الأب الياس مرقص، التماعات أنطاكيّة.!.( ٣)

الأرشمندريت توما (بيطار) رئيس دير القديس سلوان الآثوسي Sunday May 26, 2019 277

حرّيّة الضّمير في مسار الغيرة على كنيسة المسيح، لدى الأب الياس، كانت شأنًا مقدّسًا. لم يقتحم الأب الياس أحدًا اقتحامًا. يشير إلى الحَمَل ولا يتصرّف كأنّ طاعته هو من طاعة المرء للحمل. يكتفي بالإيحاء، بالتّنقيح، بالتّصحيح. يقدّم نفسه شاهدًا، مثالًا، لمَن يسمع، ولمَن يبصر، دونما تصريح. بعد ذلك، مَن أراد أن ينتفع كان بإمكانه أن ينتفع، ولكنْ كان ذلك رهنًا بعمل روح الله فيه وبإرادته. لم يسْعَ إلى أسر الضّمير باسم الله بل إلى تحريك الضّمير. الباقي يصنعه الرّوح في النّفس. في ذلك، كان الأب الياس، على خفر كبير. هكذا تمثّل دورُ الأب الرّوحيّ لديه في علاقته بأبناء الله. الطّاعة المعتبرة رهبانيّة لم تكن شأن قاصديه من العامّة. لا فرضها ولا طلبها ولا توقّعها. ما يلتزمونه يأتي من ضمير لا ممّا يحدّده هو لهم كمَن لا ثقة له بعمل روح الله. قول كالقول: “أذهب إلى أبي الرّوحيّ لآخذ بركته في هذا الأمر أو ذاك”، كما لو كنتُ ألتمس أن يسمح لي به أو لا يسمح لأُريح، أو بالحري، لأخدّر ضميري، لم يكن واردًا. أُعلمه، أسأل نصحته، آخذ مشورته، أطلب بركته على ما فكّرت به أو عزمت عليه، هذا، وحده، ما كان متوقّعًا في التّعاطي معه. ينقّحني، ينبّهني، عند اللّزوم، هذا طبيعيّ في علاقتي به. بعد ذلك، أفعل ما هو من قناعتي الشّخصيّة. علاقة الأب الياس بالقادمين إليه كانت قائمة على أساس التّناضح الرّوحي لا على أساس الفرض واستئسار حرّيّة الضّمير والإلزام وعدم الثّقة بكفاية عمل روح الله في الآخرين!.

على هذا، خلال السّبعة والعشرين عامًا، الّتي عرفتُه فيها، إلى أن صرتُ راهبًا، في السّنة 1990، لم يطلب منّي، ولا مرّة، لا تصريحًا ولا تلميحًا، أن أصير راهبًا، وَلَدَيه، في ديره!. لعلّك تقول إنّه لم يحسب أنّي أَصْلُح للرّهبنة؛ لا أظنّ!. أنا صرت راهبًا بيد الأرشمندريت “صفروني ساخاروف”. وعندما أعلمته بالأمر فرح جدًّا!. لا أحسب أنّه خطر بباله أنّ الأمر كان ينبغي أن يكون من خلاله هو، لأنّه طالما عدّ نفسه صديق العريس الّذي يفرح بصوت العريس، في الآخرين، يأتيهم بطرق يرتأيها علّام القلوب وحده لهم. ربّك، في النّهاية، هو المبتغى، والأهمّ أن نُقبل إليه، بغضّ النّظر عن الكيفيّة. “طرقي ليست طرقكم”، قال ربّك. بهذا يفرح ويفرح الّذين ساروا ويسيرون على خطى المعمدان!. حسبُك أن توحي: “هذا هو حمل الله الرّافع خطيئة العالم”!.

حتّى، عندما كنت على حفافي اقتبال خدمة الكهنوت، لم يدفعني إلى اقتبال السّيامة الكهنوتيّة دفعًا. كان ذلك في العام 1976. يومها، برفق وخفر جميلَين، سألني، وكنّا سويّة في الشّام: “ماذا تريد أن تعمل”؟. أجبتُ: “أستطيع، بعون الله، أن أقتبل الكهنوت، متزوّجًا، وأستطيع أن أقتبله غير متزوّج”!. كنت، يومها، متردّدًا!. فقال لي ما حسبته صوتًا من الله: “لم يعد موافقًا لك أن تتريّث أكثر من ذلك. ما أنت مزمع أن تفعله فافعله سريعًا”!. قلت له: “أهذا ما تراه مناسبًا”؟. قال: “أجل”!. فأجبته: “ليكن!. على كلمتك أُلقي شبكتي”!.

جرت سيامتي شمّاسًا، بعد أيّام قليلة، في مريميّة الشّام، في 9 تمّوز 1976، بيد المثلّث الرّحمات البطريرك الياس الرّابع (معوّض)!.

كان الأب الياس أبًا وصنوًا وصديقًا ورفيقًا. كنت أستودعه أفراحي وشجوني. يسمع ولا يكفّ عن السّمع. لا يأتي كمن علياء، ولا يُسقط عليّ، ولا على أحد، تصوّره في شأنهم. كان رفيق درب، أرتاح إليه وأفرح به. يحملني في محبّته وصلاته كأخ صغير له. فكان نِعْمَ الرّفيق والصّديق. ولو كان غير ما كان عليه لجفلت وفررت لأنّي كنت جامحًا كحصان برّيّ، حسّاسًا كظبية تجفل من نأمة. راضني بلطفه وصبره وتواضعه وأبوّته وأخوّته وطيب معشره وثباته في خفره ومحبّته!. صنعني، رويدًا رويدًا، من روح الله وفكره ومثاله!. تعلّموا منّي… الأب الياس أضحى إليّ، بمرور الأيّام، نَفَسًا ونمط فكر وعيش وجرأة ودليلًا إلى وجه مسيح الرّبّ، يعرف أن يستبين ويعرف أن يتوارى!. لم يفرض عليّ أبوّته. فرضتُ على نفسي البنوّة إليه!. هذه لديّ الصّورة الأمثل لعلاقة الإنسان بالله!. ليست الكنيسة حزبًا بل مدرسة يتربّى فيها المؤمن على “الآمين” لله!. “ليكن لي بحسب قولك”!. أمّا أنتم فجميعكم إخوة!.

لم يأتِ الأب الياس من تبيكون رهبانيّ، ولو تكمّل، في ما بعد، ببعض الممارسات الرّهبانيّة الشّائعة، هنا وثمّة. نزعة البنوّة لله والتّوق إلى الحرّيّة الدّاخليّة كانا المنطلق والمضمون والأساس لديه. هذا انطبع فيّ منه، في الذّهن، شيئًا من هوّيّة أنطاكيّة!. لم يكن على تقليد رهبانيّ متوارث!. هذا يمكن أن يعين ويطلق كما يمكن أن يأسر ويخنق ويقولب، بحيث يؤخذ المرء بالشّكل، في تفاصيله، بدل أن يسترسل في ما للكيان!. رهبنة الأب الياس كانت كيانيّة!. انطلقت من الدّاخل إلى الخارج!. هذه ميزة مَن يأتي من حركة القلب، ولو كانت مشوبة بلا معرفة للأصول، لأنّ مقاربة الأصول تكون، إذ ذاك، للمنفعة، لا لأنّها شائعة!. والرّهبنة، في الأساس، تؤخذ بالمثال، أو يعلّمها الله بالرّوح!. ومتى لقي طالب الرّهبنة ما يفيده اتّخذه، كمَن ينتقي من حدائق النّاس أزاهير لله!.

ثمّ الجرأة والغيرة على ما لله ومسيحه كانا ديدن الأب الياس في كلّ أمر. في السّبعينات، من القرن الماضي، بعد السّتّينات، عانت كنيستنا انقسامًا، إثر خروج أربعة مطارنة عن إرادة المجمع المقدّس، وإقبالهم على سيامة أساقفة جدد. البلبلة، يومها، بلغت حدّ الصّدام سقط من جرّائه قتلى وجرحى. فلمّا جرى اختيار المثلّث الرّحمات البطريرك أغناطيوس الرّابع (هزيم)، عمد والمجمع المقدّس، يومذاك، إلى تقنين وتطبيع وضع الأساقفة كأساقفة، الّذين سبق لهم أن سيموا على نحو مخالف للقانون. هذا أثار جدلًا واعتراضًا، هنا وثمّة. وكان الأب الياس من بين الّذين اعترضوا على الإجراء المجمعيّ هذا، لأنّه رأى فيه محاولة “لرأب الصّدع”، في الكنيسة، تشجِّع على التّفلّت، وكأنّ المرء يمكن أن يخرج عن طاعة الكنيسة، ثمّ، بعد ذلك، يسامَح بيسر، ويُقونَن وضعُه مخافة أن تكون لتأديبه ذيول انقساميّة، ما عانيناه، ولا زلنا نعانيه، في الحقيقة، إلى اليوم!. السّؤال، هنا، طبعًا، هو، أبالمسامحة السّهلة تزول المفاسد وذيولها، في الكنيسة، بذريعة الرّحمة، أم بالتأديب والتّوبة الحقّ، فيصير تدبير الكنيسة للرّدع، من جهة، ولشفاء الأنفس، من جهة أخرى؟. كان الأب الياس يرى في موقف المجمع المقدّس، بناء لاقتراح البطريرك أغناطيوس، يومها، خطرًا حقيقيًّا على الممارسة الكنسيّة، وعلى مستقبل الكنيسة!. لذلك أعلن الصّيام، هو والأمّ سلام الرّاقدة (دير مار يعقوب دده)، عن الرّهبان والرّاهبات، وبعث إلى المجمع المقدّس برسالة اعتراضيّة في الشّأن المذكور. وعندما جاء غبطة البطريرك إلى مطرانيّة بيروت، طلب مقابلته، ونزل إليه، وكنت أنا معه، وعبّر عن موقفه من الأمر بشكل واضح صريح!. كلّ ما يعني الكنيسة لديه، كان يعنيه، لذلك لم يحسب أنّ عليه أن يسكت، كما ظنّ قوم، بل أن يتكلّم بالأكثر، متى دعت الحاجة!. قالوا: عمل الرّهبان الصّوم والصّلاة بصمت. غيرهم يتولّى المواجهة!. فقال: لو صمت الرّهبان، في الملمّات، في تاريخ الكنيسة، لما بقيت كنيسة!.

وتستمرّ القصّة.

الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ
الأحد 26 أيّار 2019

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share