خواطر حول الفرقة الحركية

جورج معلولي Monday June 10, 2019 742

تحيا الفرقة الحركية من المسيح الذي يحل في الجماعة. إذ هكذا أحب الله العالم أنه بعد أن بذل إبنه الوحيد حتى لا يهلك كل من يؤمن به، أرسل روحه لينشئ إمتدادا لجسد يسوع الممجد الجالس عن يمينه. ليتم ما قاله الرب أنه معنا حتى انقضاء الدهر وأنه يتماهى مع هؤلاء الذين “لا يستحي أن يدعوهم إخوة” قائلا ” أخبر باسمك إخوتي وفي وسط الكنيسة أسبحك…وأيضا ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم الله” (عب 2 : 10 – 13 ). تحيا الفرقة من أخوّة يسوع نفسها ومن محبتها لإخوة يسوع.

سرّ أخوّة يسوع أنه ” إذ تشارك الأولاد في اللحم والدم ” أي في الطبيعة البشرية السريعة العطب، اشترك هو أيضا فيها ولم يأنف أن يتخذها جسدا له متعهدا محدوديتها وضعفها. كلام الأنبياء والشريعة لم يكف حتى يكون الله أخا للبشر. ليس الله ساكنا في برج عاجي يتصدّق علينا بكلمات. صار الكلمة بشرا وضرب خيمته في حيّنا.   تأنسُ الله هو التعاطف الكلي مع الإنسان بحسب الرسالة الى العبرانيين : ” كان ينبغي أن يشبه إخوته في كل شيء لكي يكون رحيما…لأنه في ما هو قد تألم مجرَبا يقدر أن يعين المجرَبين” (عب 2 : 17 ). وضع الله نفسه مكان الإنسان من دون أن يُبطل ألوهيته لتكون جاذبيته بوصلة تحرك الإنسان من الداخل، شريعة مكتوبة في القلوب اللحمية وليس على الحجر. تعاطف الله هذا يحكم علاقات الإخوة في الفرقة في جميع مسؤولياتهم وبخاصة الإرشادية والبشارية. تتعدى البشارة كونها نقل رسالة الى كونها لقاء حقيقيا مع المرسَل إليه قوامه الإصغاء والتعاطف. التبني الشخصي للرسالة عند المرسَل اليه والتزام التحول قرارا شخصيا مشروط بتعاطف المرسِل كما يبدو بشكل واضح في تعاطي يسوع المتمركز حول الشخص مع كل من شفاهم أو حوّلهم. فالإنسان-الشخص  هو مركز اهتمام يسوع : ” ليس الإنسان للسبت بل السبت للإنسان” (مر 2 : 23 ).

لمست حركة الشبيبة الأرثوذكسية منذ نشأتها أن الجماعة الصغيرة “مختبر المحبة”1   ” تتجمع فيها حركة الحب التي في الثالوث”2 . هي مختبر بمعنى المكانُ الذي تجري فيه التفاعلات الإنسانية المحوِّلة والمتحولة تربة صالحة لزرع الكلمة. ولكنها أيضا مختبر بمعنى المكان الذي نحيا فيه خبرة المحبة. هي إذًا مكان تحوّل أو ما نسميه توبة أي عودة الى وجه يسوع. صورة هذا ما حدث مع جماعة الرسل في علية صهيون فحولهم من مجموعة بشر سمعوا كلام يسوع الى جماعة يتحرك فيها روح يسوع نفسه من الداخل. مجتمع العنصرة هذا هو مسيرة كل مجموعة بشرية تريد أن تكون إناء للكنز الإلهي ” لحما من لحمه وعظما من عظامه”.

في مجتمع العنصرة هذا ينضج العضو الحركي على نور الروح القدس وناره. فالروح القدس ” أم ملأى بالحنان” (القديس سلوان) وناره لا تطفئ الفتيلة المدخنة ولا تكسر القصبة المرضوضة .ينقذنا الروح من تجربة اليأس المختلطة بالكبرياء والعنف التي تغرينا بإطفاء الفتيلة المدخنة وكسر القصبة المرضوضة في نفوسنا ونفوس الآخرين.   ينحت الروح القدس الوجه الداخلي للإنسان برفق وإبداع المحبة التي لا ترى أحدا مسخا لأن صورته في عقل الله تفوق كل جمال. فالمحبة تتأنى وترفق. وإذا كان ” بولس” قد غرس و”أبلوس” قد سقى (1 كو 3 : 5 ) فالله هو الذي ينمي. وليس في النمو اقتسار.  الغارس والساقي ” عاملان مع الله” ( 1 كو 3 : 9 ) وهذا يحتّم عليهما الجدية الكاملة في تمحيص عملهما البشري بجميع الأساليب المتاحة في العلم وخبرة البشر في التربية والتواصل والمساندة كي لا يأتي عملهما عائقا للنمو. ويتوبان حتى لا تحول ضعفاتهما  بين الإله الذي يحملانه والناس3. حتى لا يتعرقل النمو ” بشهوة أو نزوة أو كبرياء”3  من الغارس أو الساقي.

ولادة الشخص كائنا فريدا شركويا هو العلامة المميزة لمجتمع العنصرة.  لذلك ليست الفرقة الحركية تراكم أفراد منفصلين كالآلات يعملون في مؤسسة جافة باردة أو نظام جامد.  وليست وحدة ذوبانية تضيع فيها مسؤولية الفرادة وتغيب فيها الرؤية. فإذا غابت الرؤية تصير الجماعة الكنسية مجموعة بشر يقولون ” لنأكل ونشرب لأننا غدا نموت” ولا تعود جسدا للمسيح. وإن غابت المحبة تصبح الجماعة الكنسية هيكلا فارغا من الروح ولا تعود جسدا للمسيح. التوتر الخلاق بين الوحدة والتنوع من جهة وبين الروح والمؤسسة من جهة أخرى هو مؤشّر الصحة لكل الجماعة الحركية في حياتها الداخلية.

مسؤولية هذه الجماعة أن يولد منها في كل عضو حركي الإنسان-الشخص : الحرّ، المسؤول (عن الجميع وعن كل شيء)، المنفتح على الله والإخوة، والقادر على النمو.  ربما تتوكأ شخصية العضو في مسيرته على هذا أو ذاك من الشخصيات في الجماعة التي يعيش فيها. فيقلّد أو يتماهى بوعي أو بغير وعي مع هذا أو ذاك من المرشدين أو المسؤولين أو الإخوة الأقدم في المجموعة. غير أن هذا يبقى محطة من محطات النمو وليس كل النمو.  يحكى عن القديس أنطونيوس أنه عندما شارف على الموت سمع أخا يقول عنه : لقد كان أنطونيوس عظيما كموسى. ففتح أنطونيوس إحدى عينيه وقال له : إنك بعيد عن الحق يا أخي. في الملكوت الآتي، لن يسألني الله : لماذا لم تكن كموسى ؟ بل سيسألني : لماذا لم تكن أنطونيوس.

محبة كل عضو حركي لإخوته تؤهلهم للإنفتاح على المحبة. ” الإنسان يصبح قادرا على الإنفتاح والعطاء بقدر ما يشعر نفسه محبوبا. والتربية الإلهية لنا في العهد الجديد حكيمة الى أبعد حد إذ تدربنا على الحب بإظهار حب الله لنا : نحن نحبه لأنه أحبنا أولا. ومن أجله نحب إخوتنا”4 .هذه المحبة مجانية ولا تهدف استرضاء أحد. كما شهد بطرس ويوحنا أمام الكهنة الذين أوصوهما أن لا ينطقا البتة ولا يعلما باسم يسوع فأجابهما : ” إن كان حقا أمام الله أن نسمع لكم أكثر من الله فاحكموا. لأننا لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا ” ( أع 4 : 19 ). يمكن لخطايانا وضعفاتنا أن تقول للإخوة : لا تنطقوا البتة وتحبط فيهم قوة الإنطلاق. حينئذ يجدر بالإخوة – الذين لم يأخذوا روح العبودية والخوف بل روح التبني الذي يشهد في أرواحهم أنهم أولاد الله – يجدر بهم أن يقولوا :  ” إن كان حقا أمام الله أن نسمع لكم أكثر من الله فاحكموا. لأننا لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا ” ( أع 4 : 19 ).

مجانية هذه المحبة  معيار صدقها وفعاليتها إذ تكشفها محبة  غير مشروطة . أي لا تشترط تبادلا. ولا تشترط صفات خاصة في الأخ والأصعب أنها لا تشترط فضائل معينة فيه. فهي المناخ التي تتفتح فيه كل الفضائل في ظل علاقات آمنة ينبت منها الإيمان ثقةٌ وأمناً وأمانة. فالله “بيّن محبته لنا هكذا : لأنه ونحن بعد خطأة مات المسيح لأجلنا ” (رو 5 : 8 ).  مصدر هذه المحبة هي النهر البلوري الذي يدفق علينا من عرش الحمل. هذه محبة محررة،  غير امتلاكية، غير متسلطة لأنها مؤسسة على أخلاق الله أبي ربنا يسوع المسيح الذي يقرع بخفر على أبواب قلوبنا (رؤ 3 : 20 ) ويسمينا أحباء له وأصدقاء (يو 15 : 15 ) ويقول عن كل نفس : ” سَأفْتِنُها وَأقُودُها إلَى البَرِّيَّةِ وَأُكَلِّمُ قَلَبَها  وَسَتُجِيبُنِي هُناكَ كَما أجابَتنِي فِي أيّامِ شَبابِها حِينَ خَرَجَتْ مِنْ أرْضِ مِصْرَ” (هوشع 2 : 14- 15 ).

هذا الإفتتان بأخلاق يسوع الظاهرة في الإنجيل وحياة أصدقائه هو قلب حياة الفرقة وشهادتها . هذه هي الشهادة أن أعضاء الفرقة الحركية قد شاهدوا مشهدا أذهلهم حتى صاروا صورة له، مشهدا للمشهد أو أيقونة له. لا يمكن للفرقة الحركية إلا أن تشهد لما رأته بعيونها وشاهدته ولمسته أيديها من جهة كلمة الحياة ( 1 يو 1 : 1 ) . تذوق  الفرقة الحركية رحمة الإله المتجسد وتنشأ منها أي أنها ترى ضعفها وتؤمن في الوقت عينه أن قوة الله في الضعف تكمل. وكما قدم  أندراوس خمسة أرغفة شعير وسمكتين، تقدم الفرقة نفسها للرب حتى يجعلها طعاما يشبع الجائعين.  

جورج معلولي

  1. حياة الشركة. ريمون رزق. مؤتمر مركز جبل لبنان لسنة 2013-2014
  2. شهادة للبدايات. المطران جورج خضر. مجلة النور. السنة 58 العدد 9
  3. اليوم. المطران جورج خضر. رعيتي 27 أيلول 1992
  4. الحركة في حياتها الداخلية. كوستي بندلي. أنطاكية تتجدد. منشورات النور.
93 Shares
93 Shares
Tweet
Share93