تشهد كنيستنا نهاية هذا الأسبوع حدث تنصيب المتروبوليت سلوان (موسي) راعيًا لأبرشيّة جبل لبنان. هذا الاستحقاق، في بُعديه المحلّيّ والأنطاكيّ، ليس عاديًّا إذ به يُختَم عهد المطران جورج خضر راعيًا لكنيسة الجبل، وهو العهد الذي أرخى فيها وفي كنيستنا بعامّة تأثيرًا كبيرًا.
ربّما يظنّ كثيرون أن هذا التأثير مردّه إلى ما خصَّ به الله المطران جورج من نِعمٍ وإمكانات صدّرته قائدًا في ضمير الكنيسة على مدى عقود. ولكن، في قناعتي، أنّ هذا مرّده الأبلغ يعود إلى تخلّيه الكبير وتواضعه واعترافه بحرّية الأبناء في الكنيسة، أي، باختصار، إلى إيمانه بأنّ المجد هو لله ولكنيسته. مِن رحم هاتين السِمَتين برز المَعلَمان الأهمّ لتأثيره وهما الارتقاء الكهنوتيّ المشهود في الأبرشيّة، وانتشار حركة الشبيبة الأرثوذكسية، بِطاقاتها الكبيرة، فيها معَ ما يُضفيانه من مشهد شبابيّ التزاميّ ويُثمرانه من نهضة رعائية متعدّدة الوجوه. هذ من دون التغميض عن أيّ تقصير قد تسبّبه هفواتنا أو أثقال بشريّتنا التي لا تنتهي.
في يقيني أنّ الأسقف الجديد، وبتمايز المواهب الشخصيّة والوزنات، لا يقلّ تخلّيًا ووداعةً وحبًّا وثقةً بالربّ وانسحارًا بحروف الانجيل عن السلف. لعّل هذا يحجب ما يُطبَّل له ويُستَحضَر من تحدِياتٍ “كبيرة” أمامه في أسقفيّته، ويُبرِز صدارة التحدّي الواحد الذي يعني الودعاء في الربّ ومحبّيه أينما حلّوا. هذا التحدّي هو مدّ وداعة سيِدهم ومحبّته في حياة الكنيسة من زمان إلى منتهى الزمان. فالزمن الجديد، المُنتَظر حقيقةً والمرتجى في كنيسة الجبل، هو ذاكَ المشغول في حفظ ارث الكبير، الممهور بوزنات الراعي الجديد والممتدّة فيه وداعته وما ستُضيفه هذه الوداعة من لوحات تخطّ فيها حرّيّة الأبناء أجملَ رسوم التزام الكلمة.
إضافةً، وبعيدًا عن بعض النُصح الانتهازيّة التي شهدناها تنسلّ، مؤخّرًا، بغاية ذمّ المحبَّة في الكنيسة، من باب مدح الأسقف، فتلغو باتهامات ودعواتٍ عدائيّة ليس من صدى لها في الودعاء، يبقى في الحدث تلك الأبعاد الشاملة للمدى الأنطاكيّ خصوصَا في ظلّ واقعه، وأزماته، وحاجاته اليوم. فنحن نتحدّث، كذلك، عن مفصلٍ يتقاعد فيه أسقفُ ملأ الساحة الأنطاكيّة بصوت التعليم المُستقيم والنبوّة الصارخة اللافتة إلى إرادة الله في كنيسته. ولعلَّ هذه الأبعاد للحدث تُلهمنا وتُنبّهنا في مرحلة ما بعدَ المطران جورج خضر ومَن سبقه من الرفاق، كبار الكنيسة، إلى الآتي:
أوّلاً، حاجتنا إلى حفظ تعليم الرسول لنا، في رسالة أمس الأحد، بالمحبّة والارتباط الوثيق بينها وبين استقامة عمل المواهب في الكنيسة وتكاملها، ودعوته إلى تقديم بعضنا بعضًا في الكرامة.
ثانيًا، حاجتنا إلى فهم أنّ الحرّية في ساحة العمل الكنسيّ لا يمنحها انسان لآخر، ولا يُمَنِّن بها أحدٌ أحدًا. ليست هي مُلكَ راعٍ ومسؤول ورئيس مهما علا شأنه وتصدّرت مكانته. هي مُلك الذي رُفِع مصلوبًا ثمنًا لها والذي، بفدائه، أغدقها على كلّ موهبة ساعية في هذه الساحة وفاءً واخلاصًا للفداء.
ثالثًا، حاجتنا الى الأسقف، المدرك لكون الأسقفية “رتبةً” في الجماعة (القديس أغناطيوس الانطاكي) والواعي كونه ليس المسيح فيها بل إيقونته الحيّة في وسطها، إلى الأسقف الذي يُثمّن الاصغاء الى صوت الروح في الأبناء لأنّه يدرك أخطاءه وضعفاته، الأسقف الذي يمارس تكليفه اشرافًا ومراقبةً وتربيةً وسهرًا على حياة الرعيّة مُحتَجِبًا بوجهه مُستحضرًا وجه ربّه أمامه وشاخصًا، فقط، إلى ما يُفرح هذا الوجه ويلبّي خلاصَ الرعيّة.
رابعًا، حاجتنا الى رسوخ الأبناء في وعي أنّ مكانة الأسقف في جماعة الأخوة هي من مكانة الربّ في ضميرها، فلا يستسهلون معه خلافًا ولا يستسيغون حوله ثرثرةً ولا يدغدغون ضعفه بمحاباة. لا بل، وبقدر ما ينحنون طاعةً لتوجيهاته وتقويمًا لذواتهم، يصارحونه بما تُلهِمهم إليه محبّتهم وتدفعهم اليه ضمائرهم.
خامسًا، حاجتنا إلى انتشال العلاقة بين الراعي والرعية من البهتان التي يعتريها اليوم وإلى الكفّ عن تجاهل ما يُلزم، لاهوتًا، الراعي بشركة الرعيّة وعن الاعتكاف عن تسطير هذه الشركة “قانون حياة” رعائيّة. فالتجاهل هذا لا تُحصَر انعكاساته بالبرودة الرعائيّة القائمة وبالعديد ممّا نَشهد من أزمات، بل تتخطّاه إلى ما هو أهمّ أزماتنا اليوم وأكثرها خطورة، الوهن الكنسيّ النابع من وهن حضور كلّ عضوٍ من أعضاء الجسد في ضمير الآخر ما يبعد عن الواقع تكامل عمل المواهب في الجسد الواحد.
كنيستنا تحتاج إلى أن تقوم دائمًا من وجع، جورج خضر يسير إلى التربّع على عرش أسقفيّة القلوب، وكنيسة الجبل تسير إلى زمنٍ جديد، بإمامة راعٍ جديد، يُرجى أن تنعكس جدّته زمنًا إنطاكيًا علائقيًّا مستقيمًا، بقيادة غبطة البطريرك، وفي توجيه الروح ورضاه.
رينه أنطون