من العلامات الفارقة في نتاج كوستي بندلي الفكريّ خوضه في موضوع الجنس. كان يتطلّب خوضُ هذا المجال، في زمنه، جرأةً كبيرةً، إذ كان يُعتبر من المواضيع المحرّمة التي لا يجوز الخوضُ فيها لا دينيًّا ولا حتّى اجتماعيَّا.
دوّن كوستي كتابَين: “الجنس ومعناه الإنسانيّ” و”الجنس في أنواره وظلاله”، إضافة إلى إجاباتٍ طالت هذا الشأن في سياق ردّه على تساؤلات الشباب والمرشدين والأهالي. اعتُبرت مدّوناته في هذا الموضوع إنجازًا كبيرًا في المكتبة العربيّة، وقد لاقت استحسانًا واسعًا عند أغلبيّة المفكّرين والنقّاد، في مقابل استنكارٍ وشجبٍ في بعض الأوساط الدينيّة لم يرتقيا إلى المستوى الإنسانيّ، والفكريّ والعمليّ الذي بلغه نتاج كوستي بندلي في هذا الشأن. فاقتصرت الردودُ على تكفيره، ونعتِه باللاأرثوذكسيّ، وتحريم قراءة مؤلّفاته بحجّة أنهّا لا تستند إلى “التقليد الأرثوذكسيّ الأصيل”.
في ذكرى رحيله أوّد أن أطرح بعض الخواطر علّها، رغم محدودّيتها، تفي هذا الإنسان حقّه في إبداعه الفكريّ والإيمانيّ وحتّى اللاهوتيّ:
1- على عكس ما نُسب إليه، لم يكن كوستي بندلي مع التفلّت الجنسيّ، أو مع الجنس قبل الزواج أو خارج الزواج، ولا مع المساكنة. بل كان مع الجنس الإنسانيّ المتوافق مع محبّة الله ومع المسعى التقديسيّ. الجنس عند كوستي بندلي هو نهج قداسة شأنه شأن البتوليّة الأصيلة.
2- لم يعالج التقليد الكنسيّ، من خلال الآباء القدّيسين، مسألة الجنس إلّا من خلال المعطيات العلميّة المحدودة التي كانت متوفّرة لديهم، ومن خلال الصور والممارسات الغرائزيّة التي كانت سائدة حينها في مجتمعهم الوثنيّ. فاعتبر التقليد الكنسيّ الجنسَ هوًى طرأ على الإنسان بعد السقوط (الأقمطة الجلديّة)، ولم يكن يقبله. إن معالجة آباء الكنيسة لمسألة الجنس، كانت من باب المحاولة الرعائيّة المباركةِ والمبرّرة لكبح جماحه كشهوة غريزيّة حيوانيّة، وضبطه ضمن إطار قدسيّة الزواج والإنجاب. ولا يمكننا إلاّ أن نقرّ بفضل هؤلاء الآباء الذين خاضوا غمار هذه المسألة انطلاقاً من هاجس رعائيّ تقديسيّ يتلاءم ومعطياتِ عصرهم وعلومَه.
3- لا يمكننا التمسّك، حرفيًّا، بنتاج الفكر الكنسيّ السابق في هذا الشأن، وبخاصّة بعد ظهور علوم متعدّدة لم تكن متاحة قبلاً، ولا يمكننا تجاهل إنجازاتها أو تكفيرها أو نعتها باللاأرثوذكسيّة. نحن، في فعلنا هذا، نُسقط عداوةً بين العلم والإيمان لا وجود لها أصلاً. إنّ ما حقّقه كوستي بندلي هو استخدام معطيات العلم في زمنه لخدمة الإنسان وتقديسِه، ومخاطبته بلغة عصره، وحفظِ كرامته الإنسانيّة دون المساس بالعقيدة. وذلك من خلال إبراز الوجه الإنسانيّ الأصيل للجنس بعيداً عن الوجه الغريزيّ الاستهلاكيّ المحض. برأيه، أنّ أنسنة الجنس لا تتمّ عن طريق الكبت التخويفيّ للطاقة الجنسيّة وشيطنتِها، بل من خلال رعايتها وضبطها، والترقيّ بها إلى مستويات إنسانيّة ذات بُعد تقديسيّ. وهذا ما حقّقه أوّلاً يسوع المسيح الذي كان يتمتّع بطاقة جنسيّة. مآلُ هذه الرعاية وهذا الترقّي هو عفةٌ في الزواج من خلال إخلاصٍ لشريك واحد من جهة، وبتوليةٌ واعيةٌ عاشقةٌ لله والإنسان ولكلّ الخليقة من جهة أخرى.
وهنا أدعو ناقدي كوستي بندلي إلى الاطّلاع على ما قاله في البتوليّة، بتوليّة المسيح وبتوليّة الرهبان.
4- أدعو كلّ الآباء واللاهوتيين والعلماء المؤمنين، إلى خوض هذا المجال من جديد لاستكمال ما بدأه كوستي بندلي بعد أن تطوّرت العلوم الإنسانيّة تطوّراً ملحوظاً خلال العقود الثلاثة الأخيرة. أدعوهم إلى إنتاج تقليد كنسيّ متجدّد لا يمسّ العقيدة والإيمان بل يخاطب إنسانَ اليوم ويمّدُه بمَلَكاتٍ ومناقبيّةٍ إنسانيّةٍ قادرةٍ، بنعمة الله، أن تحصّنه وتقود خطاه إلى الارتقاء في مسالك القداسة، إن من خلال زواج عفيف أو من خلال بتوليّة عاشقة. وفي كلتا الحالتين، برأي كوستي بندلي، للجنس مطرحٌ.
5- أدعو كلّ أبنائنا، المتزوّجين والمتبتّلين إلى قراءة الكتابين المذكورين. وإن كان من نقدٍ لهما فليكن على مستوى لائق من الموضوعيّة والخبرة الإنسانيّة.
على هذه الأخيرة أزهر فكر كوستي بندلي. لم يكن فكره يومًا تنظيرًا عقلانيًّا، أو براعة عقليّة محضة، أو حكمة دنيويّة بل حياةً عاشها في خبرةِ زواجٍ وعائلةٍ، وخبرةِ صلاة شركةٍ صلاتيّةٍ وليتورجيةٍ شاهدةٍ للربّ في المكان والزمان اللذين عاشهما كوستي بندلي بكلّ أبعادهما التقديسيّة.
الأب مخائيل الدبس
الميناء في 27/01/2019