الأب الياس مرقص – التماعات أنطاكيّة .!. (٧)

الأرشمندريت توما بيطار رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ Sunday June 23, 2019 111

الإنسان عين. يتجلّى في عينيه. تواصلُ الكيان بالكيان لا يكون إلّا بتلاقي العين بالعين!. لغة العين أبرز لغات الإنسان ومحورها. لا بديل عنها ولا مثيل لها. كلّ معرفة من دون لغة العين ناقصة سطحيّة. لا تعرف ما في الإنسان إلّا من خلال عين الإنسان!. العين لا تكذب وإن تعاطى صاحبها الكذب. تُظهِر الإنسان على حقيقته… لمَن يعرف كيف يقرأ!. هذا في ما خصّ الإنسان. الكلام في روح الله وقلب الإنسان شيء آخر.

كانت عين الأب الياس على بلاغة فذّة!.

لبس نظّارتين قاتمتين في أوائله، لكنّه تخلّى عنهما في ما بعد. أعرف، كانت عيناه على شيء من الضّعف. يقرأ كثيرًا ويكتب كثيرًا. لكنّهما، إلى ذلك، أدّتا وظيفة أخرى. هذا لا تعرفه إلّا متى تسنّى لك أن تعرف الأب الياس عن كثب، لا فقط في مستوى المعرفة الفكريّة. المعرفة السّطحيّة الظّواهريّة لست أذكرها لأنّها عابرة. إذًا، لا فقط تعرف الأب الياس، في مستوى ما للفكر، بل، بالأولى، في مستوى ما للقلب والكيان. لذا كان أبلغ في ما للعين ممّا كان في ما للّسان!. وأبلغ ما في خطابه دموعه وصلاته!. والدّمع والصّلاة، لقلب لمسه روح الرّبّ، جناحا طائر واحد!. كلّ ألفاظ العين لدى الأب الياس كانت فصيحة!.

قلت، في مقال سابق، إنّ معرفتي الأولى به كانت وهو في توار وراء زجاجتين سوداوين. كلّه، يومها، حتّى بقيّة شعره، كان أسود!. بالنّسبة لي، لم يكن هذا من دون مغزى. هذا ختم صحراء!. خرج بالكامل من عالم الأحياء!. اقتبل الموت عن نفسه بالكامل!. وبما أنّ هذا لا يقتصر على ما للظّاهر، فإنّه أسدل ستارًا على عينيه. لا فقط حَجَب رؤية النّاس له، بل حجب، بالأَولى، رؤيته هو للعالم، حتّى لا تكون مسيرته في ما للظّاهر، بل في ما للقلب، ما ينبغي أن تكون عليه الأمور، أصلًا، وإلّا لا معنى لمغادرته “لاذقيّته”!. كانت نظّارتاه مؤشّر دخوله إلى أغوار عفّ عنها التّاريخ الحديث عندنا!.

كان الأب الياس حييًّا في نشأته. هذا إلى رصانته. هاتان الصّفتان، لما اقترنتا بالرّغبة في الخروج من العالم، تبلورتا طلبًا للملء!. البرّيّة كانت لديه ملتقى السّماء بالأرض. وإذ لم تكن الصّحراء المادّيّة تعنيه، إلّا بمقدار ما تساعده على ولوج الصّحراء الدّاخليّة، في نفسه، لأنّه لم يشأ أن يغادر العالم إلّا بقصد الاتّحاد بالنّاس، لا سيّما ناس كنيسته، ومن ثمّ بذْل ذاته، بخاصّة لرعاية الشّباب، أقبل على عنف مع نفسه، لا هوادة فيه. الأب الياس، لا سيّما في أوائله الدّيريّة طلب أن يوتّر حبل نفسه، حتّى بصق دمًا!. عندي أنّ الأب الياس، في عمقه، صار، في ما بعد، عطوفًا، كما صار، أو قل ازداد رفقًا بالنّاس، في أوهان نفوسهم، لأنّه عرف هشاشة نفسه أوّلًا وبالأكثر، ومجّها، وقسا على ذاته قسوة كبيرة في المرحلة الذّهبيّة من حبّه الأوّل.

قليلون يعرفون أنّ الأب الياس، كان يتوق إلى الكمال، بتصميم لا يلين، وكان، في آن، يحتقر نزوع نفسه إلى أوهان الضّعف، لا فقط لأنّه ازداد سريعًا، لتشدّده مع نفسه، معرفةً بنفسه، بل لأنّه كان يحمل، في قرارة نفسه، جراح كنيسته وتكلّسها، وروحَ الرّيادة في سبر أغوار الحياة الدّاخليّة الّتي اعتبرها أساسًا لكلّ نهضة ممكنة لشعب كنيسته، توسّمًا لحلم طائر الفينيق في قيامته من رماد التّخلّف والتّردّي!. وفي ذلك، تخطّى الأب الياس نفسه واندفع إلى صحرائه الدّاخليّة بهمّة ونشاط كبيرَين. كان، معًا، يرى بلادة نفسه ويمجّها ويرى إلى زمن جديد، اشتهاه وعدًا لكنيسته القعيد!.

بالعودة إلى النّظّارتين السّوداوين، وما ربض وراءهما من أسرار النّفس، هذا، ورغم أنّ أعماق الأب الياس، قليلًا ما كشفها لأحد، فإنّ مَن رافقه، كان بإمكانه أن يلاحظ الكثير ممّا وراء الحجاب، خاصّة بعدما نزع الأب الياس نظّارتيه، ولو بصورة غير نهائيّة. صلاته الآتية بيسر ودموعه الّتي تسيل بصمت ووفرة كانتا من معين كيانه بعدما استغرق سنينًا في التّوغّل في صخريّة نفسه. بلى، بذل دمًا قبل أن يستنبع ماء للعين وصلاة للقلب!.

في جلوسك إليه، كان بإمكانك أن تلمح أنّ النّظرة، في عينيه، لم تكن إلى ما أمامه بل إلى البعيد وإلى داخله في آن، كمَن يستحضر ما هناك إلى ما هنا ويحمل ما لديه هنا إلى ما لدى ربّه هناك، في فعل ترجٍّ، يتلألأ في عين مرطّبة بالدّمع أبدًا، لا سيّما في الملمّات، والآلام والأحزان الّتي يلقيها عليه الموجوعون في اعترافاتهم. صحيح كان يقول عن نفسه إنّه سلّة مهملات للنّاس، لكنّه كان، بنعمة الله، يرفع المهملات إلى ربّه، بأنين كيان، ليحوّلها سمادًا لزرع جديد في النّاس. لم يكن يسمع ليسمع فقط، بل، بالأَولى، ليسأل ربّه أن يرطّب نفوس قاصديه حتّى لا تذهب معاناتهم سدى!. عينا الأب الياس، في كلّ حال، في تركيبة وجهه، لم تكونا نافرتين أو مسطّحتين، كأنهما من صفحة الوجه، بلا نتوء، بل كانتا إلى الدّاخل، بشكل ملحوظ، تحدّثان، بالأحرى، عمّا يعتمل في داخله، في قلبه!.

في عينيه أيضًا كان سكون وثبات. كان ضنينًا بصون هدوء نفسه، مهما اضطربت الأمور لديه ومن حوله. لم أعرفه، يومًا، يترك عواطفه دون لجام. يخاف؟. لا شكّ!. كما قلت سابقًا، لم يكن بلا هوى، لكنّه يمسك نفسه فلا ينفرط عقدها!. ومتى اشتدّت عليه الصّعاب يبكي!. الصّلاة كانت منفذه وربيبته في كلّ حال. ولا صلاة لديه من دون دمعة ولو داخليّة، لأنّه كان يمجّ الصّلاة بلا إحساس!. الكلام عينه يوافق سائر العواطف لديه. يفرح ويحزن ويصدر صيحات ابتهاج مع نَقْف الإصبع: !”Allons-nous à la marchandise” في ذلك كلّه، في كلّ حال، كان، بحسّه الدّاخليّ، يحفظ نفسه في توازن أخّاذ!.

وماذا أقول في حنان عينيه؟. يضمّ الآخرين برفق وحنان كبيرين، لا سيّما متى كانوا موجوعين!. يبثّهم الأمان والرّجاء!. يَفهمهم. يُلازمهم. يَتّخذهم. ويأبى أن يُخليهم. فلا غرو إن قصده العديدون. لم يعطهم حلولًا، بالضّرورة، لهمومهم. همّه، أوّلًا، كان أن ينقل إليهم محبّة الرّبّ يسوع ومحبّته هو، أنّ فيها الحلّ لكلّ ما يعانون. لذا كانوا يغادرونه بسلام. يدلّهم إلى مَن بيده الحلّ والرّبط، وبعد ذلك، إن وعوا، تنحلّ همومهم!. القاعدة أنّ الكلّ هو من أجل أن نأتي إلى السّيّد، فإن تفقّهنا بالألم، إن كانت المعاناة ألمًا، فلا يعود للألم مبرّر وجود. يرتحل!. ربّك هو المرتجى في كلّ ما تعبر به، فمتى جئتَه تَحقّق الغرضُ ممّا جاء بك إليه. هذا، إذ ذاك، إمّا يتبدّد كأنّه لم يكن، أو يبقى، من باب تدبير ربّك، دون أن يضنيك!. تعايشه لأنّك تتعلّم أنّنا إن عشنا فللرّبّ نحيا وإن متنا فللرّبّ نموت!.

لبس الأب الياس نظّارتيه لكي لا يعود ثمّة ستار بينه وبين النّاس. القريب من ربّه قريب من الجميع. ومَن أعطاه ربّه أن يعاينه بحسّه، أوّلًا، ثمّ وجهًا لوجه، فإنّه، تلقائيًّا، يعاين النّاس في أوجاعهم، معاناةً، إذ يضحى كأنّه شريك لهم فيها. هذه لغة الوداد!. لغة العين هي لغة القلب بامتياز!. تُعلّمُ الحبَّ. تُشرق نورَ مَن أحبّ على مَن يرومون المحبّة. في نهاية المطاف، كان الأب الياس إلى ربّه، أو، على نحو أدقّ، يتيمًا إلى ربّه!. عرف معنى قول السّيّد لتلاميذه: لا أترككم يتامى لأنّي آتي إليكم!. لذلك عرف، عرف الأب الياس أن يتبنّى النّاس فلا يكسر اليُتمُ قلوبهم!. يسمح ربّك بأن تقع في اليتم لتعود إليه متيّمًا!. لعمري، ذاق الأب الياس الوَجْدَ الإلهيّ ورحل وقلبه يردّد ما طالما ردّده لدينا: “حبيبي يزمّر لي وأنا أتبعه”(نشيد الأنشاد)!.

وتستمرّ القصّة…

الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ
الأحد 23 حزيران 2019

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share