بقلم الأخ ريمون رزق
تتضاربُ في ذهني الأفكارُ والمشاعرُ بسبب الانزواءِ المفروض علينا. ويزيدني ريبةً ما يطلّ علينا في البيئة الكنسيّة من آراءَ ومواقفَ ونظريّاتٍ، أقلّ ما يُقال عن بعضِها، أنّها تفتقد إلى التعقّلِ والرصّانةِ والإنصاف. بينما تكمن الحاجة، كلّ الحاجة، في هذه الأوضاع المأساويّة، إلى سماع كلمة حقّ إنجيليّة تذكّرنا كيف نحاربُ الخوفَ ونتجاوزُ القلقَ ونتسمّرُ في الرّجاء.
لست أهلًا لأقول مثل هذه الكلمة، لكنّي سوف أتمتم بعضَ حروفِها من خلال الخواطر التي تخالجُني.
الشّوق
أشتاقُ إلى كثيرين، أولادي وأحفادي، وإخوتي في الحركة والذين كنت ألتقي بهم في الكنيسة، أشتاق إلى ضمّهم جميعًا إلى صدري. أشتاق للنظر إلى وجوه الناس الذين أصادِفُهم في الطريق، يَشعُّ منهم وجهُ ربّي، بدل أن أبتعد عنهم خوفًا من كونهم مصادرَ عدوى. وإنّي مُشتاقٌ قبل كلّ شيء إلى جسد ربّي ودمه الكريمَيْن، اللّذَيْن كنت أتناولُهما عن غير استحقاق، ولكنّهما كانا يغمرانني برجاء عدم الفساد والحياة الأبديّة.
الخوف
“ما بالكم خائفين يا قليلي الإيمان؟” متّى (8 : 26)
أنسمع ما قالَه الربُّ لتلاميذِهِ في خِضمّ العاصفة، وما يردِّدُهُ لنا اليومَ؟ ليس من كلام مقنع في هذا المجال سوى ما نجده في العهد الجديد إنْ جعلنا منه رفيقنا في هذه العزلة.
يقول يوحنّا الحبيب: “لا خوف في المحبّة… ومَن خافَ فلم يكتمل في المحبّة” 1 يوحنّا (4 : 18)
خوفي إذًا هو علامةُ نقص محبّتي. المحبّةُ هي الثّقة بالذي أحبّنا أوّلًا، وامتدادها قربانٌ على مذبح مَن أحبَّ، وهم، اليوم، الإخوة المعزول عنهم. إنْ وضَعنا ثقتَنا في يسوع لن نخافَ الموت، إذ نسمعه يقول: “مَن آمن بي ولو مات فسَيحيا… ولا يموت إلى الأبد” يوحنّا (11 : 25 – 26) إلّا أنّنا لا نَتَنكّر، لمحبّته التي أوجدَتنا، ولا نعبَث بالحياة التي وهَبَنا إيّاها. فنَقبل الحجْرَ المنزليّ بالشّكر، ليسَ فقط خوفًا على مصيرنا، بل حرصًا على مصيرِ الآخرين، ولئلّا يكون موت أيّ منّا سُدىً.
ذكر الموت
لكنّ الربّ يقول لنا أيضًا: “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد… بل خافوا من الّذي له سلطان أن يُلقي في جهنّم” لوقا( 12 : 4 – 5).
فيكون الخوفُ من الكوفيد 19 مناسبةً للتوبةِ، والخوف من موتٍ آخر تسبّبه أعمالي وخطيئتي. لذا شدّد آباؤنا على ضرورة الذكر الدائم للموت، لنعي هشاشة كياننا الأرضيّ وما يُسَبِّبُهُ سوءُ استعمال حرّيتنا من جلب الموت لنفوسنا، ومن إخماد فاعليّة الإيمان، فلا نعود نحبّ الله ولا القريب، ولا نفرح بجمالات الأرض. ولعلَّ المأساةَ الحاليّةَ مناسِبةٌ لمساءلة ضميرنا، قائلين للسيّد: “هل أنا أنكرك بعدم معرفتك وخدمتك في الإخوة الصغار؟”
الفقر والجوع
فكم من الناس يمكنهم أن ينعزلوا انعزالًا كاملًا، متوقّفين عن العمل من دون دخلٍ ومن دون أن تتأثَّر معيشتُهم! الفقر يكثر والمحتاجون يتكاثرون مع مرور الأيّام. من هنا ضرورة توفير سبيلٍ للاهتمام بالّذين تعرّضهم هذه العزلة إلى مزيد من الفقر والجوع. اليوم ليس للتحسّر على حالنا، بل على أحوالهم، وكلّ الذين يكادون يفقدون الرجاء. علينا، في هذه الأيّام الّتي نُلزَم فيها بألّا نقترب من “سرّ المذبح”، أن نلتصق أكثر من أي يوم مضى، “بسرّ القريب”، متذكّرين دعوة الذهبيّ الفم ألّا “يعتبر أحد أنّه معفىً من هذه الليتورجيا” .(PG 51, 265) ولا بدّ من التأكيد في هذا الصدد أنّ مناولتَنا المسيح الإله تكون أيضًا بمناجاتنا الروح القدس، لأنّ “الربّ هو الروح” 2 كورنثوس (3: 17)، ويرسله إلينا المسيح “ليمكث معنا إلى الأبد” يوحنّا (14 : 16) فيجعل الروح منّا هياكل لمجد الربّ.
القلق
تتسّم العزلة الجبريّة لدى الكثيرين بتصاعد القلق على المصير. الشعور بالقلق ليس غريبًا عن خبرة آباء الصحراء وكبار الروحانيّين. ففي نظرهم، هوَ ليسَ علامة افتقاد التوازن الشخصيّ، إنّما إشارةٌ إلى بداية رحلة النفس في طريق الملكوت الذي يمرّ بالموت عن الذّات. فيُقبَل القلق من منظار الحياة الجديدة والهويّة الجديدة. نقبله مشاركين في إرث المسيح. إنَّ الخبرة الروحيّة لهؤلاء الآباء، والّتي تتمحور حول الحياة والموت والقيامة، تدعونا إلى غضّ البحث عن أسباب القلق في أنفسنا وأن نعتبر ذواتنا مسؤولة عنه، وألا نعتبره مرضًا، بل أن نقبَلَه كما تقبل الأم وجع وقلق الولادة انتظارًا لظهور الحياة الجديدة.
الصبر
الصبر كما التواضع فضيلتان روحيّتان يقتضيان التمرّس عليهما. إنّ الفضيلة الأبرزَ في الإنجيل هي فضيلة الصبر الّتي تظهر مليًّا في طول أناة الربّ. يقول بولس الرسول إنّ الله هو “إله الصبر” رومية ( 15 : 5)، ويعتبر طول الأناة من ثمار الروح غلاطية (5 : 22)، ويؤكّد أنّ “المحبّة تتأنّى”1 كورنثوس (13 : 4). ويقول كاتب الرسالة إلى العبرانيّين: “إنّ الإيمان المقرون بالصبر والأناة يرث الملكوت” عبرانيّين (6 : 12).
كما نطلب في صلاة التوبة لأفرام السرياني أن يُنعِم علينا الربّ “باتّضاع الفكر والصبر والمحبّة”، هذه الفضائل الثلاث المرجوّة في كلّ مسيحي، نحتاجها في خضمّ المحنة التي نعيشها. فالصبر أمام المحن يهدف إلى إخماد أنواع الغضب. يذكر يوحنّا السلّمي أنّ المصائب والأحزان قد تؤدّي إلى شعور بأنّ الله قد تركنا. فإن قاومنا هذا الشعور برجائنا، تمكّنّا من التغلّب عليه. واللّه لن يتركَنا فهو معنا كلّ الأيّام إلى انقضاء الدّهر. متّى (28 : 20)