الأب الياس مرقص التماعات أنطاكيّة .!. (٢١)

الأرشمندريت توما (بيطار) رئيس دير القديس سلوان الآثوسي Tuesday October 8, 2019 236

أعطني هذا الفقير…

“فقير أنا وفي الشّقاء منذ حداثتي، وحين ارتفعت اتّضعت وتحيّرت…” (مزمور)!.

هذا اكتشاف أهمّ، بما لا يُقاس، من اكتشاف أنّ الأرض مدوّرة، أو أنّها تدور حول الشّمس. بإمكانك أن تظنّ ما تشاء. هذا لا يغيّر الواقع في شيء!. لا عِلم لك، وأنت جاهل، أو قل غبيًّا، إن لم تُقرَّ بما هو حاصل، لو كنت تعرفه!. ويل لمَن يقيم في عمى قلبه وعناده!.

قالوا، في عِلم الفضاء، ثانيةٌ من حرارة الشّمس تعادل طاقة الأرض، في كلّ تاريخها. لو زادت عليها، في ما تتلقّاه الأرض، ولو أقلَّ من القليل، لاحترقَتْ، ولو نقصت عمّا هي عليه، بالقدر نفسه، لتجمّدت، ولما كانت للأرض حياة!. كلّ ما في الكون مضبوط في منتهى الدّقّة. هكذا الإنسان، يدور حول الله، درى أم لم يدرِ، يتلقّى أنعامه، في كلّ لحظة، مودّات لا تقف عند حدّ، في منتهى الدّقّة؛ لو زادت عليه، أقلَّ من القليل، لاحترق، ولو نقصت، بالقدر عينه، لقضى بردًا لأنّه، في ذاته، أوهى من خيوط العنكبوت، بما لا يُقاس!.

هذا هو الإنسان: فقير حتّى العدم!. لا يقدر أن يصمد من دون الله ولا للحظة واحدة!. نواميس الطّبيعة لتحدّث عن مجد الله، لا لأنّ الإنسان قائم وثابت بقوّتها!. بغير هذا الإدراك، “غبيّ أنا ولا معرفة عندي” (مزمور)!. أنت من التّراب، يا أيّها الإنسان، وإلى التّراب تعود، ما لم تشملك مراحم ربّك، في كلّ لحيظة، وتُقِم في عين مسيحك!.

وعى الأب الياس، ذات يوم، أنّه فقير، كيانيًّا فقير، لا حول له ولا قوّة إلّا بالله، فترك وهم الغنى، أنّه غنيّ بما لديه، وبما أوتي من مواهب طبيعيّة، وسلك في الفقر، محاكيًا حقيقة كيانه، موغِلًا، بعيدًا، في غربة نفسه، عن شهوة الغنى الإيهاميّ، في هذا الدّهر، كلّ يوم، لأنّه أدرك، في قرارة نفسه، كم أنّ دوار الشّهوة يُطيش العقل السّليم!. أراد أن يجعل اعتماده بالكامل، عن وعيٍ، على ربّه، في كلّ شيء، ليستكين قلبه، لأنّه أدرك، في روحه، مغزى قولة سِفر الجامعة: “فلنسمع ختام الأمر كلَّه. اتّقِ الله واحفظ وصاياه لأنّ هذا هو الإنسان كلّه” (12: 13)!. الأرض تدور حول الشّمس، في حركة تلقائيّة صمّاء، لمجد الله، لتكون أيقونة للإنسان في دورانه حول ربّه، في حركة إرادته، لأنّه خلقه على صورته نحو مثاله!.

حتّى لا ينسى ابن آدم، عليه، كلّ يوم، أن ينتقل من فقر إلى فقر إلى الفقر، وصولًا، في الإرادة، إلى إفراغ ذاته بالكامل، بعون الله، من كلّ خبرة غنًى، ذوقًا لخبرة العدم، لخبرة التّراب والرّماد!. من هناك، كما أعطى الله الإنسان، في البدء، نفخته، فصار الإنسان نفسًا حيّةً، هكذا يعطيه، وقد أعطاه، بتجسّد ابن الله، في الزّمن الأخير، روحه القدّوس، فصار الإنسان روحًا مُحيية!. ما عليه، مذ ذاك، إلّا أن يعبّ ممّا أعطاه ربّه، غنًى لا ينضب!. “الكلام الّذي أكلّمكم به هو روح وحياة”!.

خرج الأب الياس من العالم طالبًا الغنى الحقّ في سيرة الفقر!. لمّا يشأ ربُّك إلّا أن يكون هذا الكنز، لأحبّته، في آنية خزفيّة!.

كلّ فضيلة أساسها الفقر. ما لا يتأسّس في الفقر سِقطٌ!. عرفتُ الأب الياس في عزّ فقره وعرفتُه في نضج فقره، وعرفته في شيخوخة فقره!.

في أوائل فقره اهتمّ بأن يفتقر!. هذا كان خبزه اليوميّ. لم تعد عينه في شيء. كان واعيًا أنّ ما ليس في مستوى الضّرورة لم تعد له حاجة إليه!. أثاث الدّير كان فقيرًا بسيطًا!. طعامه كان أيضًا بسيطًا فقيرًا!. وكذلك لباسه!. هذا طبعًا وفق مقاييس زمانه. نتشبّه بالصّحراء ولا ننقلها إلّا وفق الطّاقة. المهمّ السّلوك بروح الفقر أوّلًا، في كلّ شيء!.

عينه صارت إلى هناك. أن تكون جواربه مثقوبة؟. هذا لم يعد يعني له شيئًا، بل لم يعد لافتًا!. لكنّي أعترف أنّه كان ضنينًا بالنّظافة والتّرتيب!. هذا يأتي من حضارة أوّلًا!. لكنّ النّظافة أيضًا ارتبطت لديه بالسّعي إلى نظافة القلب!. والتّرتيب كذلك لأنّه سِمة الخَلْق بعد خروجه من حالة الخواء (طوهو بوهو، بالعبريّة)!. هكذا شرع يرتّب بيته، بيته الخارجيَّ أوّلًا، في كلّ تفاصيله، وصولًا إلى بيته الدّاخليّ!.

طعامهم كان فقيرًا!. لم يكن أحد ليطلب متعةً لنفسه!. الأب أغابيوس كان، لبعض الوقت، هو الطّبّاخ. لم يكن يعرف شيئًا عن الطّبخ إلّا، ربّما، ما التقطه سماعًا، أو بالصّدفة، وحصّله بالسّؤال!. كان في شبابه مدلَّلًا!. الصّبيَّ الوحيد في بيته!. تصله الأطايب على أنواعها جاهزة مكمَّلة. أطرف ما في طبخه الحساء. يعسر عليك أن تعرف مكوِّنات ما في الوعاء. هذا لأنّ الأب أغابيوس كان يجعل في القِدر كلّ بقايا الطّعام من الأيّام المنصرمة، مضيفًا إليها الماء والملح!. كانوا مستعدّين أن يأكلوا أيّ شيء يوضَع أمامهم، ولا أحد يسأل: ما هذا أو ما ذاك؟. حتّى، لا أحد يعترض إذا ما شعر بحصًى في حصّته، أو بحبيبات رمل بين أسنانه!. أليسوا رهبانًا في كلّ حال؟!. معرفتهم الأولى، على قلّتها، وظّفوها خيرَ توظيف.

تلك الحقبة، كما كان يحلو للأب الياس أن يستذكر، لمامًا، فيما بعد، كانت ذهبيّة!. الفقر المادّيّ الإراديّ، والتّعب، والتّفاعل الحسن المُلزِم ومَن ليسوا من عقليّتك ولا من عاداتك ولا من ثقافتك ولا من مزاجك… كان يعني، داخليًّا، أن تبذل دمك، يومًا بعد يوم، وأن تُفرغ نفسك من كلّ ما لك. هذا أعطى ثمارًا يانعة، دموعًا وإحساسًا بالخطيئة ونخسَ قلب ووعيًا لبلادة النّفس فيك… “ويحي مَن ينقذني من جسد الموت هذا؟!”.

لا شكّ أنّ الأب الياس اشترى دموعه، على اختلاف مراميها، بتعبه ونعمة الله: دموعًا في الصّلاة، دموعًا على خطاياه، بكاء على شقاء العالم، بكاء مع الباكين… لكنّه دفع ثمنها، كما سبق فألمحنا، بصقًا للدّم ومرضَ سِلٍّ ونحولة زائدة!. ما كان سهلًا على الأب أنطون لأنّه فلّاح كان قاسيًا جدًّا على الأب الياس لأنّه ابن عِزّ، آتيًا من القلم والورقة، من وراء مكتبه، من ترف العيش، من ثقافة مرهَّفة!. من تلك الحقبة، أضحى الأب الياس مختبَرًا في كسر النّفس حتّى الامّحاء!. هذا استمرّ سلاحه إلى المنتهى ونعمة الله!. ومتى ثارت عليه نفسه قمعها وتذلّل وبكى!. يومذاك تبلورت صلاته تبلورًا كبيرًا!.

تلك المرحلة، من تعاطي الفقر، عمليًّا، استمرّت سنوات. فقط بعدما اعتاد حالةَ الفقر في روحه، ولمّا يعد الاغتناء بأمور هذا الدّهر يعني له شيئًا، أخذ موقفُه من القنية في شأن وجه الدّير وحاله يتغيّر. “هكذا ينبغي أن تكون الأمور، الآن”، كان يقول!. شرع يقبل التّغيير مراعاة لضعف الآخرين لا من أجل نفسه. مذ ذاك أخذت حِدّة حياة الفقر في الشّركة تخفّ. الكثير والقليل لديه صارا شيئًا واحدًا. لذا، أخذ يسلك في فقره باعتدال. يتعاطى القنية دون أن تلامس القلب عنده!. أضحى قلبه توّاقًا إلى قنية من نوع جديد، لِما هو فوق، إلى حدّ بعيد!. في تلك المرحلة، كنت ألاحظ أنّه ينتبه لكي لا يتعلّق بشيء البتّة!. فإن شعر بتمسّكه بشيء، كان يتخلّص منه بسرعة!. أكان ذلك كتابًا أو موسيقى أو أيّ شيء آخر ممّا كان يحبّ في سابق زمانه!. فقره صار بالأحرى داخليًّا!. يقبل العطايا والهدايا. يستعملها بالأكثر لشكر الآخرين، أو يدّخرها ليقدّمها هدايا للآخرين!. في كلّ ذلك كان يحرص على أن يبقى قلبه حرًّا من كلّ شيء!. حبّه نما بموازاة فقره!.

كنت دائمًا أتساءل، في تلك المرحلة، كيف يمكنه أن يفرح مع الفرحين ويضحك مع الضّاحكين ويلعب مع اللّاعبين، ولا يؤثّر هذا في بنيانه الدّاخليّ، في صلاته، في دموعه، في هدوء قلبه، في سويّة تعبيره عن نفسه؟. كان، في لحظة، يضحك، وفي اللّحظة التّالية يصلّي ويبكي!. كيف ذلك؟. هذا، على ما أظنّ، لأنّ اندماجه والآخرين كان عن لطف وعن وداد لا عن هوى ولا عن شهوة!.

لم تكن اجتماعيّات الأب الياس تبلغ، في تردّداتها، مستوى قلبه العميق!. القلب كان مروضًا على سيرة أخرى!. إلى ذلك، اعتاد رباطة الجأش. مهما كانت الصّعوبات الّتي تعبر الشّركة ويعبر هو بها، فإنّه كان يبقى معادِلًا لنفسه!. وما زاد على ذلك، عالجه بهدأة الدّموع، وأحيانًا بنشيج البكاء!. جميلةً كانت دموع الأب الياس!. كانت مفتاح توازنه الدّاخليّ والخارجيّ سواء بسواء.

المرحلة الأخيرة من حياة الفقر لديه كانت شيخوخته. أفرغه ربّه ممّا تبقّى له من أناه، كمَن لا كرامة له، على غرار الرّسول بولس!. أذلّه في ضعفه وفي مرضه ليُكمِلَه، ليكون فضل القوّة لله لا منّا!. صار شفّافًا في أواخره، كورق السّجائر!. كان، أصلًا، شفّافًا في روحه!. تلك العينان كم حكتا من قصص!. كانتا، في المبدأ، غائرتين في تجويفتَي وجهه!. والآن، صارتا غائرتين في ذاك المدى!. صارتا، كلّيًّا، إلى الدّاخل!. أخذ النّشفان يضرب الجسد والوظائف تختلّ!. أذلّه ربّه، لمحبّته له، فوق ما أذلّ هو نفسه!. صار يستعمل، أو صاروا يستعملون له ما هو للأطفال، لأنّه لم يعد قادرًا على ضبط أحشائه!. هو الّذي لم يكن يطيق القذارة، وتعني له النّظافة الكثير، تركه ربّه تخرج منه روائح فضلات البدن، كما ليشير إلى ما هو أقذر ممّا هو للجسد، في النّفس الدّاخليّة!. هذا آلمه إيلامًا شديدًا، وكان يسأل لَمِحًا، كمَن يسترقّ الكلام، أحيانًا، ما إذا كان مجالِسُه يشتمّ رائحةً غير مناسبة؟!. لكنّه، أخيرًا، سلّم أمره لربّه، وقلّما عاد يبالي بما لأوهان هذا الجسد!. قلّما عاد يميل إلى الكلام!. اقتبل كلّ شيء كفّارةً عن خطاياه!. لم يبقَ له غير الصّلاة!. تسمّرت عيناه، قليلًا قليلًا، على الآتي من هناك، الخارج إلى هناك!.

في آخر المرحلة الأخيرة، سُرّ ربّه أن يسحقه، على غرار مسيحه، بالحزن، ولكن البهيّ (إشعيا 53: 10)، فلمّا يعد له منظر نشتهيه، لكي يقسم له بين الأعزّاء نصيبًا!.

بلى، بلغ الأب الياس الفقر والقفر، وبلّغه ربّه إيّاهما بالإذلال والموت. أسلم نفسه بالكامل. في يديك أستودع روحي. فصارت له بالفقر غنيمةٌ ودخل ميراث الآب السّماويّ، على كلمته…

لتستمرّ القصّة!..

الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ
الأحد 6 تشرين الأوّل 2019

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share