الأناجيل إن حكت

أسعد الياس قطّان Monday September 30, 2019 1542

في أواسط القرن الميلاديّ الثاني، يكتب القدّيس إيريناوس أسقف ليون ما معناه أنّ في الكنيسة أربعة أناجيل كما أنّ هناك في العالم أرياحاً أربعة وزوايا أربع. ماذا يمكننا أن نستنتج من هذا الكلام؟ لم يخترع إيريناوس «قانون» الأناجيل الأربعة، بل هو يعبّر عن خبرة كنسيّة سابقة له تتلخّص بأنّ هذه الأناجيل هي التي تنطوي على بشارة يسوع الحقيقيّة وتعبّر عنها بدقّة. من الواضح أنّ القدّيس في ضيق مع نفسه حين يبحث عن الأسباب: لماذا أربعة أناجيل؟ وهو لا يجد مخرجاً سوى أن يقيم توازياً بين العالم الذي نعيش فيه والكنيسة: العالم له أربع زوايا وفيه تهبّ أربعة أرياح، وكذلك الكنيسة لها أربعة أسس تستند إليها هي الأناجيل الأربعة متّى ومرقس ولوقا ويوحنّا. والحقّ أنّ الدارسين ما زالوا يطرحون السؤال حتّى اليوم: ما هي العوامل التي أدّت إلى أن تفرض هذه الأناجيل ذاتها دون عدد لا يستهان به من «الأناجيل» الأخرى التي اعتبرت منحولة؟ ربّما يمكن عزو هذه الظاهرة إلى أنّ كلاًّ من الأناجيل القانونيّة ارتبط بواحدة من الكنائس الكبرى في العالم القديم: رومية (لوقا)، الإسكندريّة (مرقس)، أنطاكيا (متّى)، أفسس (يوحنّا). ولكنّ الأهمّ من السبب في ذاته هو ظاهرة التعدّد. لقد ارتضت الكنيسة منذ مطلع القرن الثاني أن يكون لديها أربع روايات مختلفة عن السنين الأخيرة في حياة يسوع الناصريّ، وقاومت في المبدأ كلّ محاولة لاختزال هذا التعدّد في رواية واحدة. من هذا المنظار، الأناجيل الأربعة أشبه بأيقونات أربع تنظر كلّ واحدة إلى يسوع من زاوية مختلفة، تفترق تارةً وتتقاطع طوراً، ولكنّها تتكامل في وجدان الجماعة الكنسيّة التي تعتبرها، إلى جانب رسائل بولس، أقدم الشهادات الإيمانيّة عن يسوع وأوثقها.

ليس من الصعب أن نرصد التشابه الكبير بين الأناجيل الثلاثة الأولى، متّى مرقس ولوقا، واختلافها الكبير عن الإنجيل الرابع، أي يوحنّا. ولذا هي تدعى »إزائيّة». تلتقي الأناجيل الإزائيّة على أنّ يسوع في أثناء بشارته يصعد مرّة واحدةً إلى أورشليم فيما نجده يزور المدينة المقدّسة أكثر من مرّة في إنجيل يوحنّا. وبينما تغصّ الأناجيل الإزائيّة بعجائب يسوع، ولا سيّما طرد الأرواح الشريرة، يحصر الإنجيليّ الرابع هذه العجائب بسبع «آيات» أوّلها تحويل الماء إلى خمر في قانا الجليل وآخرها إقامة لعازر. طبعاً ثمّة فوارق أخرى كثيرة بين الأناجيل الإزائيّة وإنجيل يوحنّا لعلّ واحداً من أبرزها هو أنّ عشاء يسوع الأخير مع تلاميذه في متّى ومرقس ولوقا هو عشاء فصحيّ. أمّا العشاء الأخير في الإنجيل الرابع، فيجري قبل ليلة الفصح بيوم واحد.

يتّفق معظم البحّاثة على أنّ إنجيل يوحنّا كان آخر الأناجيل القانونيّة كتابةً ويعود على الأرجح إلى أواخر القرن الميلاديّ الأوّل فيما مرقس هو أوّلها كتابةً، ربّما حوالى العام ٧٠ للميلاد، أي قبل احتلال القائد الرومانيّ تيطس مدينة أورشليم بقليل أو بعده بقليل. ويقع تحرير إنجيلي متّى ولوقا بين سقوط أورشليم ونهاية القرن الأوّل. وفيما يميل الدارسون إلى الاعتبار أنّ يوحنّا كان مطّلعاً على الأناجيل الإزائيّة، فلقد بات من المؤكّد اليوم أنّ إنجيل مرقس كان واحداً من المصادر المكتوبة التي استند إليها كلّ من متّى ولوقا، وذلك بسبب عظم المادّة المشتركة والتقاطع الكبير في الألفاظ وتركيبة الجمل.

لئن كان التلاقي بين الأناجيل الإزائيّة يحيلنا إلى كون مرقس مصدراً لكلّ من متّى لوقا، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ كلّ واحد من هذه الأناجيل هو مجرّد نسخة معدّلة عن الآخر. فبعد انقضاء قرون طويلة من الدراسة المكثّفة للأناجيل، بات من الثابت اليوم أنّ كلّ إنجيل هو «تأليف» خاصّ بكاتبه وأنّه يعبّر عن مقاربة لاهوتيّة فريدة لحياة يسوع الناصريّ وموته وقيامته. يجمعُ متّى ولوقا مثلاً اهتمامٌ بطفولة يسوع يفصح عنه الفصلان الأوّلان من كلّ إنجيل، ويغيب هذا الاهتمام في مرقس. ولكنّ الاختلاف في المقترب قائم حتّى في روايتي متّى ولوقا لطفولة يسوع. ففيما نعثر لدى متّى على رواية «ذكريّة» يضطلع يوسف فيها بدور مركزيّ وهي مكتوبة من وجهة نظر الأنساب اليهوديّة، تتّصف رواية لوقا بطابع «أنثويّ» يدور حول شخصيّة مريم تحديداً مع ظهور واضح لنسيبتها أليصابات ولامرأة أخرى تعيش في وسط الهيكل هي حنّة النبيّة. هذا الاهتمام بالنساء يميّز إنجيل لوقا بشكل عامّ، فضلاً عمّا نرصده لديه أيضاً من عناية بالطبقات الفقيرة من الشعب (بشارة الرعاة).

حظي إنجيل متّى بمكانة مرموقة في القرون المسيحيّة الأولى. وربّما يعود هذا إلى سهولة استعماله في التعليم والتبشير. يلفت في الإنجيل على هذا الصعيد أنّ الكاتب رتّب كلمات يسوع في خمس عظات كبرى لعلّ أبقاها في وجدان القرّاء هي العظة على الجبل (٥-٧). ويعكس إنجيل متّى على وجه العموم أجواء كنيسة مسيحيّة معظم المنتمين إليها هم من أصول يهوديّة ولكنّها منخرطة في انفتاح حقيقيّ على المؤمنين بيسوع من الوثنيّين. وتومئ عظة يسوع «الكنسيّة» (١٦-١٨) إلى ما كانت تواجهه هذه الكنيسة من تحدّيات.

بخلاف الإنجيل الأوّل، فإنّ إنجيل مرقس لم ينل اهتماماً لاهوتيّاً كبيراً في القرون الأولى للمسيحيّة، ربّما بسبب قصره وميل المفسّرين إلى استخدام الأناجيل الأغزر مادّةً والأكثر «دسامةً». ولكنّ الدراسات التي شهدتها العقود الأخيرة أظهرت أنّ إنجيل مرقس لا يقلّ مرتبةً عن الأناجيل الأخرى من حيث غناه اللاهوتيّ. وتبيّن الآية الأولى فيه أنّ يسوع بالنسبة إلى الإنجيليّ هو «المسيح» و«ابن الله» مع كلّ ما يشتمل عليه هذان اللقبان من مضامينَ تحيل لا إلى قصّة الله مع شعبه إسرائيل فحسب، بل إلى المفاهيم المنتشرة في العالم الرومانيّ عن القيصر بوصفه ابناً للآلهة. وفيما يعترف بطرس بيسوع على أنّه «المسيح» (8/29)، تبقى معرفة بنوّة يسوع لله في الإنجيل محصورةً بالأرواح الشريرة وبالقائد الرومانيّ عند الصليب (15/39).
اعتُبر إنجيل يوحنّا أكثر الأناجيل تعبيراً عن «لاهوت» يسوع، أي عن الوجه الإلهيّ في شخصه. ولا شكّ أنّ هذا يرتبط بمقدّمة الإنجيل التي تُستهلّ بالآية الشهيرة «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله». يرى الشرّاح أنّ هذه المقدّمة تنطوي على إحالات واضحة لا إلى الآية الأولى من سفر التكوين فحسب (في البدء خلق الله السماوات والأرض)، بل إلى تعليم العهد القديم عن الكلمة الإلهيّة التي تلهم الأنبياء وعن الحكمة التي تظهر في بعض المقاطع وكأنّها كيان قائم في ذاته:«الحكمة تنادي في الشوارع وفي الساحات تطلق صوتها» (أمثال 1/20). ومن ثَمَّ، فإنّ الإنجيليّ يلجأ إلى كلّ هذه الروافد ليفصح عن مدى العمق اللاهوتيّ الذي آلت إليه خبرة الجماعة المسيحيّة الأولى مع شخص يسوع، وحدث موته وقيامته في الوسط اليوحنّاويّ. يختلف الدارسون حتّى اليوم كثيراً في تحديد معالم هذا الوسط. ولكن هناك مؤشّرات في الإنجيل تدلّ على أنّ الجماعة المسيحيّة اليوحنّاويّة كانت تعاني من اضطهاد قويّ على يد اليهوديّة «الرسميّة» (9/22) ربّما ترافق مع انقسام في هذه الجماعة، بمعنى أنّ عدداً من المؤمنين بيسوع انفصلوا عنها بفعل الضغط و«عادوا» إلى اليهوديّة الصرف (6/66).

تتّسم الأناجيل الأربعة بطابع مرجعيّ في الحياة الكنسيّة اليوم رغم أنّها كُتبت قبل حوالى ألفين من السنين. فهي تؤلّف، إلى جانب كتب العهد الجديد الأخرى، الشهادة الأوثق والأقدم عن يسوع الذي من الناصرة. بهذا المعنى، هي تشكّل دعوةً للمؤمنين في كلّ زمان ومكان إلى الدخول في علاقة صميميّة مع يسوع الإله-الإنسان كما تتبدّى صورته في هذه النصوص، أي على نحو يتخطّى العلاقة الموضوعيّة بين قارئ ونصّ. فهدف الأناجيل الأخير هو أن يسكن يسوع في قلب الإنسان:«إن أحبّني أحد يحفظ كلامي ويحبّه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً» (يوحنّا 14/23).
أسعد الياس قطّان

 

376 Shares
376 Shares
Tweet
Share376