الخوفُ والرجاءُ في زمن الوباء

د. مارينا رزق Friday May 8, 2020 1788

الآخرُ وأنا

 

أشياءُ كثيرةٌ تعلّمناها عن أنفسنا بخاصةٍ، وعن الدنيا بعامّةٍ، منذ بدء موجةِ الوباءِ العالميّ.

لقد اعتدْنا هذا العالم كما هو… تقبَّلناه بجماليّاتِه وقذاراتِه، بأفراحه وجرائمهِ … بثمن العيشِ الباهظِ فيه.

لكنّنا اكتشفنا أنّ فيروسًا واحدًا يستطيعُ أن يغيّرَهُ كليًّا، أن يغيّرَ لونَ هوائهِ، أن يغيّرَ عاداتنا اليوميّة وخِطَطَ رحلاتِنا وطريقة تسوّقِنا… بل وأن يغيّرَ كميّةَ استهلاكِ البترول في العالم، ونظامَ الدراسةِ وتقييم الطلّاب… حتّى طرقُ العبادةِ غيّرَها.

هذا الفيروسُ المجهول القادرُ على القتل، والذي يستمرّ في التغيّر والتحوّل، يحاصِرُنا.

يثورُ القلقُ في القلب عند مواجهة المجهول، فكيف إن كان هذا المجهولُ قادرًا على القتل؟! وكيف إنْ كانت له قدرةٌ على اجتياح العالم مِنْ دونِ أَنْ يتركَ فيه زاويةً آمنةً؟!

الخطرُ هو من النوع الذي يهدِّد الصِحّة، لكنّ الردَّ الطبيّ ما يزالُ متردّدًا، غيرَ حاسمٍ، لأنّ شخصيةَ الفيروس ما تزالُ غامضةً. لا تزالُ طُرقُ مواجهةِ أعراضِ المرض الذي يسبّبه الفيروس غيرَ متَّفقٍ عليها.

نحن في أزمةٍ حقيقيّةٍ لكنّها ليستْ أزمةً صحيّةً طبيّة وحسبْ. إنّ الجسمَ الطبيّ يحاول أن يكونَ بحجم الأزمةِ لكنّه لا يستطيع لا سيّما أنّه أوّلُ المهدّدين بالفَناء، فشخصٌ من كلّ خمسة مصابين (في أميركا مثلاً) هو من الجسد الصِحيّ الطبيّ.

المعلوماتُ كثيرةٌ لكنّها لا تشفي الغليل… بخاصّةٍ أنّها أحيانًا متناقضةٌ مع ذاتها. ووسائلُ الإعلامِ تلعب دورَ البوقِ المُرعب، بوق نعي الموتى وتحديدِ أعدادهم كلّ ساعة.

صحيحٌ أنّ بعضًا من الخوف ضروريٌّ، كي يظلّ الإنسانُ حذِرًا فيمارسَ عاداتٍ صحيّةً في التنظيف والتطهير والانتباه، لكنّ شِدّة الخوف قد تصبحُ عائقًا أمام الحياة اليوميّة، واستمرار العلاقات الإنسانيّة. الرعبُ قادرٌ على نزع كلّ بهجةٍ من حياة الإنسان، وعلى جعل عمره بطعمِ الرعبِ فقط. بل إنّ الخوفَ والحزنَ الشديدَين قادران على إضعاف مناعة الإنسان، وتسهيلِ إصابتهِ بهذا الفيروس أو غيره.

الخوفُ صار يوميًّا، وصار منهِكًا لأرواحنا وأجسامنا، فهل من سبيلٍ لمواجهته؟

يلعب الخوفُ والقلقُ دورًا هامًّا في تفعيل آلية “طلبِ العون” عند الإنسان. عندما نواجهُ المجهولَ ونخافُ ونقلقُ، نبحث عن الراحة من هذا المشاعر السلبيّة المزعجة. نبحثُ عن الراحة في كَنَفِ شخصٍ هو، بالنسبة لكلٍّ منّا، القادرُ على تهدئته وقراءة مشاعرِه السلبيّة ومساعدتِه على مواجهتها. في بداية الحياة، يكون هذا الشخص الأمّ أو الأب، أو الشخص الذي يعتني بالطفل، ثمّ يغدو، في عمر المراهقة، الصديق. ثمّ الحبيب أو الحبيبة، ثمّ الزوج أو الزوجة، ثمّ الأبناء والأحفاد. وأحيانًا يكون الله هو هذا الشخص المعتني المهدِّئ.

عندما يواجهُ الرضيع ما يزعجه، يبكي ولا يهدأ إلّا بالاقتراب الجسديّ من الشخص الأقرب إليه. وحين يكبُرُ قليلًا ويضربُه طِفلٌ في الحديقة، لا يهدأ إلّا بالركض إلى أمّه. وكلّما نما الإنسان قلّ احتياجُه للقرب الجسديّ، وصار بالإمكان تهدئته بواسطة النظرات أو الكلمات أو حتّى بسماع صوت شخص مهمّ بالنسبة إليه.

القاعدةُ الهامّةُ في هذا المجال هي: يجب أن تكونَ بخير كي تستطيعَ العناية بالآخر الذي يحتاجك، والذي هو في هذه اللحظة أضعفُ منك (الأقوى والأحكم والأقدر يعتني بالأضعف).

إذًا، أولى المشاكل في مواجهة الخوف من الوباء هي أنّ هذا الوباء يهاجمُ العالمَ بأكمله، ولا مكانَ آمن منه. فليس لأحدٍ منجًى عن الخوف والقلق، فمَن يُهدّئ مَن؟

ووهناك مشكلةٌ أخرى:

في حال الكوارث الكبرى والمشاكل الضخمة وبخاصَّةٍ في حالة المرضِ النفسيّ الشديد يتعرّضُ نظامُ طلبِ العونِ عند الإنسان لحالة تراجع ونكوص، فلا يهدأ الإنسان إلّا بالقرب الجسديّ من الآخر المُعتني به(كالطفل الرضيع).

ولكنّ أهمَّ وصيّةٍ للحماية من انتقال الفيروس هي التباعدُ الجسديّ، فكيف إذًا نستطيع تهدئةَ رَوْع الخائف والمُرتعب؟

هل من سُبُلٍ لمواجهة هذا الشلّال من العواطف السلبيّة المُقعِدة دون الآخر؟

لا سبيلَ سوى الآخر، الآخر وعلاقتي معه

صحيحٌ أنّ الفيروس يأتيني من الإنسان الآخر (لم يَثبُتْ وجودُ حاملٍ آخرَ للفيروس غيرِ الإنسان) لكنّ العلاقة مع الآخر تبقى طوق نجاتي.

لكن عن أيّ نوع من العلاقات نبحث فيما نحن مسجونون في منازلنا من دون طقوس، وتقاليد التعامل فيما بيننا، فلا حفلات، ولا تعازي، ولا صلوات مشتركة. لا مآدب، ولا نزهات، ولا وجبات في المطاعم؟

إنّنا، خلال زمن الحَجْرِ، فقدنا السبيلَ إلى عاداتٍ اجتماعيّةٍ كنّا نظنّها الأساسَ في العلاقة، وعُدنا إلى جوْهرِ العلاقات نفسه، إلى العواطف الإنسانيّة التي تربط أحدنا بالآخر.

حَلّ التعبيرُ الكلاميّ عن العواطف محلّ المجاملات والهدايا والزيارات. صار للُقْيَا الآخر طعمٌ مختلفٌ. صار لعدّةِ جُملٍ على الهاتف قيمةٌ كبيرة. أن تتّصلَ بي يعني أنّك مهتمٌ بي كشخصٍ، وأنّ لوجودي أهميةً بالنسبة إليك. اتِّصالكَ بي يعني أنّك تراني، أنّك تعرف مَن أنا، وأنّني مهمٌّ بالنسبة إليك. وفي زمن الخوف من الموت، لا يوجد ما يمسّ القلب، ويهدّئ الروح أكثر من ذلك.

لَمسنا ذلك في متابعتنا الهاتفيّة لمرضانا منذ بدء الأزمة (بدل رؤيتهم شخصيًّا في العيادة). تعلّمنا الكثيرَ من هذه المتابعة.

فقد تكون خائفًا من العدوى على نفسك أو على أحبابك، أو قد تكون مريضًا تنتظرُ نتيجةَ الفحص المخبريّ، وربّما تكونُ قد تعرَّضْتَ للخطرِ خلال تنقّلك في وسائلِ المواصلاتِ. أيًّا تكن حالتُك، فإنّ صوتَكَ على الهاتف ينقلُ اهتمامكَ إلى مريضك المختبئ في بيته، وهو بدوره يستجيب لاهتمامكَ به فيهدأ خوفه، ويعود إلى حالةٍ إنسانيّةٍ معقولة. كم من مرّة بدأَتْ فيها مكالماتنا بصراخ المريض، وببكائه، وانتهت باستفساره عن صحّة المتّصل وحضّه له على الاهتمام بنفسه وعائلته.

صار الواحدُ منّا مسؤولاً عن الآخر، عن صحّته وسلامته، وعن راحته وفرحه أيضًا.

صار للصلاة من أجل الآخر مكانةٌ هامة ٌفي حياتنا اليوميّة، تصلّي للآخر وأنت عالمٌ في أعماقك أنّ في صلاتك كلَّ محبّتك له، وأنّ في صلاته سلامتكَ وراحة بالك. وعندما تتّخذ الصلاة للآخر عادة، تتبعها عاداتٌ أُخَر كمتابعة أموره وتقدُّم أوضاعه، بخاصّة إن كان أحدَ ضحايا المرض، أو كان بين أفراد الجسد الطبّي، أو بين مَن يعملون لتوفير الطعام أو الدواء للكلّ.

خِبرةُ الصلاةِ المشتركة بين اثنين يصلّي أحدهما للآخر عن بُعد، هي خبرةُ غنىً يأتي من فقرٍ، خبرةُ طلبِ الصلاة إذ تحسّ بضعفك، ثمّ تنامُ هادئَ القلب لأنّك تعرف أنّ ملاكًا حارسًا في صورة أخيك يصلّي لكَ عن بعد.

حتّى ارتداء الكمّامة يحمل في باطنه هذا الاهتمام بالآخر. وهنا تحضُرُني قصّةٌ قرأناها صغارًا عن قومٍ رُبطت بِيَد كلٍّ منهم ملعقةٌ طويلةٌ جدًّا فلم يستطعْ الواحد منهم أن يأكل، وكادوا يهلكون جوعًا، حتّى اكتشف أحدُهم أنّ ملعقته تصل بسهولة إلى فمِ أخيه وبدأ تبادل الطعام بهذه الطريقة، والكلّ نجوا من الموت جوعًا. والكمّامة كذلك. فمعظم الكمّامات المتوفّرة بين أيدي الناس هي كمّاماتٌ لا تقي لابسها بل تحمي الآخر، فكأنّ ارتداءَ الكمّامة صار نوعًا من رمزٍ عالميٍّ جديد تفسيره “أرتدي كمّامتي كي أحميكَ، وأقدّر ارتداءَكَ كمّامتك كي تحميني”.

رمزٌ يشبه رمزًا آخر اعتدناه منذ قرون وهو المصافحةُ باليد اليمنى وتفسيره “أصافحك باليد التي أقدرُ أن أقتُلكَ بها، فهذه المصافحة هي عهدُ سلامٍ بيننا”.

هدوئي، وراحة نفسي هما في قلب علاقتي مع الآخر، ذاك الذي يحبّه الله، ويحبّنا معًا.

وأختمُ بقولٍ قرأته في طفولتي فحُفِرَ في ذاكرتي:

بحثتُ عن نفسي فلم أجدْها، بحثتُ عن إلهي لكنّه اختفى عنّي

بحثتُ عن أخي فوجدتُ الثلاثة معًا.

د. مارينا رزق

676 Shares
676 Shares
Tweet
Share676