الرؤية، والخطيئة والإيمان

الأب سمعان أبي حيدر Thursday May 30, 2019 621

في كلّ مرّة يقول فيها إنجيل يوحنّا إنّ يسوع «رأى» شخصًا ما، فإنّ الفعل يدلّ على أكثر من مجرّد فِعلٍ بَصَريٍّ مَحْض. إذا اهتمّ يوحنّا بِملاحظة أنّ يسوع «رأى»، فهذا دائمًا مقدّمة لبعض التحوّلات: هذا يعني مقدّمة لأعمال النعمة. هكذا «رأى» يسوع نَثَنَائِيلَ (يوحنّا ١: ٤٧، ٥٠)، والمخلّع عند البركة (٥: ٦)، ومريم أخت لعازر (١١: ٣٣)، واثنين من أحبّائه عند الصليب (١٩: ٢٦).

وهكذا يعرض يوحنّا أيضًا قصّة الرجل المولود أعمى، فيقول إنّ يسوع، «فيما هو مجتازٌ رأى إنسانًا أعمى منذ ولادته» (٩: ١). هذا هو التفصيل الأكثر أهميّة: الرجل الأعمى نفسه، لا يستطيع رؤية يسوع، لذلك يجب أن يراه يسوع أوّلاً. هذه قصّة عن «أسبقيّة النعمة»، هي توضح الحقيقة بأنّه «ليس أنّنا نحن أحببنا الله، بل أنّه هو أحبّنا» (١ يو ٤: ١٠). تبدأ هذه القصّة إذًا، مع رجلٍ رآه يسوع، وتنتهي مع الرجل عينه الذي رأى هو يسوع في النّهاية: «قد رأيته، والذي يتكلّم معك هو هو!». (يو ٩: ٣٧).

يتخبّط التلاميذ في مشكلة لاهوتيّة بينما يشاهدون الرجل الأعمى: «يا معلّم، من أخطأ: هذا أم أبواه حتّى ولد أعمى؟» (٩: ٢). يجيب يسوع على الفور: «لا هذا أخطأ ولا أبواه»، ولكن، ليست هذه هي المرّة الأخيرة التي يظهر فيها هذا السؤال في القصّة: فسوف يتمّ استدعاء كلّ من الأعمى، بعد شفائه، ووالديه لاستجوابهم من قبل أعداء الربّ. فهؤلاء لديهم أفكارهم الخاصّة حول «من أخطأ» وسيقولون بالأخير عن يسوع: «نحن نعلم أن هذا الإنسان خاطئ» (٩: ٢٤). ثم، عندما يرفض الموافقة على كلامهم، يصير الأعمى نفسه مذنبًا: «في الخطايا ولدت أنت بجملتك» (٩: ٣٤). وهم بذلك يقدّمون إجاباتهم الخاصّة على السؤال الذي طرحه التلاميذ أوّلاً. هناك إذًا عمًى أعمق في القصّة، «رفض التوبة»، هو الخطيئة الحقيقيّة. وهكذا، في النهاية، أجاب يسوع: «لو كنتم عميانًا لما كانت لكم خطيّة. ولكن الآن تقولون إنّنا نبصر، فخطيّتكم باقية» (٩: ٤١). هذا هو الجواب النهائيّ للقصة. وبالتالي، فإنّ مشكلة «من أخطأ؟» هي مفتاح التفسير للقصّة بأكملها.

هناك تضادٌّ آخر في هذه القصّة، وهو التباين بين سؤال التلاميذ الجدليّ وفعل يسوع العمليّ. في مواجهة ظاهرة العمى هذه، يرغب التلاميذ في إلقاء اللّوم المناسب على الموقف، بينما يريد يسوع تغييره. هم يتطلّعون إلى قضيّة إنسانيّة، أمّا هو فإلى غرض إلهي: «… لكن لتظهر أعمال الله فيه» (٩: ٣).

أعداء يسوع في هذه القصّة هم أيضًا من المنظّرين. ولأنّ تفسيره للشريعة يختلف عن تفسيرهم، هم يدّعون: «هذا الإنسان ليس من الله» (٩: ١٦). «وهذه هي الدينونة: إنّ النُّوُر قد جاء إلى العالم، وأحبّ الناس الظلمة أكثر من النُّوُر، لأنّ أعمالهم كانت شريرة» (٣: ١٩). على النقيض منهم، فالمولود أعمى يبدأ بلا نظرية. في الواقع، هو خبير عمليّ، يعرف ما يراه: «أعلم شيئًا واحدًا: أنّي كنت أعمى والآن أبصر» (٩: ٢٥). بالنسبة له، أيّ نظريّة حول «من أخطأ؟» يجب أن تبدأ بحقائقَ معيّنة مؤكّدة، حقائق واضحة كالطين الذي غسله عن عينيه. لذلك، نلاحظ حدوث تحوّل في نظرته إلى يسوع. ومن المفارقات، علاوة على ذلك، أنّ استجواب أعداء الربّ يصبح الدافع الذي يدفعه إلى اعتراف أكثر شمولاً. فبينما، بعد الشفاء مباشرة، تحدّث ببساطة عن «رجل يدعى يسوع» (٩: ١١). يجد نفسه، عندما يتعرّض للضغط على النقطة، مضطرًا إلى استنتاج جديد عن يسوع: «إنّه نبيّ» (٩: ١٧). وفيما يتطوّر الجدال مع أعداء يسوع، يجبره المنطق على الاعتراف بأنّ يسوع يأتي من الله (٩: ٣٢)؛ أخيرًا، هو يدرك أنّ يسوع هو ابن الله، وفي آخر ظهور له في القصّة، نرى الرجل المولود أعمى ساجدًا أمام يسوع في حركة العبادة (٩: ٣٥-٣٨).

هذه الرواية الشائكة هي مثال عن موضوع سبق تقديمه مبكّرًا في إنجيل يوحنّا. فعند المباشرة في شفاء الأعمى، يعلن يسوع: «أنا نُور العالم» (٩: ٥)؛ إعادة التّعريف الذاتيّة هذه، تعيد صياغة مطلع الإنجيل: «كان النُّور الحقيقيّ الذي ينير كلّ إنسان آتيًا إلى العالم» (١: ٩).

هذا الرجل المولود أعمى، هو إذًا صورة عن كلّ الذين يظهر لهم النُّوُر الحقيقي.

الأب سمعان أبي حيدر

42 Shares
42 Shares
Tweet
Share42