ وأخبر موسى قائلاً إن هلداد وموداد يتنبّئان في المحلّة . فأجاب يشوع بن نون الواقف لدى موسى المصطفى عنده وقال له يا سيدي موسى امنعهما. فقال له موسى هل أنت غيورٌ عليَّ من يخوّلني كلَّ شعب الرب أنبياءَ إذا بثَّ الرّب روحه عليهم.”

يلفتني في هذا المقطع المقدّس موقفان: الموقف الأوّل يمثّله يشوع بن نون الغيور على موسى وعملِه، والمطالب بوقف “العمل النبويّ” لهلداد وموداد لأنّهما لم يكونا ضمن الاجتماع الذي دعا إليه الله، ومع هذا حلّ عليهم روح الله وهما خارج مضرب الشهادة. أما الموقف الثاني فيعبّر عنه موسى النبيّ، وهو موقفٌ مغايرٌ بالكليّة لموقف يشوع، حيث نراه يتمنّى لو أن كلّ شعب الرّب كانوا أنبياء إذا جعلَ الرّبُ روحَه عليهم.

هذان الموقفان يختصران برأيي تاريخ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. فلطالما عبّر المؤسّسون بأنّ عملها هو من الرّوح القدس، وهي حركة الرّوح، ليس فقط لأنّ الرّوح يهبّ حيث يشاء، ولكن بالأحرى لأنّ مضمون رسالتها هو نبويٌّ بامتياز. فقارئُ الكتاب المقدّس يفهم أنّ عملَ الأنبياء كان تصويبَ رؤية شعبِ الله ومسؤوليه (خاصّة الملوك) بالدرجة الأولى، وكسر القراءة الحرفيّة للناموس وإحلال قراءة الرّوح مكانها. النبيّ لا يطالب بأيّ شيء له بل جلّ ما يفعله هو المطالبة بحق الله. ولطالما شكّك الكثير من “المسؤولين الكنسيّين” منذ نشأة الحركة وإلى اليوم بشرعيّة الحركة ، وكأنّي بهم يعبّرون عن موقف يشوع بن نون المطالب بإسكات كلّ من لم يكن “من الدّاخل”. وللحركييّن إخوتي أقول: الشرعيّة لا تأتي من صكّ أو أيّ نصٍّ آخر، بل من جرن المعموديّة كما يقول المطران جورج خضر.

خطورةُ موقف يشوع بن نون وأمثاله أنّهم يريدون أن يُقيَّد عملُ الله ويُحصَر ضمن جماعةٍ معيَّنة. هذا يعني أنّ “اليشوعيّين” بالعمق يريدون من الله أن يسيرَ بحسبهم لا أن يسيروا بحسب الله. لذا نسمعُ صوتَ موسى وهو “النبيّ بامتياز” يذكّرنا واليشوعيّين أن ليْتَ كلّ شعب الله يكونون أنبياء. والكلام الآن ليس موجّهًا إلى خارج الحركة فقط، بل بالدّرجة الأولى إلى الدّاخل، إذ قد يتناسى البعض أحيانًا أنهم يعبّرون عن موقف يشوع بطريقةٍ أو بأخرى.

الحركة إسمٌ، الحركيّون فعلٌ. وقد فعل الحركيّون ما فعلوه منذ البدء وإلى اليوم لأنّهم أسلموا ذواتِهم للرّوح القدس. هو حرّكهم وهم طلبوه ليحرّكهم. والرّوح القدس لا يتغيَّر بل يُغيّر. فإذا شاء البعض أن يقول إنّ الحركة تغيّرت هذا يعني أنّ الرّوح قد تغيّر، وهذا أمرٌ مرفوض. النّاس تتغيّر، هذا أمر جليّ. الناس تتراخى، هذا واضح. ولكن لا يعني أنّ الرّوح القدس انطفأ.

والقائلون إنّ الحركة لم تعُد كما كانت هم أشخاصٌ لا يعرفون الحركيّين بالعمق. يقرأون الاسمَ ويرفضون رؤية أفعال الرّوح. يريدون أن يروا الله في خيمتِه فقط وليس في كلمتِه. يفرضون على الله أن يتكلّم من مركزٍ معيّنٍ فقط ولا يسمعون التسبيح من أفواه الأطفال والرضّع. يرونه في مؤسّساتٍ ضخمةٍ تحمل إسمَ طائفةٍ معيّنة ويُعمون أبصارَهم عن العمل الجبّار للحركيّين المحرَّكين من الرّوح القدس (مثل مَن سبقهم) في مناطق فقيرة لتأمين المأكل والمشرب للمعوزين.

وثمّة من يعتبر أنّ الحركة “أضحت جسمًا متشظيًّا ضبابيَّ الرّؤيا ومطيّة لغير قليل من الوصوليّين”. إن هذه النظرة للحركة تحوي في طيّاتها خطورة غابت عن صاحبها كونه يطعَن ليس بالحركة بل بالكنيسة المقدّسة (لا أوازي هنا بين الحركة والكنيسة). ما أعنيه أنّ تاريخ الكنيسة حافلٌ بالسّقطات وبالوصوليّين في التاريخ القديم والحديث (ونفسُ التّاريخ حافلٌ بالقداسة أيضًا)، فهل أصبحت كلُّ الكنيسة ضبابيّةَ الرّؤيا ومطيّة لغير قليلٍ من الوصوليين؟ هل كانت الكنيسة في أنطاكية إبّان نشأةِ الحركة هكذا أم

أنّ معظم القيّمين عليها كانوا على هذا النحو؟ كلّا. هؤلاء الأشخاص فقط وليس الكنيسة. أليس هذا ما يُدرّس في صفوف الاكليزيولوجيا؟ بالعمق كلّ من يتكلّم عن الحركة هو ليس ضدّ الحركة، ولكن ضدّ سماع صوتٍ آخر غير صوته.

فلننتبه كلُّنا إذًا إلى ما حدَث مع بطرس الرّسول الإصحاح ١١:

“فَلَمَّا ابْتَدَأْتُ أَتَكَلَّمُ، حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْهِمْ كَمَا عَلَيْنَا أَيْضًا فِي الْبُدَاءَةِ. فَتَذَكَّرْتُ كَلاَمَ الرَّبِّ كَيْفَ قَالَ: إِنَّ يُوحَنَّا عَمَّدَ بِمَاءٍ وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتُعَمَّدُونَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ. فَإِنْ كَانَ اللهُ قَدْ أَعْطَاهُمُ الْمَوْهِبَةَ كَمَا لَنَا أَيْضًا بِالسَّوِيَّةِ مُؤْمِنِينَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، فَمَنْ أَنَا؟ أَقَادِرٌ أَنْ أَمْنَعَ اللهَ؟ فَلَمَّا سَمِعُوا ذلِكَ سَكَتُوا، وَكَانُوا يُمَجِّدُونَ اللهَ قَائِلِينَ: «إِذًا أَعْطَى اللهُ الأُمَمَ أَيْضًا التَّوْبَةَ لِلْحَيَاة»”.

نحن محصورون بالله أما الله فهو غير محصورٍ بأيّ جماعة.

الأب رامي ونوس

81 Shares
81 Shares
Tweet
Share81