الأب الياس مرقص – التماعات أنطاكيّة..!!..(1)

الأرشمندريت توما (بيطار) رئيس دير القديس سلوان الآثوسي Sunday May 12, 2019 451

الخامس من أيّار الفائت كان عيد مولد الأب الأرشمندريت الياس مرقص. رقد الأب الياس، يوم الأربعاء، 23 شباط، 2011. عمّر تسعين سنة. هذه بعض كلمات فيه كما عرفته.

أولى مطالعاتي له كانت في العام 1963. دعاني أحد رفاق الصّف، وكان عضوًا في حركة الشّبيبة الأرثوذكسيّة، إلى ما أسماه “خلوة” في دير القدّيس جاورجيوس – دير الحرف. صعدت من باب الفضول. لم أكن، يومذاك، معتادًا ريادة الكنيسة، ولمّا تكن لي إلفة إلّا بدير صيدنايا، من وقت لآخر. هناك طالعني وجه أضحى عرّابي إلى معرفة وجه الرّبّ يسوع. كان ذاك وجه الأب الياس. قصير القامة، نحيلًا، رأسه أكبر قليلًا من جسمه، أسود اللّحية، على اعتدال فيها، خفيف شعر الرّأس، كلّه أسود، ويلبس نظّارتين سوداوين، هادئًا، قلّما تكلّم، مختبئًا في مكان ما، تحسب أنّه ينظرك ولا تنظره، فيما هو، كما اكتشفت في ما بعد، يطلب التّواري، جدّيًّا أكثر ممّا يتوقّع المرء.

تلك كانت أولى لقاءاتي بالرّجل: شابّ حدَث يعاين مَن اختفى وراء نظّارتين!. كلّا، ليس لأنّه لا يبالي بالقادمين إليه، بل لأنّ الحنان الّذي انسكب، في ما بعد، منه، كان ينبع من غربة عن الذّات وقسوة عليها!.

لم أسأل مَن يكون، لكنّه لفتني. قالوا: هذا الأب الياس، رئيس الدّير. لست أذكر الكثير من تلك الخلوة. فقط العمل في تنقية اللّوبياء ونظّارتاه!.

عدت بعد ثلاثة أشهر. فقط لأنّه قال لي: إذا أحببتَ بإمكانك أن تأتي إلينا وتبقى بضعة أيّام معنا.

كنت، يومها، في الثّامنة عشرة. واستمرّت العلاقة به إلى اليوم، عبورًا بالثّلاثاء، قبل رقاده بيوم. ركعنا، أمامه، في غرفته في المستشفى، أنا والأمّ مريم. جعل يده علينا وبارك وصلّى بدموع. تلك كانت حجّة الوداع. في اليوم التّالي بعد مساهمة القدسات، رقد، ولكن في قلّايته الّتي أصرّ أن يصعد إليها قبل اليوم الموعود!.

ثمانية وأربعون عامًا قصّة حياة. علّمني الكثير وتعلّمت منه الكثير. أدين له بالكثير. لم يفرض نفسه عليّ، مرّة، في شيء. كان خفرًا. حرًّا. حاضرًا. يسأل. يستفقد. قليل الكلام. كثير السّماع. يوحي. يتابع. علّمني، إلى الصّلاة والوداد، الكلمة والجرأة والحرّيّة والأمانة. في الحقيقة، لأنّه هو كان كذلك، فيما كنت أنا إنسانًا جامحًا. كان محبًّا لأنّه أحبّ الله. لم أحتجْ أن يعلّمني طريقة الصّلاة، ولو علّمني إيّاها أيضًا. الأهمّ أنّه كان يصلّي. كانت الصّلاة سهلة عليه، على صعوبتها، لأنّها أتت من دم. كان يقسو على نفسه. قلّما يقسو على أحد، ولو كان ينفجر، من وقت لآخر، أمام الجماعة!. كان صعبًا على الشّركة الطّاعة. الفردانيّة، بالأحرى، سادت!. كان، في الدّير، راهب واحد، يطيع: هو!. كان يطيع الجميع!. يرى المرءُ أمورًا ناقصة!. رغم ذلك قَبِل الأمور على علّاتها!. لم يرفض أحدًا البتّة!. كان يقبل الجميع، ويشرِّع قلبه للجميع!. كان يحنّ خاصّة على صعاب الأطوار ولا ييأس من رحمة الله على المتردّدين والمرذولين والضّعاف!.

تلك الزّاوية من كنيسة القدّيس جاورجيوس لم تفرغ يومًا من حضوره. كان دائمًا هناك. ولمّا كنت أُمعن النّظر فيه، كنت، كثيرًا، ما أُلاحظ دموعه تسحّ من عينيه بصمت كحمامة موجوعة. خرج من اللّاذقيّة ولمّا يعد إليها في روحه!. آثر الغربة!. والحقيقة أنّ قلّة عرفته ولو كان يضحك ويمزح ويرحّب بالنّاس!. كان يلبس، روحيًّا، نظّارتيّه السّوداوين، فلا يعرف أحد ما وراءهما!. لكنّنا كثيرًا ما كنّا نترافق إلى اللّاذقيّة، وليس فقط إليها، ولكن إلى الشّام وحمص وحلب أيضًا!. كان يترك الشّركة لديه لحرّيّتها، ويذهب ليعرِّف، خاصّة الشّبّان. تدوم اعترافاته كلّ يوم عشرًا إلى اثنتي عشرة ساعة. يسمع ويسمع ويبكي ويعزّي ويشدّد!. وكان يزور النّاس. يفتقد المرضى. يحمل آلام الآخرين. ومع ذلك كان يفرح. الموسيقى الكلاسيكيّة تعنيه، لا سيّما موزار، رغم أنّه لم يكن متعلّقًا بشيء!. كان يحبّ اللّقمة الطّيّبة، رغم أنّ أكله كان قليلًا. لم يدع أحدًا يشعر أنّه ليس منه وإليه. يفرح مع الفرحين ويبكي مع الباكين. رجل لكلّ الفصول. كأنّه لم يكن راهبًا في دير!. في عين العاديّين كان عاديًّا!. كنزه مخفيّ!. كنّا أحيانًا نلعب النّرد!. يفرح ويضحك و”يزرّك”!. ثمّ ينتهي دور طاولة الزّهر، ولا تترك أثرًا!. كأنّه لم يغادر مكانه!. روحه إلى هناك، وصلاته يستدعيها بسهولة!. يفرح ويضحك، وبعد عشر دقائق يبكي ويصلّي!. هذا منه وتلك منه!. لا موانع لديه إلّا الخطيئة!. الباقي كلّه من الحياة!. لم يعرف التّزمّت، لكنّه كان متمسّكًا، بالرّوح، بأهداب المعلّم!.

لا شيء أوقف الأب الياس أو أعاده إلى الوراء!. كان، أبدًا، في سيرورة!. لا تعرف إلّا إذا تسنّى لك أن تدخل، إن أزاح نظّارتيه، إلى عينيه المكسورتين!. لا أعرف أحدًا آخر عرف أن يغيِّب نفسه كما غيَّب الأب الياس نفسه!. حادّ الذّكاء، كثير المعرفة، يقرأ روح الأحداث والكلمات، على جَلَد كبير!. كان في دنياه رفيع الشّأن مسؤولًا عن إدارة شؤون المحافظة في اللّاذقيّة!. نال شهادة المحاماة من مدرسة القانون في بيروت بتفوّق، بالمراسلة!. كان مجلّيًا!. له سائقه وسيّارته ووقاره!. الرّوائح الطّيّبة استبدلها بالاهتمام بتنظيف حمّامات الدّير!. التّسيّد استعاض عنه بالمكنسة والمجرود يمتشقهما كلّ يوم لينظّف الغبائر ما بين حجارة ساحة الدّير!. الرّاحة في العالم حلّ محلّها التّعب حتّى الإرهاق!. العِلم في العالم أعطى مكانه للجهل من أجل المسيح!. أُصيب بالسّلّ وبصق دمًا!. مَن اعتاد الطّيّبات في المأكول صار يأكل ما لا يُزدرد بسهولة!. والأهمّ أنّ مالئ دنياه وشاغل النّاس جعل نفسه نسيًا منسيًّا، حتّى لو ظهر على شاشة النّاس!. لم يكن محتاجًا لأن يكسره أحد!. كسر نفسه!. رغم ذلك كانت له كلمة يقولها غير الكلمات ويسمعها مَن لهم آذان للسّمع بشغف!. أضحت له شهادته الخاصّة!. الأب الياس دخل في نسيج أنطاكية من حيث لا يعلمون!. عندما دخل المتروبوليت أفرام الكنيسة حيث سُجِّيَ، قبَّل قدمه، ونِعمَّ ما فعل!.

صراعه مع أهواء نفسه كان عنيفًا!. لا يحمِّل أحدًا همًّا، لكنّه يهتمّ بالتّخفيف من هموم الآخرين!. في أوائل أيّامه كان كتاب صلاته المزامير. وقد بقي كذلك. صلاة يسوع زادت في النّصف الثّاني من جهاده. لم يعرف السّهرانات إلّا في سنواته الأخيرة. لكن كانت له سهراناته الشّخصيّة.

هذا رجل عرف أن يكون مبذولًا. رحم الله أبا طارق. كان كلّ ليلة يرافقه في آهات قلبه، في القاعة الصّغرى. يجالسه، فيما يحتسي أبو طارق شيئًا من “عرق الكيف” ولديه بعض قطع من الخيار والجزر وحبّات من المكسّرات، على وقع أغاني أمّ كلثوم والسّيّد درويش. هكذا كان ينفّس أبو طارق عن وهج جرح عماه، وكان الأب الياس دائمًا إليه بالكلمة والضّحكة ونَقْف الإصبع والـ”آه” لطلعات أمّ كلثوم!. ساعات كان الأب الياس يقضيها وأبا طارق، أحيانًا إلى العاشرة أو الحادية عشرة أو حتّى الثّانية عشرة ليلًا، ليكون في الكنيسة عند الرّابعة صباحًا!. هذا كان بعضًا من نسكه، أن يخفِّف من ألم المألومين!. كان أبو طارق يدخل إلى الكنيسة ويوقفونه أمام أيقونة السّيّد. كان هذا الرّجل “الأيّوبيّ” يدخل في نشيج أمام السّيّد: “يا معلّم!. لا تذلّني أكثر من ذلك!”. وكان الأب الياس حاملًا سرّه بدموع وفرح!. بقي كذلك سنوات!. لم يعبِّر عن امتعاض يومًا!. جعل نفسه شريكًا في آلامه كصديق للعريس!.

وتستمرّ القصّة…

الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ
الأحد 12 أيّار 2019

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share