الأب الياس مرقص، التماعات أنطاكيّة .!.(٤)

الأرشمندريت توما (بيطار) رئيس دير القديس سلوان الآثوسي Sunday June 2, 2019 258

الأب الياس، بلا شكّ، ظاهرة روحيّة جديدة. في حقيقته، لم يكن معروفًا تمامًا. الحكم عليه، بحسب الظّاهر والمألوف، لا يفيه حقّه، ولا ينقل عنه صورة أمينة. هذا باد، لمَن يعرفه، بما له علاقة، مثلًا، بموضوع جدليّ وحرج، اليوم، هو “المسكونيّات”. لا أظنّ أنّ الأب الياس قابل للتّصنيف، في هذا السّياق، أو أنّه يليق أو يصحّ إلحاقه في فئة من الفئات ذات المواقف الشّائعة من موضوع “العلاقات المسكونيّة”. لا هو “مسكونيّ” يقارب الأمر مقاربة فكرِ المندرجين في “المجالس المسكونيّة”. هذا، بكلّ تأكيد، لم يكن ليخوض فيه الأب الياس، البتّة، ولمّا يَعْنِه، كما تمثّل، لا مباشرة ولا مداورة. كان يقول إنّ في العلاقات المسكونيّة مجالًا رحبًا للمحبّة الإنجيليّة، لكنّه كان يعي، بألم، ما يعتور تلك العلاقات من شكليّة وكلاميّة فيها “تسطيح” لتلك العلاقات، ما يجعلها، إلى حدّ بعيد، بلا روح، غريبة عن الإنجيل والتّراث، ولو تمسّحت بهما. المناخ المسكونيّ، في نظره، كان ملتبسًا، ضبابيًّا، في واقعه. كان يسمع، طبعًا، ولمّا يُبْدِ عداء. كان، بالأحرى، يمتنع!. أساسًا، الأب الياس يقول كلمته، إذا كانت لديه كلمة، ثمّ بعد ذلك، يترك الآخرين يسلكون وفق قناعاتهم. فقط، متى أحسّ بخطر على الكنيسة المقدّسة، يخرج عن صمته، بوضوح وقوّة!.

إذًا، لا كان الأب الياس “مسكونيًّا”، ولا كان تكفيريًّا زمّيتًا!. كان، طبعًا، متمسِّكًا بالتّراث والعقيدة والآباء، شاهدًا لكنيسته. في لقاء للرّهبنة البندكتيّة، في العالم، دُعي إليه، ضمّ الآلاف، أُعطي أن يتكلّم. لم يُسمَح لأحد قبله بالكلام لأكثر من خمس دقائق. بعد ذلك يُقرع الجرس. تُرك على سجيّته خمس عشرة دقيقة وسط هدوء أخّاذ!. تكلّم بفرنسيّة بديعة. ولم يُقرَع الجرس!. أثّر كلامه في الحاضرين لدرجة أنّهم أخذوا في التّصفيق!. وعمّ تكلّم؟. عن القدّيس غريغوريوس بالاماس والهدوئيّة والنّور غير المخلوق!. ومَن هو القدّيس غريغوريوس بالاماس لدى الكثلكة الرّسميّة؟. لا أكثر من هرطوقيّ!. لا كان الأب الياس تكفيريًّا، إذًا، لأنّه أحبّ بصدق – المكفِّرون يتعاطون النّاس كمقولات، تتماهى ومقولاتهم أو لا تتماهى – ولا كان، بكلّ تأكيد، زمّيتًا. كان واسعًا، منفتحًا، يعرف أنّ الرّوح ينفخ حيث يشاء. حسبُه، بتواضع قلب، أن يلتقط التماعات الرّوح القدس حيثما تراءت. الميوعة في الموقف، لديه، ممجوجة، وكذا التّصلّب والتّكلّس.

العلاقة بغير الأرثوذكس، من المسيحيّين، حتّى لانتكلّم على غير المسيحيّين، ليست مقاربتها جائزة إلّا روحيًّا. لا العاطفيّة المجوّفة، المتمظهرة بالكلاميّة الرّوحيّة كان لها موقع لدى الأب الياس، ولا العقديّة المتقسِّية الّتي تُضمر أنّ الصّيغ التّعبيريّة الصّحيحة، لبنود الإيمان القويم، كافية لاستقامة الرّأي، كما لو كانت لتنتج، على نحو تلقائيّ، سيرة روحيّة قويمة!. بالنّسبة للأب الياس، العقيدة قائمة في الرّوح!. الرّوح هو ضّامن استقامة الإيمان، لا الصّيغ التّعبيريّة، مهما كانت دقيقة!. الهرطقة تضرب العقيدة، لأنّها، في العمق، تكفر بالرّوح!. إذا كانت العقيدة تحدّث عن استقامة الرّوح، فالرّوح هو الّذي يضمن الاستقامة الدّاخليّة العميقة للعقيدة، فلا تضحى كلامًا في الهواء، ولو عن الله!. لذا كان، وحده، مَن سكن الرّوح فيه، حاملًا للعقيدة القويمة!. لا فصل، إذًا، بين العقيدة القويمة والسّيرة الرّوحيّة القويمة، والمبادرة لروح الله، حتّى لا تضحى العقيدة “نحاسًا يطنّ أو صنجًا يرنّ”!.

هذا القول الأخير ورد، عند الرّسول بولس، عن المحبّة. في الحقيقة، إذا لم تكن المحبّة هي الّتي تحدِّث عن الرّوح، فلا شيء، البتّة، يحدِّث عنه. حامل “العقيدة”، إذا لم يكن محمولًا من الرّوح الفاعل بالمحبّة، فإنّه يوجد متعدّيًا!. يتكلّم على الله ولا يعرف الله. يؤمن لكنّ إيمانه ميت!. أليس أنّ الإيمان بدون أعمال ميت؟. وما عملُ الله؟. أن نؤمن بابن الله بالرّوح والحقّ!. أن يكون لنا ابن الله الألفَ والياء في كلّ أمر!. وإلّا أيّة منفعة؟!. الشّياطين، أيضًا، يؤمنون ويقشعرّون (يعقوب 2: 19)!.

يحزن المرء عندما يرى التّكفيريّين، بالأكثر، كأنّه لا قلب لهم ولا حسّ ولا روح!. لم يكن ليخطر ببال الأب الياس أن يكون أحدٌ قويمًا في عقيدته، وليس قويمًا في كيانه!. مَن لم يكن ليقصف قصبة مرضوضة، أو يطفئ فتيلًا مدخّنًا، كيف لأحد، باسمه، أن يلغي النّاس، ويقطع ما بينهم وبين الله من منطلق التّعابير النّصّيّة؟!. ألعلّ الإنسان نصّ؟. سلطان التّعليم المعطى للأرثوذكسيّة هو في خدمة الكرازة والخلاص لا بغرض الدّينونة!. وحده ربّك يدين، ويدين لأنّه علّام القلوب!. أمّا نحن فلمّا يُعْطَ لنا إلّا أن نشهد للحقّ، ولكنْ بمحبّة غامرة وغيرة متّقدة على خلاص العباد، مَن مات المسيح من أجلهم!. “أغار عليكم غيرة الله”، على حدّ تعبير الرّسول المصطفى (2 كورنثوس 11: 2)!

على هذا، كانت مسكونيّة الأب الياس، على تمسّكها الكامل الرّصين المستنير ببنود الإيمان القويم، مسكونيّة روحيّة بالدّرجة الأولى!. عدم ثقة “المسكونيّين الشّكليّين”، وكذا الّذين يحدّون أنفسهم بالحرف الّذي يقتل (2 كورنثوس 3: 6)، بعمل روح الله، وكلاهما، في العمق، واحد، غريب عن روح الله، أقول، عدم الثّقة، تلك، كانت غريبة، بالكامل، عن رؤية الأب الياس وفكره، ومن ثمّ عن كيفيّة تعاطيه الأرثوذكسيّة في علاقته بالأرثوذكس وغير الأرثوذكس، سواء بسواء.

في الدّير، راهب، هو الأخ خليل (زمكحل)، أتى من خلفيّة كاثوليكيّة يسوعيّة. طلب الالتحاق بالشّركة، لأنّه رغب، في روحه، بأن يجمع الكثلكة إلى الأرثوذكسيّة. لم يتخلّ عن كاثوليكيّته. بقي طويلًا لا يلبس الثّوب الرّهبانيّ الأرثوذكسيّ، رغم اشتراكه في مناحي حياة الدّير إلى حدّ بعيد. هذا سمح له الأب الياس أن يكون كما أراد، حتّى إنّه سمح له بمساهمة القدسات في الشّركة وفي الكنيسة الكاثوليكيّة، سواء بسواء. استبان رجلَ صلاة ممتازًا. وقليلًا قليلًا لبس الغمباز والجبّة وترك ذقنه يشعر. هذه، طبعًا، لا تصنع راهبًا. الأهمّ هو الرّحابة الّتي أبداها الأب الياس. لكن، أثار وجود الأخ خليل بعض التّساؤلات والمخاوف، هنا وثمّة. طبعًا، هذا موقف لا ينتمي إلى المواقف المألوفة. بإمكان قاصري الفهم، بيسر، أن يدينوه. لكنّ الأيّام أبانت أنّ وجود الأخ خليل، في الشّركة، في الحقيقة، كان غنًى ولم يكن تهديدًا!. وأكثر ما تأثّر الأخ خليل كان بوجه أرثوذكسيّ بارز هو الأب الأرشمندريت أندره سكريما. زبدة القول أنّ مَن كان وراء هذه الخبرة الفذّة وهذا التّعاطي الرّاقي لانقطاع الشّركة بين الأرثوذكسيّة والكثلكة، على نحو مبدِع، كان الأب الياس!. هذا، ربّما، لم يُحدث أيّ تغيير في خارطة الصّراع التّاريخيّ بينهما، لكن الشّهادة المؤدّاة استبانت علامة فارقة أنّ الرّوح يهبّ حيث يشاء، وبمن يشاء، وأنّ ثمّة مَن ليس مستعدًّا لأن يسلّم بآخريّة حال التّكلّس الدّاخليّ المستحكمة بالعلاقات بين الأرثوذكسيّة، كنيسةً، ومَن ليسوا منها، من المسيحيّين!. وفي ذلك دينونة لمن يقيمون في فرّيسيّة جديدة، مهما كانت منتظمة، في ظاهرها!. في اعتماد ما يتراءى معيارًا رياءٌ قاتل!. وما رجال الله إلّا هداة لمَن يبحثون عن الحقّ في حركة روح الله، ويستمرّون…

وتستمرّ القصّة…

الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ
الأحد 2 حزيران 2019

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share