إطلالات (١)
——-
سحَرَه المَشهدُ، فسألَني عن السرّ فيه. كنّا فتيةً نَنصُب الخيامَ في مطلِّ الشباب على أهمّ مفارق الحياة. أتى سؤالُه قبل أن تقذفَه ثورةٌ منتصرةٌ من ضَفَّة إلحادِه، الثائر، إلى شاطئ إسلامه. كان صديقي، وقد اعتادَ الارتواء من سبيلِ أحلى البيوت، بيتِ حركةِ الميناء، يتساءَل ويتعجّب:…….
يومَها كنتُ متردّدًا، ضبابيّ الرؤية، غيرَ مكتملِ الجواب بعد. كانَت الحَرب. كانَ الوطن بابلاً جديدة، لكلٍّ فيه لغتُه. للأهل لغة، لملوك الساحات لغة، ولذلك البيت، أعزّ البيوت ، لغة. كانت النارُ في الشوارع تصارع “فُتاتَ النورِ” فينا. كانَ الله أسيرَ طوائف صارتَ به وقودَ فِتَنٍ وسُلَّمَ تحكّمٍ بالبشر. كانَت العدالة حروفًا مسروقةً من أفواه الرسلِ، والفقراءُ لغوَ عقيدة، ثرثرةَ أمسيّاتٍ، كنزًا مَنهوبًا من خَزنَة الانجيل. أمّا الحرّاس فكانوا، يومَها، نائمين.
اليومَ، صديقي، وأنتَ ما أنتَ عليه مِن خَيباتٍ بعد التزام، وأنا ما أنا عليه مِن رجاءِ “ألا يُدركَني الموتُ قبل أن يُصبح يسوع ملكًا عليّ” انقشعَ الضباب واتضَّح المشهد، وها أنا أجيبُكَ وأفضَحُ السرَّ، وإن باختصارٍ وكلمات:
عطَف الله على كنيسته، يومًا، فكانت حركة الشبيبة الأرثوذكسية. هي اللغة التي أعادَ بها صياغَةَ فدائه لنا. هي طلَّةُ مسيحه علينا من وجوه. هي كشفٌ لاخوَّتِه لنا. هي الأدبُ الذي، بحبرٍ مِن السماء، نَظَم فينا الموتَ أكذوبةً والقيامةَ أجملَ حقائق الحياة. أمّا هؤلاء الذين عنهم سألتْ، فَهُم هي. هُم مَن أسرّوا لنا به إلهًا ممدودًا يُذاق، يُأكَل ولا يُلقَّن. هم من صاروا باسمِه خميرَ أسمائنا. هم مَن فيهم عاينّا الانحناءَ له في الآخر سجودًا في الصلاة، ارتفاعًا اليه في السماء. هم مَن بهم شهِدنا العدالة ثروةً ملكوتية والفقراءَ كلماتٍ إنجيلية. هم عقولٌ لفَظَت جهلَنا وقلوبٌ نبضَت بخلاصنا. هم أيدٍ أمسَكَت أيادينا إلى عبّارةٍ مِن نور، قبرٍ لا جسَد فيه غيرَ ملائكة تحوم، ولا حجر.
وبعد، يا صديقي، تبقى قصّة ذلك الشائب الناظر إلينا من شرفة الجبل، الشرفةِ المفتوحَة على النور. سرُّه أن المصلوبَ انتقَى عينيه ليسريَ دمعُه منهما إلينا، وسحرُه أنّه لا يُدمع ماءً بل، إن فعَل، دمَعَ لكنيسة الله أبناءً رجال. وجورج مسّوح واحدٌ من هؤلاء، سالَ مرّةً مِن تلك العينين.
نَحن يا أحبّة، نحن “الأبناء”، لا نُكوَّن من أرحامٍ لحميّة. نحن، فيها، نُرسَم هياكلَ جسدية. نُمَدُّ تقدمةً تحتَ الصليب. نُبَلَّلُ بدمعةٍ من فوق، تصيرُ فينا روحًا فَنوجَد. نوجَد ولا نفسد، ولا ننتهي. وإن عَتَقَ فينا، يومًا، ما للأرض واهترى، تبدّل سعيُنا وأمسَى ما هو أحلى، صِرنا في وجهِ الله همَسَاتِ صلاة.
إن قرأتم إلياذةَ الموت لهذا الحبيب، الذي حوله نلتقي اليوم، تيقَّنتم من هذا. لا بل إن صدَّقتم إلهَكم، إن عَرَفتُموه كما شاءَ هوَ أن تعرفَه قلوبُكم تيقّنتم من هذا.
جورج مسّوح لا يختلف، فَهو عَرَف الربَّ و شاء الصِدقَ فقط. شاء أن يُعلنَ الله كما أعلنَ الله ذاته، أن يبحَث عن بصمتِه حيث أعلنَ هو أنهّا تكمن. فكلُّ جمالٍ من الربّ، كلُّ إنسانٍ عِشقُه، كلّ المظلومين خاصَّتُه. إلهُ الكلّ في الكلّ هو، وللكلّ. الكلُّ مشمولٌ بخلاصه، هذا إن شاء. فلا أرضَ اليوم وغدًا سماء، بل واحاتُ ملكوتٍ، الآن وهنا، اليومَ وغدًا، أينما ومتى تجلّى الاله في سفرائه الأبناء.
جورج مسّوح لا يختلف. لم يكسِر مألوفًا. الربّ كسرَ المألوف. أيُّ مألوفٍ هو في إلهٍ سكنَ المغارة، مجدًا، واعتلى الصليبَ، قوّةً. فكم يتفَه المألوفُ بعد هذا. كم يتفَه الظانّون أنَّ مقاسَ الصليب هو مقاسُهم، وحدودَه حدودُهم، ومكانَه مكانُهم، وحلولَ الروح هو، فقط، حيث هم. كم يتفَه مؤمِنٌ يتعالى عن همِّ حياة عاشَها ربُّه، وشؤونِ أرضٍ لامَس أعماقَها جسدُه. كم تتفَه جماعةٌ تُخلي عرشها في عينيّ مصلوبٍ من حبّ، حيث مُلكيّة الكون تمتدّ، لتلحَق بكرسيها في زاقوق المغانم والمصالح المُسمَّى مملكةَ الطوائف.
جورج مسّوح لا شأنَ له غيرَ سعيه الى الفخرِ بصليب ربّه ولَفظِه الانتفاخ بقوّته، غيرَ تسخيفِه للطائفَة في الطوائف وتثمينِه للأبناء، والآخرِ، فيها. جورج مسّوح لا فضلَ له ولا شأن. هو، فقط، اشتهى الأبوّةَ أحلى الألقاب، قَبِلَ تكليفَ ربّه بكهنوتٍ قائدٍ يسير بالرعيّة الى البنوّة الشاهدة، وبكهنوتٍ حارسٍ لِئَلّا تتسرّبَ الأشكال الى عرينِ سيّده وتصيرَ بالذبيحة رَسمًا وبالروح المُرَفرف فوقها أسيرًا. حطَّم الأسوارَ، أعادَ للروح الكونَ، وتبعَه الى حيثّ يحلّ ويرتاح في وجوهٍ، وأمكنةٍ، أخرى هي أيضاً مفتداة، في “وجوهٍ من نور” تَجمَعُها منتدياتُ عِشقِ روحِ الربّ في الآخر………..
ليسَت نَكبةَ فلسطين هي، ليسَت نكبةَ أرضٍ وشعب، ليسَت لحظة تاريخ. محنَةُ شهودٍ أبناء، ونَكبة الحقّ في ضمائرهم هيَ. هذه الأرض ينقُصُها الله، ينقُصُها، فليسَ غريبًا أن تقتاتَ من الجشعِ وترتوي من الظلم. ليسَ غريبًا أن تطرَب بدماءِ الأجساد الطريّة وترتَكِضَ بأقدامِها العارية. ليسَ غريبًا أن تصيرَ بلوحات اللاجئين تُحفَةً كونيّة. الغريب أن تَختنق الحنطةُ الانجيلية فيها بزؤان ترابِها. أن ينحني المتوَّجون بأكليل الشوكِ، بلؤلؤةِ السماء، للمُزيَّنين بذهبِ الأرض، بحجارة الجحيم. الغريب هو أن تُصمِتَنا القوّة، الغريب هو أن يطوِّعَنا السائد، أن تنزَح النبوّة منّا الى السماء لأنّها فقدتنا مطرحًا لها في الأرض. جورج مسّوح قرأ النبّوةَ في زمن الجحود صلاة، في زمن الجهل معرفة، في زمن العُهر عفَّةً، وفي زمن القمع والظلم والاحتلال ثورةً وعدلاً وحرّية، هذا لِئَلّا يصيرَ السجودُ لهوَ أجساد…….
صاحب السيادة،
“أتمِم الانجيل، ذُقهُ، كُلْهُ إلى أن تصيرَ أنتَ الانجيل”.
إلى هذه الوليمَة دعانا سلَفُكَ عُمرًا، وإليها نرجو أن تمتدََ دعوتُكَ لنا عُمرًا.
يصعُب، أيها السيّد، أنَ نُدرِكَ حكمةَ الله مِن عَصْفِ روحِه ذلك اليوم من نيسان، لكنَّ يقينَنا أنَّ الربَّ ما زالَ يشتهي كنيستَه تَحضُن العُلَماء ليستردَّ العقلُ رِيادَتَه في ورشة تقديس الأرضِ ووَصلِها بالسماء. يقينُنا أن الربَّ ما زال يشتهي كنيستَه ترفَع الودَعاءَ ليُمسَحَ عنها عَفَنُ القصور والامبراطوريات. يقينُنا أنّ الربّ ما زال يشتهي كنيستَه تُسحَر بغنى الروح ولا تخاف حرّية الأبناء. يقينُنا أن الربَّ ما زال يشتهي في كنيسته تبتُّلاً، ليسَ مفرًّا من دنيا ِووجه وشأن، بل تكرّسًا، عِشقًا، لوجهِه وولَعًا ببسطِه في كلّ وجهٍ من وجوه الدنيا وشأن.
يصعُب أن نُدرِك حكمةَ الله، لكنَّ هذا لم يَحجب، عنّا، صوتًا سمعناه يومًا ينادي……..تكلَّف بإرثِ هذا التلميذ في جبل لبنان. فإرثُ التلاميذ لا يحفَظُه غيرُ التلاميذ، ولا ينمّيه غيرُ مُثمِّري الوزنات الذين من كتابي أتَوْا ولِكَلمتي، وروحي، انحَنوْا. ونحن على هذا الرجاء…..