الإنسان والأوبئة

د. جورج معلولي Friday March 20, 2020 2206

” و رأيتُ…حمَلًا واقفًا كأنّه مذبوح” ( رؤ 5 : 6 )
مُهداة إلى ط.ع

تُظهر دراسة جهاز المناعة عند الإنسان والحيوان أنّ الكيان العضويّ مجهَّز لحفظ حدوده وحمايتها من الكائنات الحيّة الأخرى وبخاصة الجراثيم و الطفيليّات. كل ّكائن حيّ يسعى للحفاظ على حياته الخاصّة وحياة جنسه أو فصيلته. هذا صراع البقاء في حياة يهدّدها الموت من كلّ جانب. هذا قانون الحياة الطبيعيّة منذ مراتبها الأكثر بدائيّة وهذا ينطبق على البكتيريا والفيروسات والزواحف والثديّات والبشر.
من جهة أخرى تُبيّن المشاهدات العلميّة على مدى مئات السنين أنّ انتقال الأمراض الحيوانيّة إلى الإنسان ثمّ انتشارُها مرتبط بسلوك البشر بشكل واضح: اختراق البيئة الطبيعيّة للحيوانات ( كالغابات ) و تغييرها، كَسر حدود الحياة البريّة وتوسّع الحياة المدنيّة بشكل مستمرّ، تربية مكثّفة للحيوانات بأعداد هائلة ومركّزة بهدف الإستهلاك، وتحويل العالم إلى قرية كونيّة، كلّ هذا يحوّل فيروسات حيوانيّة غير معروفة ( محصورة سابقًا في بيئة برّية ) إلى تهديدات وجوديّة لحياة البشر على نطاق عالميّ. هذه فيروسات سريعة التغيّر والتأقلم في الأجناس الحيوانيّة المُضيفة وبيئات متغيّرة وهي لا تحتاج لغير أيّام قليلة لتغيير محصولها الوراثيّ ( أي جيناتها ). لقد انتشر فيروس الإيبولا في أفريقيا بين 2014 و 2016 في ظلّ خوف وتستّر الشعوب وممارسات خاصّة في الدفن وغياب الهيكليّات الصحيّة المناسبة. وتزامَنَ ظهور أرينا-فيروس ( مرَض الحمّى البوليفيّة النزفية ) مع ممارسات زراعيّة معيَّنة وانتشر سريعًا مع استحداث طُرقات جديدة في بوليفيا أرغمَت القوارض على تغيير بيئتها. أمّا الإحتباس الحراريّ فقد أدّى إلى تفشّي الحمّى الصفراء والدنج في أماكن جديدة. الإكتظاظ السكانيّ، وسرعة السّفَر غير المسبوقة، وهجرة الشعوب والكوارث الطبيعية والتصحّر عوامل تُضاعف من إمكانيّة ظهور وانتشار الأمراض الوبائيّة.
يتذكّر الشيخ زوسيما في رواية الإخوة كارامازوف ( دوستويفسكي ) أنّ أخاه قال له قبيل رقاده:” كلّ واحد فينا مسؤول تجاه الكلّ ومن أجل كلّ شيء، وأنا أكثر من الآخرين”. هذا قول مسؤول يدعو إلى اليقظة أي إلى التحوّل. ليست هذه اليقظة دعوة إلى حمل ذنوب حقيقيّة أو مفترَضة اقترفَها البشر على مرّ الأجيال بل توبة إلى مسؤوليّة الإنسان الشخصيّة في رعاية الأرض والبشر. إذا كان الإنسان قد خُلق بعد كلّ الكائنات ( في سِفر التكوين ) ليدخل الكونَ كملِكٍ إلى قصره، كنبيّ ورئيسِ كهنة، فهو مسؤول عن رعايته وخلاصه وتحقيق دعوته. لا يمكن للإنسان أن يفصل مصيره عن مصير الخليقة ولا يمكنه أن يُخلّص نفسه من دونها. هذا يتطلّب رفضًا لنَهب الأرض واستهلاكها ويتطلّب احترامًا لإيقاعات الحياة وانتقالًا إلى علاقة شُكريّة أي افخارستيّة تعي حضورَ الله في دوران الحياة نفسِها في حركة المخلوقات. ترتبط هذه العلاقة بنُسك المشاركة الذي يجتهد أن يضع حدًّا للعلاقة الإفتراسية باكتشاف فرح العطاء بين الإخوة حيث العدالة الإجتماعيّة غير منفكّة عن احترام الموارد الطبيعية وتطهير النفس من الإمتلاكية والتسلّط.
في ظلّ انتشار وباء الكورونا المستحدَث كوفيد 19، تُهاجمنا الإنفعالات والمشاعر المتضاربة من كلّ صوب. هذه انفعالات طبيعيّة لا بدّ من الإعتراف بها والتحدّث عنها لبعضنا البعض. أمام الأمراض أو الكوارث أو الموت، يمرّ الإنسان بحالات متعدّدة: نكران الواقع ونفيُه، الغضب ضدّ البشر والله والنفس، المساومة والتحايل على الواقع، الحزن الشديد و الإكتئاب، وتقبّل الواقع ومحاولة التعامل معه بوعي وسلام. يُعيننا الكتاب المقدّس ( وبخاصّة في المزامير) على إيجاد الصّوَر والكلمات التي يمكن أن نقول بها ألَمَنا وحيرتَنا وقلقَنا. فإذا عبَرنا عنها في الصلاة والدعاء وتأمّل النصوص مع الإخوة ( عبر التواصل الإلكترونيّ عند الضرورة ) يتسرّب إلينا النور الإلهيّ ليضيء أذهاننا ويُدفئ قلوبَنا ويبلسمَها. وقد يظهر ذِكر الموت، كما في التقليد الأرثوذكسيّ، طريقًا إلى القيامة في عودة إلى الذات ومحبة لله والقريب. هذا هو النوح البهيّ أو الفرح ( كما يسمّي شميمان الصوم الكبير ) الذي يعيدنا إلى حقيقة الأشياء وبساطتها كصوتِ صارخٍ في البريّة: هيّئوا طريق الربّ. البشريّة شجرة كبيرة وكُلّنا أوراق عليها كما يقول القدّيس صفروني (ساخاروف ): كلّ ما يحصل لأحد الأوراق يخصّني شخصيًّا. وَحدة المأساة في شجرة البشريّة يمكن أن تكون أيضًا وَحدة المحبّة الرؤوفة التي بها تنفطر القلوب فصحًا جديدًا سرّيًا من أجل حياة الكلّ.
في دوران الحياة والموت في الكون المخلوق تفتح قيامة يسوع هوّة لا يُغلقها شيء تتدفّق منها حياة ليست من هذا العالم. هذه حياة وافرة تتجلّى بها نواميس الطبيعة إن انفتَح قلب الإنسان وعقله على النور الذي لا يغرب. ويسعى بعقله وقلبه أن يحوّل الطبيعة والمجتمعات في احترام واتّضاع وملوكيّة خادِمة. عندها نفهم أنّ الحمل المذبوح، وكلّ البشر الذي مات من أجلهم، قائمٌ ومُقيمٌ للجميع وهو واقف بيننا.

221 Shares
221 Shares
Tweet
Share221