“قُــــل الحَـــقَّ بِمحبَّة”
للمتروبوليت سابا (إسبر)
يكثر الكلام عن الحقّ في هذه الأيّام. فكلّ يتمسّك بحقّه، ويراه من وجهة نظره. يرى إليه في منفعته الشخصيّة، أو مصلحة جماعته. أمّا الحقّ المطلق، أعني الله، فهو المَنسيّ الأكبر، في الوقت الذي يستند فيه الجميع إليه، في تزكية حقّهم، وفي معركة الحصول عليه. ليس الحقّ، في إيماننا، قانونًا أو عُرفًا ما، بل الله نفسه. وفي هذا قال الرّبّ في إنجيله المقدّس: “أنا الطريق والحقّ والحياة”(يو14/6). هذا معناه أنّه هو الحقّ والطريق إلى الحقّ في الوقت ذاته. أنت تتبعه، وتسير على هدي وصاياه، وتحبّه، وتتواضع، فيملؤك من حضوره، الذي يقيك والذين حولك، من خطر الضّلال، والسّقوط في الباطل.
“إذا ثبتم في كلامي، صرتم في الحقيقة تلاميذي: تعرفون الحقّ والحقّ يحرّركم” (يوحنا 8/32).
فإن كنت من أتباع المسيح فأنت للحقّ، لا جزئيًّا وإنّما بالكليّة. حضور المسيح فيك ينفي، منك، كلّ زغل وشائبة. لا يمكنك أن تكون له ولغيره، في الوقت ذاته. آنذاك أنت لغيره، وتتوهّم أنّك له. إمّا أن تفتح ذاتك بكلّيّتها للروح القدس، روح الحقّ (يوحنّا 14/17، 15/26)، أو أن تبقى تعرج على الجنبين.
كيف تكون أمينًا له حتّى المنتهى، والخطيئة ما تزال تجد لها موضعًا، أو أكثر، فيك؟ تكمن الأمانة في مسعاك المُخلص إليه، وفي تقفّي آثاره أينما وُجدت، وفي وعيك لأن تسلك، على الدوام، في الأمانة له. ستواجهك العقبات والعوائق المختلفة، هذه تأتي منك ومن غيرك. لا تخف. إبليس لا ينام. وهو “كأسد زائر، يجول ملتمسًا من يبتلعه”(1بط5/8). فلا همّ إن سقطت مرّة أو أكثر، الأهمّ أن تقوم، فورًا، بعد سقطتك. أن تكون أمينًا للسيّد، لا يعني أنّك لن تخطئ أبدًا. بل على العكس من ذلك، قد تخطئ، وتضلّ الطريق، وتظن أنّ الصحيح هنا، فتكتشف، في ما بعد، أنّه في مكان آخر. إن كانت ذاتك منفتحة على فعل روح الله، فلن تخشى تصحيح خطئك، وتقويمه.
كيف تخرج عن الحقّ، وربّك أرسل لك روحه. “وسأطلب من الآب أن يعطيكم معزّيًا آخر يبقى معكم إلى الأبد. هو روح الحقّ الذي لا يقدر العالم أن يقبله، لأنّه لا يراه ولا يعرفه. أمّا أنتم فتعرفونه، لأنّه يقيم معكم، ويكون فيكم”(يوحنّا14/16-17). ألا يعني هذا الكلام الإلهيّ، بوضوح تامّ، أنّ خروجك عن الحقّ يعني أنّ روح الله ليس فيك؟
يختلف البشر على ما يسّمونه “الحقّ”، لكنّهم غالبًا ما يتناسون أنّ الحقّ لا ينفصل عن المحبّة. إن كسر سعيك، إلى الحقّ، المحبّة فيك، فأنت لست في الطريق القويم، ولست على الحقّ. انتبه، آنذاك عليك أن تراجع ذاتك، وتفحصها، بدقّة، على ضوء إنجيل الربّ وتعليمه.
في طلبك للحقّ قد تختلط الأمور عليك بين ما هو حقّ حقًّا، وبين ما يزين لك أنّه كذلك. أهواؤك، وعدم نقاوتك، أكنت شخصًا أو جماعة، مؤسسة دنيويّة أو كنيسة في هذا العالم الساقط، سوف تلعب دورًا رئيساً في ضبابيّة الرؤية لديك. تخيّل، على سبيل المثال لا الحصر، كم سيكون الضلال عظيمًا حين تكون عرضة للتأثير والضغط من أصحابك أو من الذين هم حولك!! ولك أن تتأمّل مدى الخطر على الحقّ، الذي تتمسّك به وتدافع عنه، عندما يكون الأمر خاضعًا لتجاذبات المصالح وسياساتها، التي تفرضها صراعات النفوذ والقوى، التي تسود هذا العالم. أنت تذوب لكي تبقى، فيه، على الحقّ والأمانة والاستقامة.
سيقدّم لك عكرك الروحيّ كمًّا كبير التنّوع من التبريرات، التي تلبس ثوب المنطق حينًا، والمصالح أو الذكاء أو الفطنة في التصرّف حينًا آخر. هذا كلّه لكي يجعلك تسلك في شطارة هذا العالم، فتحفظ نفسك ومكانتك، وتدعمهما بروح العالم، الذي أنت لست منه إن كنت من تلاميذ المسيح. لا تكمن الأوّليّة، في منطق هذا العالم،في الشهادة للحقّ، بقدر ما هي في الشطارة القائمة على المفاهيم المضادّة للإنجيل. إغراء السلطة والنفوذ وحبّ التملّك يجعلك تبني عمارة منطقيّة لطموحك، توجِد فيها أهدافًا وغايات صالحة، تبرّر ما أنت فاعل، فيما الحقيقة قائمة في أنّك تغطّي، بهذه “الخيرات”، الشرّ الذي في داخلك، والأذى الذي يسبّبه سلوكك.
لا تنسَ كلام الإنجيل عن الذئاب الخاطفة التي تأتي بثياب الحملان (متى 7/15). هذا يصحّ عليك قبل غيرك. فقد يقودك الشرّ إلى طلب شهواتك مغلّفة بالفضيلة. وتراثنا الشعبيّ يعرف مقولة “السمّ في العسل”. انتبه لئلّا تكون، آنذاك، مطيّة للشرّير، فيما اعتقادك أنّك تحاربه. ضع في ذهنك أنّ مسيحك قال: “أمّا أنا فلأني أقول الحقّ لستم تؤمنون بي”(يو 8/45).
اعوجاجك هذا يكون أشدّ مضاضة عندما توجّهه ضدّ القريب. وقد قال السيّد في إنجيله: “أعداء الإنسان أهل بيته”(متى10/36). فيما قال الشاعر العربي “وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة”. كذلك يزيد في وجعك أن تُصنَّف في جعبة هذا وذاك، لمجرّد أنّ الحقّ الذي قلت به قد توافق مع هذه الجهة أو تلك. هذا جزء من صليبك، إن ثبتّ على التمسّك بثوابت الإنجيل وتعليم كنيستك. لا تنتظر الجزاء إلّا من ربّك. كثيرون، من قبلك، وقفوا في وجه العالم كلّه، ودفعوا ثمنًا غاليًا، لكنّ الحقيقة، التي نادوا بها، هي التي انتصرت أخيرًا.
يؤلم الرّبّ أنّ بعضًا من القيّمين على كنيسته أناس مهتمّون بما لم يطلبه قطّ، فيما أبناؤه جياع إلى كلمة حياة، وعطاش إلى ماء يروي ظمأ شقائهم ومعاناتهم. في الوقت الذي تطلب خلائق الله الخلاص، تتوجّه الاهتمامات إلى تحقيق مآرب لا تمتّ إلى هذا الخلاص بصلة، وتتركّز الجهود على صور شكليّة، لا تغني فقيرًا ولا تُشبع جائعًا. والأكثر إيلامًا، أنّ من يعي رسالته الإنجيليّة ومسؤوليّته الرعويّة بدقّة ورهافة، يُضطرّ إلى أن يصرف وقته في التصدّي للاعوجاج، بدلًا من الانصراف الكامل إلى بناء الاستقامة الحقّة، في نفوس أحبّة المسيح.
يبقى لك أن تثبت على الحقّ والمحبّة. قل ما تعتقده حقًّا لكن بمحبّة. واصمت حالما تشعر بأثر شرّير في داخلك، وتوجّه إلى ربّك، في مناجاة متواضعة، لعلّه يسكب كلمته على فمك، فتكون من الشاهدين للحقّ. أمّا شهود الزور فاتركهم لربّك، وحكم التاريخ.