في خاتمة إنجيل متى يطلق الرّب تلاميذَه قائلاً : “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم”. ما هي هذه التّلمذة ؟ وما هي تجلّياتها في التقليد حتّى نسعى إليها في حياتنا الجماعيّة اليوم؟
يعلّق القدّيس يوحنّا كاسيانوس على تحوّل شاول في أعمال الرّسل قائلاً : “عندما كلّم المسيح بولس وناداه ( على طريق دمشق)، كان قادرًا على أن يفتح عينيه مباشرةً، (…) ولكنّه أرسله إلى حنانيا ليتعلّم منه طريق الحقّ. بهذه الطريقة يعلّمنا الرّب أن نسترشد من المتقدّمين في هذه الطريق، حتى لا تفسَّر الرؤية الحقيقية لبولس تفسيرًا خاطئًا” ( رسالة الى أبّا ليونتيوس- الفيلوكاليا ). التلمذة هنا قائمةٌ على الأخوّة التي يبثّها الرّب نفسه في قلوب المؤمنين. “الطريق” إسم آخر للإيمان المسيحيّ في أعمال الرّسل، يمشي فيها الإخوة سويًّا جاعلين بعضهم بعضًا تلاميذًا للمعلّم السماويّ بمسحةِ الرّوح التي تُحيي فيهم الكلمة وتعلّمهم كلّ شيء. الجماعة الإفخارستية هي إذاً المناخ التي تُعاش فيها التلمذة للرّب. وفيها يتّضح دور العرّاب النّاقل إلى الموعوظ القابل المعموديّة طريق الإيمان. تمتدّ هذه الرؤية في رسائل الآباء الرّسوليين، فيقول مثلاً إغناطيوس الإنطاكيّ الذاهب إلى الموت : “الآن أبدأ أن أكون تلميذًا” و يتكلّم إكليمنضس عن اتّباع المسيح في “طريق الحقّ”. هذه تلمذةٌ تنمو في تربة علاقات المحبّة بين المؤمنين في جسد المسيح.
في أخبار آباء الصّحراء روح الإخاء نفسه في التلمذة. سأل راهبٌ الأنبا بيمن: “طلب بعض الإخوة أن يعيشوا معي. فهل تريدني أن أكون مسؤولاً عنهم؟ أجابه بيمن: كن لهم مثالاً وليس مشرّعًا” . التلمذة كما مارسها آباء الصحراء تتقاطع مع المرافقة بشكل خاص ونظام الأيقونة. في هذا المناخ لا يفرض المرافق قواعد وقوانين بل يقترح علاقةً أخويّة تقود إلى الله ، وينسجُ نصائحه على حسب حاجة التلميذ وظرفه ونموّه، بعد أن يتماهى مع حالته الداخليّة ومعاناته فيصبح قادرًا على الرّحمة. رفض آباء الصحراء في سلوكهم كلّ هيكليّات السلطة البشريّة. استقامةُ السلوك والالتزام الشخصيّ في حمل مشاكل التلميذ وتجاربه عنصران أساسيّان في منهجيّة آباء الصّحراء. المميّز في علاقة التلمذة في هذا التقليد أنّ التواضع في هذه العلاقة ليس أحاديّ الاتّجاه بل هو تواضعٌ متبادل : ارتمى الأنبا موسى عند قدمَي الأخ زكريّا الأصغر منه سنًّا يسأله: قل لي ماذا أفعل؟ فتعجّب الأخ الصغير من هذا الطلب تعجّبًا عظيمًا. فقال له الأنبا موسى: قد رأيت الرّوح القدس نازلاً عليك ومنذ ذلك الحين أنا ملزَم بأن أطلب منك النصح.
الروحانية نفسها نتلمّسها في علاقة التلمذة كما عاشها، في القرن العشرين، الأب صفروني (سخاروف ) الذي كان يردّد: “كلّ ما يُحقَّق بالفرض والقوّة والغصب مجرّدٌ من كلّ قيمة روحيّة، وثماره لن تحيا في أبديّة الله. فملكوت الله ملكوت الحبّ وليس ملكوت السلطة”. ولمـّا شاوره يومًا أحد النسّاك في الجبل المقدّس هل يقبل بطلب الإخوة في رئاسة ديرهم أجابه الأب صفروني: “بشرط واحد: أن تحفظ ترتيب الخدم الليتورجيّة وأن تترك الإخوة أحرارًا. يكفي أن تصلّي من أجلهم”.
أضاء هذا الإيمان بقدسيّة الشخص علاقات المرافقة والتلمذة والإرشاد في حياة الفرقة في حركة الشبيبة الأرثوذكسية، و تجسّدت في شخصيّات عرفناها كالأخ كوستي بندلي والمطران جورج خضر والأب الياس مرقص، وما زلنا نعاين يوميًّا هذه الأنوار في شباب يُتلمذون بعضهم بعضًا للشمس التي لا تغرب.
لقد وضع الله نفسه في تدبيره الخلاصيّ مكانَ الإنسان لتكون جاذبيّتُه بوصلة تحرّك الإنسان من الداخل، شريعةً مكتوبة في القلوب اللّحمية وليس على الحجر. تعاطفُ الله هذا يحكم علاقات الإخوة في الإرشاد والمرافقة والتلمذة. فالمحبّة تتأنّى وترفق. وإذا كان “بولس” قد غرَسَ و”أبلّوس” قد سقى (1 كو 3 : 5 ) فالله هو الذي ينمّي. وليس في النموّ اقتسار. الغارس والساقي “عاملان مع الله” ( 1 كو 3 : 9 ) وهذا يحتّم عليهما الجدّية الكاملة في تمحيص عملهما البشريّ بجميع الأساليب المتاحة في العلم وخبرة البشر في التربية والتواصل والمساندة كي لا يأتي عملهما عائقًا للنموّ. ويتوبان حتى لا تحول ضعفاتهما بين الإله الذي يحملانه، والناس حتى لا يتعرقل النموّ بشهوةٍ أو نزوةٍ أو كبرياءٍ من الغارس أو الساقي.
ولادةُ الشخص كائنًا فريدًا شركويًّا هو العلامة المميزة لعلاقة التلمذة في مجتمع العنصرة. ربّما تتوكّأ شخصيّة التلميذ أو المرافَق في مسيرته على هذا أو ذاك من الإخوة والمرافقين في الجماعة التي يعيش فيها. فيقلّد أو يتماهى بوعيٍ أو بغير وعي مع هذا أو ذاك من الإخوة. غير أنّ هذا يبقى محطّة من محطات النموّ وليس كلّ النمو. يحُكى عن القدّيس أنطونيوس أنّه عندما شارف على الموت سمع أخًا يقول عنه : لقد كان أنطونيوس عظيمًا كموسى. ففتح أنطونيوس إحدى عينيه وقال له : إنّك بعيدٌ عن الحقّ يا أخي. في الملكوت الآتي، لن يسألني الله : لماذا لم تكن كموسى ؟ بل سيسألني : لماذا لم تكن أنطونيوس.
علاقة التلمذة قائمةٌ على الشهادة. فالشّاهد الذي عاين مشهداً يصير مماثلاً له و أيقونةً ولكنّها أيقونةٌ فريدة والرّوح القدس نفسُه هو الذي يحفظ فرادَتَها. وإذا كان المعلّم نفسُه قد غسل أرجلَ التلاميذ من جروحها وكدماتِ ماضيها والزوايا المظلمة لينحتَ لكلّ تلميذٍ وجهَه الذهبيّ، فكلّ التلمذة هي في هذه الخدمة الدؤوب التي تنقُل قوّةَ المسيح الشافية إلى كلّ البشر وتكشف في كلّ وجهٍ أيقونة للنور.
جورج معلولي