خبرات في الفرقة الحركيّة

إيلي كبة Monday June 3, 2019 698

( قُدّمت هذه الورقة في مؤتمر مركز جبل لبنان سنة 2013 )

 إنّ الانسان إذ هو مخلوق ليدخل في شركة مع الثالوث القدّوس، ومدعوّ إلى الإرتقاء في الحبّ، من الصورة إلى المثال الإلهيّ، اختار بالعكس طريقًا منحدرًا لا صاعدًا…. وأقام الانشقاق،”انفصل عن الله وتمرّكز على ذاته… وما عاد ينظر إلى العالم كسِرّ للشركة مع الله”.
إنّ البشر صاروا معرّضين للكبت والضجر والانهيار، فبدلاً أن يكون العمل مصدر فرح للانسان ووسيلة للشركة مع الله، صار عناءً، “بعرق جبينك” (تك3:19). صار العالم رمالًا متحرّكة، يُغرقني في هموم الغد ومشاكل الماضي، ويدفعني إلى التحزّب والخلافات والقلق والطمع والتقوقع، إلى عشق المال وأهواء متعدّدة، ألجأ إليها ليس فقط بحثًا عن ملذّات، بل أيضًا خوفًا من الموت والزوال ووهمًا بإشباع عطشي إلى المطلق والكمال وتحقيق الذّات وعلاقاتها فيزيدني انفصامًا وتشرذمًا. ونحن نتوه أحيانًا، فنجلب منطق العالم إلى الكنيسة والحركة، فنتعامل مع مشاكلها، لأنّ للكنيسة المجاهِدة مشاكل وللبشر فيها أهواء وأنانيّات، نتعامل مع مشاكلها بلغة العالم الساقط وننسى أنّها مكان حضور المسيح. نحوّلها إلى شكل فقط لكنيسة الربّ بمضمون عالميّ.
يحتاج الانسان إلى أن يستعيد وحدته باتّصاله بالله وعدم سبي فكره إلى ظلام العالم. يصطبغ الانسان بالمسيح فيخرج إلى عمله حاملاً فكره ويتعامل مع ما يواجهه كلّ يوم وهو مسنود إلى صخرة لا تتزعزع. يتعزّى ويغتذي في الكنيسة ليقتني في قلبه قوّة لا تُنزع منه لا بفقر أو اضطهاد أو ظلم فيتعامل مع العالم دون أن يغرق فيه مدركًا جوهر الناس ومشاكلهم لا ظاهرها.

مكان نموّ ومساندة وشفاء.

شاركتُ في اجتماعات الفرق وتعلّمت من الانجيل أنّ الحركة بمثابة الجميّزة التي أصعَد إليها بسبب قصري لأرى المسيح. وأنّ الجماعة هي كالأربعة الذين حملوا المخلّع. تعاطت الجماعة مع أزماتي وعجزي وتبتكر كلّ يوم وتبادر لتجد طريقًا توصلني به إلى المسيح عبر مسؤوليّات أفشل في بعضها وأنجح في بعضها عبر مرجعيّة ألجأ إليها، عبر مرفأ أرسو فيه. مكانُ لقاء لي ولعائلتي وأولادي، بخلوات واجتماعات وصلوات وخدمة. يقول الرّسول بولس “إنّنا نحن الكثيرين خبز واحد، جسد واحد، لأنّنا جميعًا نشترك في الخبز الواحد”. نأتي من الكأس الواحدة، من حضورنا ضمن الجماعة المحلّية وارتباطنا بالعالم كلّه. تفتح لنا الجماعة كلّ المجالات، من سبر غور قلوبنا إلى الارتباط بالكنيسة الجمعاء وتبنّي قضيّة حضور المسيح في العالم أجمع.
“يؤكّد القدّيس مكاريوس في عظاته أنّ “في القلب أغوارًا لا يمكن سبرها. فهو ليس إلّا وعاء صغيرًا. ومع ذلك توجد فيه تنانين وأسود وفيه مخلوقات سامّة وكلّ مكامن الشرّ، وهناك طرق وعِرة وملتوية وشقاقات. وإزاء هذا كلّه يوجد الله أيضًا والملائكة، وتوجد الحياة والملكوت والنور والرّسل والمدن السماويّة وكنوز النعمة: كلّ الأشياء موجودة فيه.
الجماعة تعلّمني أن أرفض حضور التنانين في قلبي وأن أملأ الزّمن بما يخصّ المسيح وإنجيله وبشارته والشهادة حتّى تمتلىء طاحونة أفكاري بأجود أنواع القمح بدل النفاية.
حضوري في الجماعة يعدّل ويقدّس ويفتدي الزمن فيُسكنني هاجس التحضير والعمل كي أكون على مستوى ما تتوقّعه منّي. أمر متعب لكن جزء لا يتجزّأ من جهادنا في الجسم بأكمله.
ولا بدّ أن أُخطىء، لكنّ القيام من السقوط أصبح له هدف، هو أن أقف مجدّدًا ناطقًا بكلمة الربّ وعاملاً في حقله، بتواضع لإدراكي أنّني تعثّرت لكنني لم أغرق. بل ارتباطي بالجماعة سبيل خلاصي، وحجّتي لأقوم وأبدأ من جديد، وقد كُسِرَ الاعتداد بالنفس وزاد الاتّكال على الله.
بنموّ الفرد تُثمر الجماعة أيضًا، تطالب بعضها بالمحبّة والرّعاية المتبادلة وتسعى أن ينمو كلّ أفرادها بالمشاركة والتعاضد. وكأنّنا كلّنا معًا نزداد قربًا من المسيح. وإذا تخلّف البعض، كأنّنا كلّنا تراجعنا بدرجة معيّنة. وإذا أنا تخلّفت أدرك عمق مسؤوليتي في تعطيل مشروع الربّ لدى آخرين.

تحتضن الجماعة العائلة: فيشارك أولادي في اجتماعاتها يخدمهم أناس أحبّوا المسيح وأحبّوهم، وتزرع في الذهن شخص المرشد المكرَّس الذي يحضن ويعلّم ويَسكب المسيح. ومن خلال كلّ الفرق والأعمار، تختلف الخُبرات وطرق العمل والمضمون المعطى لكن يبقى الجوهر ذاته، كيف يتعزّز الايمان بالله كشخص. نشارك العائلات، تتعلّم وتحيا. تحتضن كي ترمي مشاكلها وهمومها في أحضان من حولها فتجد من يهتم ويصغي ويساعد ويتابع ويلقي ضوء الانجيل.

خبرات مالية\ رعاية جامعية \ تأسيس عمل \ زواج \ رعاية أرملة وأولادها\ مساهمة في عشاء وسواه.

فرصة لتقديم بواكير للربّ حتى تُبَاركُ الغلّة وتُكسَر الأنانية والطمع. ويشارك الانسان بأكمله ومالُه يُرمى على أقدام السيد، نقدّم له ما هو له.

الثقة المتبادلة والإصغاء

في سبيل تحقيق ما يخلّص النفوس ويفكّ أسرها تحتاج الجماعة إلى الالهام والتحفيز والصوت الانجيليّ، والحفاظ على حضور الرّوح، الذي لا يُحْصرُ في هيكلية أو برنامج أو أشكال تعوّدناها بل يكسر كلّ الأطر إذا لزم للحفاظ على القضية الموروثة. ولنجاح الجماعة وبنائها، لا ينفصل أيّ عمل إداريّ أو ماليّ أو تنظيميّ عن المسيرة بأكملها فتبقى الرّعاية والتعزية والافتخار بالكلمة سبيلنا لتحقيق المراد.
تصغي الجماعة إلى كلّ من اختبر العمل أو اعتنى به بطريقة أو بأخرى. مِن صُلب تكوينها، أنّها منفتحة دومًا لأنّ الرّوح يهبّ حيث يشاء، لذا لا تُهمل أو تتغاضى عن هموم ومخاوف وتردّد البعض وضعفهم. بل تصغي وتستشير من أبدى رأيًا لا بل تطلب الآراء باختلافها لتقرأ مشيئة الربّ اليوم (مشيئة ورؤية البعض). اذ قد يقف البعض عند خبرات ماضية اختبرها ويُسقطها على الحاضر متجاهلاً أنّ التجدّد حاصلٌ كلّ يوم وقد تقتضي التغيير.
قد تفرح الجماعة بحجمها ودورها وتتباهى بماضيها وبما أنجزت، وبمن اجتذبت للانخراط لكن لا تنسى التواضع حتّى لا تصبح نخبويّة، وحتّى لا تُسخَّر الأرثوذكسية لنتفاخر بها، كأنّها مجدٌ استحقّته لا وزنة للتجارة والرّبح، لربح البشر إلى قضيّة الخلاص لاصطياد الناس ليمجّدوا الله في نفوسهم. إذا تفاخرنا بأنفسنا قد نصبح حجر عثرة بدل أن نكون من حجارة الزاوية. “نحن مشهَد للعالم” ينظر إلينا الشباب  ليروا  كيف تُحَلّ الخلافات في أوساطنا، كيف نكسر كبرياءنا حتى لا تُحجب المحبّة، كيف أنّ المرشد المتمرّس يستطيع أن يصمت أحيانًا ليصغي ويتّعظ، ويستلهم من سواه. كيف يستطيع المسؤول المخضرم، صاحب الخبرة المتجذّرة أن يكون خادمًا وجدّيًا يطيع في خدمة قضيّتنا الكبرى، لن نكون ملهِمين إذا انقسمنا مهما كانت أسبابنا لن نكون حمَلَة رسالة إذا ظهر تشرذُمنا وعجزنا عن تذليل عنادنا تجاه البعض الآخر. وستفقد الكلمة وهجها إذا نطقنا بها لتبحث عن سوانا لينقل معناها وقوتّها. فلتُفتح منابرنا وصفحاتنا للشباب الأصغر سنًّا ليعبّروا بلغتهم عما اختبروا في صفوفنا وعن ما زالوا يلتمسونه ويسعون إليه. حكمة الشيب يعوزها نضارة الشباب.
كلمة الانجيل والنار المنبعثة فيها قادرة على اقتحام الأسوار المشادة حول القلوب، لترتوي من عطش لا يشبعه شيء آخر. ما يعزّز الثقة بمَن يقود ويوجّه الصبر على الضعيف، والحزم متى شُوّه العمل، عدم الاستخفاف بمشاركة البعض ولو بقدرات متواضعة، عدم الادانة وسجن البعض الآخر ضمن قوالب رسمناها، وكأنّ الربّ عاجز عن تقدّمهم.
ما يعزّز الثقة عدم تناسي جهاد النفوس وخلاص القلوب والمسيرة في الحياة الداخليّة لكلّ فرد، عدم تناسي العمل والكلام الذي يحرّك كلّ الكيان بقوّة الروح، وأن لانكتفي بمحاجّات منطقيّة عقلانيّة قد تشابه أهل هذا الدهر.
ما يعزّز الثقة هو تقبّل مَن تميّز في سبل يسلكها ضمن أطر الكنيسة، لا نخاف القلق الذي قد يسبّبه ولا نرتاح في سبات ضمن أطر محدودة، ولا نخشى زعزعتها لأنّنا عمّال في حقول الربّ لا في خدمة أشكال محدودة.
ما يعزّز الثقة عدم الغرق في السلبيّة والانتقاد والتعامي عن إيجابيات عديدة، نشهد عليها كلّ يوم بشهادة وعمل وصلاة المئات والآلاف. الفرق في وصف ما يحبط سهل وجذّاب، أستر به كسَلي وعجزي لأ برّره وأذبيه في ما قد أوحيَ به من عجز الجماعة وكسَلها وهذا منافٍ للحقيقة ولا يصدر إلّا عن ظلام وكبرياء في النفس.

كيف يُقاس النجاح في عمل ما؟

إعداد المشاركين أم بالتوبة وحركة النفوس في حضور ولو قلّة! نجاح شكل النشاط أم حضور المحبّة والغيرة المقترنة بالمعرفة في الإعداد له! يقاس فرح اللّقاء وإدراك عظمة ما ننجز عندما يكرّس كلّ منّا وقتًا ليتقدّس بمعاشرة الكلمة ورؤية الإخوة والتعزية بحضورهم فردً فردًا.
تعزّز الثقة عندما نعمل ببساطة فاعلة بدل عظمة عاجزة حتى لا نقع محبَطين مبرّرين الفشل بكسل الإخوة والحقيقة أنّنا قد نكون تجاهلنا مشيئة الربّ التي قد تكون أبسط ممّا نظن.

الخاتمة: “لأن محبّة الله أفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي هو لنا” (رو5: 5)

قصّة السقوط، تتبعها بحسب الترتيب الكتابيّ، لكن تسبقها زمنيًّا من حيث الصياغة، قصّة الخروج، خبرة البشر لله المحرِّر الذي ينقذنا من العبوديّة فيقودنا ويطعمنا ونصير له شعبًا ويكون لنا إلهًا. تختبر الجماعة يسوع المخلّص المحرّر الذي يقودها دومًا فمَع برية العالم خروجًا من عبوديّته إلى سِرّ الجماعة الملتفّة حول الربّ الراعي كي لا يعوزها شيء.
ذكّرهم” أن يطيعوا ويكونوا مستعدّين لكلّ عمل صالح، ولا يطعنوا في أحدٍ ويكونوا غير مخاصمين حلماء ومظهرين كلّ وداعة لجميع الناس” (تيطس 3: 1-2).
خبرة الربّ الرّاعي والمحرِّر ننقلها للجميع ملتفتين إلى وصيّة الرّسول ونطلب اليكم أيّها الإخوة انذروا الذين بلا ترتيب شجّعوا صغار النفوس أسندوا الضعفاء تأنّوا على الجميع. افرحوا في كلّ حين، صلّوا بلاانقطاع، اشكروا في كلّ شيء لا تطفئوا الروح” (اتسا5)

إيلي كبة

182 Shares
182 Shares
Tweet
Share182