الأب الياس مرقص التماعات أنطاكيّة .!. (٢٢)

الأرشمندريت توما (بيطار) رئيس دير القديس سلوان الآثوسي Sunday October 13, 2019 264

الكتاب المقدّس معجن الكنيسة وآباءُ الكنيسة خبزُها!.

لم يكن ثمّة فاصل، لدى الأب الياس، بين الكتاب المقدّس والآباء القدّيسين!. الكتاب ينسكب في الآباء، والآباء يحكون الكتاب بدمهم!. وهذا وأولئك يقولون الرّوح في أنشودة واحدة!. لا الكتابُ يتقدّم، كيانيًّا، الآباءَ، ولا الآباءُ الكتابَ، بل الرّوحُ هو الموحِّدُ وهو المتقدِّم في هذا لأولئك، وفي أولئك لهذا!. لا قيمة لأسبقيّة الزّمن، هذا على أولئك، بل الأسبقيّة هي للرّوح القدس الّذي صنع ذاك من أجل أولئك!. الموضوع موضوع تجلّي كيان في هذا وأولئك، في إطار قصد الله الخلاصيّ، منذ البدء!.

لذا، لا يُقرأ الكتاب المقدّس إلّا بالآباء لأنّه لا يُقرأ إلّا في الرّوح، والآباءُ، بامتياز، هيكل الرّوح القدس على الأرض!. وحده روح الآباء، أو في الآباء، قادر أن يقرأ الرّوح في الكلمة!. وحده الرّوح قادر أن يقرأها صحيحًا، لأنّ الرّوح واحد، إيّاه، هنا وهناك!. “الإنسان الطّبيعيّ”، بعقله ونفسه، لا يقبل ما لروح الله ولا يقدر أن يعرفه “لأنّه إنّما يُحكَم فيه روحيًّا” (1 كورنثوس 2: 14)!. من جهة أخرى، لا يُقرأ الآباء إلّا كتابيًّا لأنّهم يقولون الرّوح، ويتكلّمون بالرّوح، ولهم فكر المسيح (1 كورنثوس 2: 16)!. الكتاب روح الآباء والآباء روح الكتاب!. إليه ينتمون، وإليهم ينتمي!. في ما عدا ذلك يكثر الدّخلاء والمدَّعون!. الكتاب مفتوح على الآباء، مفتوح بروحه عليهم، فتفَهٌ القول إنّه نصوص وحسْب!. على هذا، إذا كان الكتاب روحًا في نصوص، فالآباء نصوص حيّة مبرهَنَة في روح!. لذا، في هذا وأولئك، لا فصل بين النّصّ والرّوح!. النّصوص هي الكتاب، والآباء، بالمقياس الرّوحيّ عينه، هم أيضًا الكتاب!.

هكذا تعاطى الآباء القدّيسون الكتابَ المقدّس، جيلًا بعد جيل، وهكذا يتعاطونه، اليوم، وهكذا يبقى تعاطيهم له إلى ذلك اليوم!. هكذا تعاطاه الأب الياس، طبعًا، على نكهة خاصّة، ككلّ الآباء، وفق ما تكلّم الرّوح فيه!. والرّوح لا يستنسخ أحدًا، وإن وحّد الجميع، لأنّ الكلّ في الرّوح فذّ جديد!.

مرّة، سألني الأب الياس أن أتحدّث إلى الشّركة في نصّ كتابيّ معيّن. لكنّه استدرك قائلًا: “لا بالطّريقة العقليّة النّقديّة الّتي تتعلّمونها في المعاهد اللّاهوتيّة”!. لِمَ لا؟. ألأنّ العلم والتّاريخ لا ينتميان إلى وجدان الآباء؟. كلّا أبدًا!. حاشا أن يكون لنا من دراسة النّصّ الكتابيّ موقف رافض!. كلّ ما يساعد على جلاء المعنى نستعين به، لأنّنا ندرك أنّ لكلمة الله بُعدًا بشريًّا، تاريخيًّا، لغويًّا… لكنّنا ندرك، في آن، أنّ الكتاب المقدّس روح في كلمة!. لا يهمّنا فقط ما تعنيه الكلمة في لغة النّاس وتاريخهم، على أهمّيّة ذلك، بل، بالأولى، ما عناه روح الله من إيحائه بها، وليس هذان الأمران متساويَين!.

بشريًّا، بإمكاننا أن نستشرف، قدر الطّاقة، تطوّر المعاني، وهذا مهمّ لأنّ الرّوح تكلّم في زمن محدّد، لقوم ذوي مفاهيم محدّدة، باستعمال ألفاظ محدّدة، ولها معانٍ محدّدة. لكنّ هذا لا يمكنه أن يعرّفنا تمامًا إلى ما عناه الرّوح، وإن كان يساعد ويعدّ مَن كانوا على صفاء في القلب والنّيّة!. أقول “يعدّ” لأنّ الفهم، في الرّوحيّات، لا يأتي قبل ما يعلنه الرّوح بل بعده!. مستحيل!. لا نعرف ما عناه روح الله إلّا بروح الله!. نصّ إشعياء بشأن العذراء (أو الصّبيّة الصّغيرة وفق النّصّ العبريّ) لم يكن فهمُه ممكنًا، أنّ المقصود كانت مريم الّتي أضحت والدة الإله، إلّا بالرّوح، وكذلك نصّ عبد يهوه أنّه هو إيّاه الرّبّ يسوع المسيح!.

إذًا، ما يفعله مَن يُسمَّون “علماء” لا “آباء!”، في دراسة الكتاب المقدّس، على النّحو النّقديّ الّذي نشهد، اليوم، إنّما يسيء إلى كلمة الله إساءة كبيرة، لأنّه يعزل النّصّ عن الرّوح، ويتعاطاه كنصّ بشريّ، قابل، في عمقه، للمعرفة الدّماغيّة، على غرار سائر النّصوص والموضوعات الدّهريّة، كالتّاريخ والجغرافيا. هذا يُدخل تشويشًا على فهم الكلمة، كما شاءها الرّوح، ويختلط فيه الغثّ (التّنظير) بالسّمين (المعلومات العلميّة النّافعة)!.

موقفٌ كهذا مرفوض في المبدأ لأنّه يأتي من هرطقة، على نكهةٍ نسطوريّة!. الكلام على يسوع بمعزل عن كونه ابن الله، ومن ثمّ اعتبار مريم أمَّ يسوع لا والدة الإله، موقفٌ أدانته الكنيسة لمّا أدانت نسطوريوس وقطعته كهرطوقيّ!. بالقياس عينه، عندما يفصل دارسو الكتاب المقدّس ما بين النّصّ والرّوح، ويعتبرون أنفسهم معنيّين بالنّصّ وحده، كما يعتبرون ما له علاقة بالآباء القدّيسين، وكيفيّة تعاطيهم النّصّ، عنصرًا دخيلًا وعاملَ تشويش على دراسة الكتاب المقدّس، أقول عندما يفعلون ذلك ينحرون النّصّ فيصبح بين أيديهم جثّة هامدة بلا روح، لأنّ موقفهم، في قراءتهم النّصّ وتفسيرهم إيّاه، يكون مبنيًّا على نظرة فاسدة مهرطِقة للكتاب والآباء سواء بسواء!. وما يأتي من هرطقة لا يمكن أن يُفضي إلّا إلى ضلال!.

لَعَمري، إنّ هذه الكيفيّة العقليّة النّقديّة لتعاطي الكتاب المقدّس آتية من خلفيّة تعاني مشكلة عميقة وعقمًا من جهة السّرّ الكنسيّ وعمل الرّوح القدس في الكنيسة!. هذا الواقع المأزوم جعل ويجعل تغليب العقل على تراث الآباء، في أوساط الشِّيَع المسيحيّة، أمرًا تلقائيًّا، وكذلك تغييب الرّوحيّات لحساب الأخلاقيّات العامّة، ما أدّى ويؤدّي إلى دهرنة المسيح والكتاب معًا عوض مَسْحَنَةِ هذا الدّهر برَوْحَنَةِ الكتاب، كما يُفترَض بعمل الكنيسة، جسدِ المسيح، أن يكون في هذا العالم!.

بالعودة إلى الكلام على الأب الياس، بقي خمسين سنةً ويزيد يدوّن، في دفتره الصّغير، وعلى أوراقٍ مقصوصة بترتيب، خواطره الكتابيّة. بالمناسبة، كثيرًا ما كان الأب الياس يستعمل أوراقًا سبق استعمالها وبقيت فيها فسحات بيضاء. هذه كان يقصّها بالمقصّ ويستعملها حيث يلزم. وأحيانًا كان يستعمل القفى الأبيض لأوراق أخرى. هذا من باب الفقر!. ذهن الرّجل كان متّقدًا، لا سيّما أثناء الخِدم الكنسيّة. كان واعيًا، يقظًا، يلتقط الكلام، ويعمل على النّفاذ إلى معانيه الدّاخليّة، في ضوءِ خبرته، ولو أغمض عينيه، أحيانًا، وبدا كأنّه نائم!.

كان الأب الياس يكتفي بالخواطر لأنّ نهجه كان أن يقول الكثير بالقليل!. ليست التّفاصيل لديه هي المهمّة بل الالتماعات، ومن كان على موجته يفهم!. تلك الخواطر، عمل في سنيه الأخيرة، على لملمتها من أوراقه العتيقة ودفاتره الصّغيرة، وترتيبها، وتصنيفها. وقد أُخرِجَت له في عدّة كتيّبات. وأخيرًا جُمعت في كتاب واحد أصدرته “تعاونيّة النّور الأرثوذكسيّة” سنة 2005. وأذكر، مرّاتٍ عديدة، كيف كان يُشرِكنا بخواطره وقت المائدة. لا شكّ أنّ ثمّة حاجةً إلى دراسة جِدّيّة لتلك الخواطر، أرجو أن يتفرّغ لها أحدهم، على نحو معمَّق، في القريب. حسبي هنا أن أنقل، للقارئ المهتمّ، مذاق إحدى هذه الخواطر.

دونك هذه الخاطرة حول إنجيل متّى، الإصحاح الرّابع، الآيات 1 إلى 11. يورِد الأب الياس النّصّ الّذي لفته في سطر: “ثمّ أُصعِد يسوع إلى البرّيّة من الرّوح ليُجرَّب من إبليس”. كيف قرأ الأب الياس هذا النّصّ؟. ماذا رأى فيه؟. قال: “ربّما هذا أقصى الاتّضاع: أن يقبل يسوع أن يُجرَّب من الشّيطان”.

لفظة “ربّما”، لماذا أوردها؟. ألأنّه لم يكن متأكّدًا من صلاحيّة ما يطرح؟. لا أظنّ!. ألعلّه أراد بها موقفًا علميًّا، أنّ الأمر يمكن أن يكون كذلك ويمكن ألّا يكون كذلك؟. هنا، أيضًا، أقول: “لا أظنّ”!. اللّفظة، بالأحرى، ذات مضمون وجدانيّ!. الفكرة التمعت لديه لا لأنّها من عقله بل من قلبه!. أوّلًا، نهجُ الرّجل، في تعامله مع الآخرين، لطيف مَرِن حسّاس. لا يفرض نفسه على أحد. بالأحرى، يلمّح، يقترح، يشير… لفظة “ربّما”، في هذا السّياق، طفرة قلب، محطّ كلام، كثيرًا ما كان يلجأ إليها، أكثر ممّا هي معطًى عقليّ!. ثانيًا، الرّجل، في ما يعبّر عنه، إذ يقدّم لملاحظته بلفظة “ربّما”، لا يطالع النّصّ كمِن فراغ، كمَن يلتمس فيه معنًى ما، بل يطالعه كمِن خبرة يقينيّة، كمِن حياة، كمِن التماس صدًى لخبرة شخصيّة!. ثمّة حركة داخليّة، في التّفاعل هنا، تبرز بين ذاته والكتاب. لا فقط نحن نستخرج المعنى من النّصّ، بل نبحث، أيضًا، في النّصّ، عن المعنى الآتي من خبرتنا لروح النّصّ!. هذا لأنّنا نحن والنّصّ من واحد، من روح واحد!. النّصّ يهدينا، ونحن، أيضًا، نبحث عن صنوِ ما فينا، في النّصّ!.

“أوريكا”، أي وجدتُها!. كلّ عجين الكتاب في خبرة الكنيسة!. لذلك، عندما تدخل في خبرة الكنيسة وتبحث عن جذور ما فيك، في الكتاب العزيز، يكون هذا لا فقط أمرًا مسموحًا به، بل تعبير عن الحركة الدّاخليّة الأصيلة منك إلى النّصّ الكتابيّ وبالعكس!. النّصوص تنسكب فيك وأنت تعود إليها بخبرتك في الرّوح، باحثًا عن ختمها، لأنّها فاعلة فيك!. لَعمري، إنّ هذه الحركة، بالذّات، هذا التّفاعل بالذّات، هو أساس تعاطي الكتاب المقدّس في الرّوح، لأنّه إن كان النّصُّ يقول العروس فكذلك الخبرة العميقة، حتّى لا تقتصر العلاقة بالنّصّ على التماس معرفة المعنى في النّصّ، كمَن يطلب العلم المجرّد، ما يجعل العلم، إذ ذاك، في ناحية، والخبرة في ناحية أخرى، دون أن تكون هذه منتميةً إلى ذاك، وذاك إلى هذه!.

إذًا، معنى الآية، هنا، يأتي من خبرة كسر الأب الياس نفسه ومن سعيه إلى أقصى الاتّضاع، في إثر المعلّم!. الأب الياس كان مجرَّبًا، في رهبنته، كلّ يوم، وأحيانًا بعنف شديد؛ وكلّ تجربة مصدرها إبليس!. لذا، يقول لقارئيه، وعمليًّا لأبناء الله الباحثين عن السّبيل القويم، نظيره: “فلْنقبل نحن أن نُجرَّب…”.

ثمّ، هذه النّقاط الثّلاث (…) الّتي تتبع الكلام تعني أنّ لديه الكثير ليقوله ولمّا يقلْه. بعد ذلك، يضع النّقاط على الحروف، من خبرته: “فلْنقبل نحن أن نُجرَّب”!. هذا لأنّه لا أقسى على الإنسان، وبالأحرى على المؤمن، من أن يقبل أن يُجرَّب. في العادة، نهرب من التّجربة أو نستسلم لها!. ولكن، أن نُجرَّب وأن نكون، في آن، مستعدّين لأن نواجِه، بقوّة مسيح الرّبّ، فهذا أمر غير مألوف للأكثرين. ولكن، هذا لا بدّ منه وإلّا لا يأتي الاتّضاع!. لا يأتي كمِن فوق!. لا يمرّره إلينا الرّوح من يسوع بالتّناضح!. وإن لم يأتِ الاتّضاع فلا خلاص لنا ولا نصيب مع المعلّم!. “تعلّموا منّي – أي تعلّموا منّي كيف سلكتُ – فإنّي وديع ومتواضع القلب”!. تعلّموا منّي كيف أسلك، كيف أقبل، كيف أفرغ ذاتي، كيف أترك ذاتي أُجرَّب من إبليس… ساعتذاك يأتيكم الاتّضاع!.

كيف نقبل؟. يعلّمنا الأب الياس، هنا، أصول الحياة الرّوحيّة في هذا المسار، باقتضاب: “دون مضايقةٍ أو ادّعاءٍ او ظنٍّ باطل…”. هناك مضايقة نفسانيّة. ليست هذه ما يتكلّم عنه. لا بدّ من الشّعور بالضّيق النّفسيّ الّذي يقرب من الاختناق، أحيانًا!. المضايقة الّتي يتكلّم عليها هي أن يكون المرء مترجرجًا، منقسمًا على نفسه، تنقصه الكلّيّة في حمل النّير الّذي يجعله الرّبّ الإله على منكبيه!. في المقابل، عليه أن يرضى، أن يتبنّى الطّريق بالكامل، أن يلتزم الصّليب!. “لتكن لا مشيئتي بل مشيئتك”!. هكذا من الأعماق، من الحشا، من القلب!.

وهذا، إن صنعتُه أصنَعُهُ من دون ادّعاء، كأنّي أنا مَن يستطيع أن يواجه إبليس!. لا أنا بل المسيح فيّ!. غرور الادّعاء سقوط مسبَق!. ضعيف أنا؟. هذا واقعي!. هذا حالي!. بالأحرى، أفتخر بضعفي!. فقط ساعتذاك تحلّ عليّ قوّة المسيح!. إذًا، المواجهة الحقّ لا تكون بذاتي بل بمَن وعدني أن يكون معي في كلّ حين!. “أستطيع كلّ شيء في المسيح الّذي يقوّيني”!.

وأخيرًا، إن اتّكلت على الله بعدما أكون قد قبلت، تداهمني التّجربة الأقسى: “الظّنّ الباطل”!. إذا ما أعطاني مسيحي الغلبة على إبليس وأنا في عمق اللّجّة، فالخطر باقٍ أن أغرق في الميناء، تمامًا بسبب “الظّنّ الباطل”، إذ يهمس الشّيطان في أذني: عظيم أنت فلقد قويتَ عليّ!. أظنّ نفسي، إذ ذاك، شيئًا عظيمًا فعلًا!. الغرور، التّعظّم، الكبرياء هو الفخّ الأقسى، في المسار الرّوحيّ!. إمّا أن أعطي ربّي المجدَ وأذكّر نفسي بأنّي تراب ورماد، أو أكون قد تعبت عبثًا، وتكون العاقبة أنّي أنزل إلى أسافل دركات الأرض!.

في نهاية المطاف، لا سند للمؤمن القويم إلّا “قوّة أقوال الرّبّ”، كما يقول الأب الياس، وكذا القول الوعد الّذي تفوّه به السّيّد من أجلنا: “اذهب، يا شيطان”!. إنّه هو وحده، ربُّنا، طارده!. وهو وحده المريدُ والفاعل فينا أن نعمل من أجل المسرّة!. تبارك اسمه إلى الأبد!.

بإمكان المرء أن يغوص في المزيد من مضامين كلمات الأب الياس والتماعاته، هنا وثمّة. إذ ذاك يكتشف بعضًا من أغوار نفسه، بنعمة الله. قلب الرّجل كان كلّه مُعطًى في كلمات قليلة لأنّه بذل دمه، مرّة تلو الأخرى، من أجل ربّه، وتاليًا من أجلنا، متذكّرًا القائل: “أعطِ دمًا وخُذ روحًا”.

… لتستمرّ القصّة!.

الأرشمندريت توما بيطار
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسيّ
الأحد 13 تشرين الأوّل 2019

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share