الطفل والموت

mjoa Wednesday June 3, 2020 388
  • “هل إن مشاركة الطفل في خدمة ذكرى الأموات بعد القداس الإلهي أمر صحيح؟ وكيف يفهم الطفل الموت؟”*

 

  • – إن فهم الطفل للموت يتطور مع نموه في العمر. فهو يعي حقيقة الموت منذ حوالي الثالثة، ولكنه يؤوّله على أن رحيل أو غياب أو توقف عن الحركة أو النوم. وبالتالي فإنه لا يعي طابعه النهائي بل يعتقد أن بإمكان “الراحل” أن يعود و”النائم” أن يستفيق. ثم يرتبط الموت عنده منذ حوالي السادسة بالعدوان، فيتصور الميت ضحية عقاب أو اغتيال وكثيراً ما يجسد الموت فيتصوّره قابضاً على الشخص وماضياً به بعيداً. وفي التاسعة أو العاشرة من عمره يتوصّل، بفعل النضج العقلي، إلى إدراك الموت على حقيقته، فيدرك أسبابه البيولوجية ويعرف أنه النهاية الطبيعية المحتومة التي لا رجعة منها لكل كائن حيّ**.

  • – هذا بالنسبة للتصورات الذهنية عن الموت. أما من حيث الشعور فالولد، منذ نعومة أظفاره، يعاني من القلق، وقد يتراءى له الموت وراء مختلف المواضيع التي ينصبّ عليها قلقه (كالعدوان مثلاً أو الظلام)(1)، أو قد يتركز قلقه على الموت مباشرة(2)، ذلك الموت الذي يضاعف من طابعه المرعب الغموض الذي يلفه في ذهن الولد(3). وقد يذكي فيه قلق الموت هذا موت أحد الأشخاص في محيطه(4)، أو موت حيوان أليف(5)، أو اكتشافه (الذي يمهد له طرحه، منذ 3 أو 4 سنوات، لأسئلة عن أصل وجوده) بأنه كان وقت قبل ولادته لم يكن هو موجوداً فيه مما يوحي إليه بأنه سيأتي أيضاً وقت يزول فيه من الوجود(6). قلق الموت هذا يشتد عند الطفل في اللحظات العسيرة من حياته، تلك التي تثير لديه شعوراً بالعجز والعزلة واليأس. هذا بالإضافة إلى القلق من موته الشخصي، يعاني الولد في الصميم، منذ سن مبكرة، من ألم انفصال الشخص العزيز عنه بالموت(8) (أو من الخوف من حدوث هذا الانفصال(9)). إن أصعب ما قد يحصل له من هذا القبيل هو موت أم أو أب محبّ، إذ يشعر الولد إذ ذاك وكأن عالمه ينهار برمّته وبفراغ لا يستطيع شيء أن يملأه(10). لا بل إن جهله لحقيقة الموت قد يوحي له بتأويلات تعذبه، كأن يتصور بأن هذا الشخص العزيز قد أهمله وهجره، أو بأنه قد تسبب هو في غيابه بسبب ما في نفس الولد من مشاعر عدوانية تمتزج بحبه له ، أو بأن العزيز قد غاب عنه معاقبة له على هفوات ارتكبها هو بحقّه***.

 

  • – كثيرون يعتقدون أنه من الأفضل أن يجنّبوا الولد كل حديث عن الموت وكل ذكر له وكل احتكاك به أو بمراسيمه. ولكن البحث النفسي يظهر أن إحاطة الموت بهذا الصمت والتعتيم لا يحلّ مشكلة الولد إنما بالعكس يعقّدها. ذلك أن الولد يضطر من جراء ذلك إلى مواجهة هاجس الموت وحيداً دون أن يتاح له أن يستعين بذويه، عبر التعاطي والتفاوض معهم، على تحمل عبئه والتخفيف من رهبته. وبما أن طريق التعبير المباشر عن قلقه بالكلام مسدود أمامه فهو مضطر إلى التعبير الجانبي عنه بالاكتئاب والمشاكسة ومحاولة لفت النظر إلى ذاته بشتى الوسائل، ناهيك عن أن الولد، إذا لم تتوفر له فرصة هذا التعاطي مع المحيط وتلقي منه كلمات تعيد الأمور إلى نصابها وتعطيها حجمها الحقيقي، معرّض للاسترسال وراء تصورات وأوهام – ذكرنا بعضها أعلاه – من شأنها أن تضخّم الأمور وتزيد من انعكاسها السلبي على نفسيته****.

 

  • – من هنا أنني أرى من الطبيعي أن يشارك الولد في خدمة ذكرى الأموات بعد القداس الإلهي إلى جانب عائلته. فإن مرافقته لها في هذه المناسبة الحزينة تذكي شعوره بالانتماء إليها- وهو خير سند له في محنة الإنفصال الذي بسببه الموت – وتمنحه فرصة لمواجهة موت القريب معها وبالاستناد إليها وليس لوحده. بالطبع يُنتظر من الأقارب، بالمقابل، أن يضبطوا مشاعرهم قدر الإمكان مراعاة لاحساس الولد وتوفيراً لما قد ينتابه من قلق شديد – خاصة إذا كان صغيراً – إذا ما رأى الذين يعتمد عليهم ينهارون.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أجيب عنه في 24/3/1989 في حلقة تدريب لمرشدي الطفولة في أبرشية طرابلس الأرثوذكسية.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

**راجع:

  • Gérard-Philippe Guasch: La mort du père, p.51, “l’Ecole des parents”, avril 1969, pp.45-61.
  • Dr Charles Odier: L’angoisse et la pensée magique, Delachaux et Niestlé, 1966, p.229.
  • Alex Portz: Le sens de la mort chez l’enfant, in Mort et presence, les Cahiers de psychologie religieuse, 5, pp.143-160, Ed. De Lumen Vitae, Bruxelles, 1971.
  • Marjorie E. Mitchell: Aider l’enfant en face de la mort des autres, in Mort et presence, Op.Cit., pp. 199-216.
  • Henrich Meng: Contrainte et liberté dans l’éducation, Privat, Toulouse, 1968, p.146.
  • Denise Van Caneghem: Agressivité et Combativité, PUF, Paris, 1978, p.155.
  • Evline Laurent: Dire la mort aux enfants. L’adulte désemparé, p.60, “Le Monde de l’éducation”, n°95, juin 1983,pp.60-62.
  • John Killinger: La solitude de l’enfant (The loneliness of children, New York, 1980), R. Laffont, Paris, 1983, pp.168-169, p.173.
  • د. عبد المنعم عبد العزيز المليجي: تطور الشعور الديني عند الطفل والمراهق، دار المعارف بمصر، القاهرة،1955، ص 180-196.
  • د. أحمد محمد عبد الخالق: قلق الموت، “عالم المعرفة”، الكويت، العدد 111، آذار 1987، ص 89-90.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • Cf Bruno Castets: La loi, l’enfant et la mort, Fleurus, 1971, pp.71-73.
  • Cf Denis Wallon: Les Ages de l’enfant, II, 3 à 11 ans, Ed. Universitaires, Paris, 1971, pp. 153-154.
  • Cf John KIllinger: La solitude de l’enfant, Op.Cit., p.169.
  • Cf Michel Zlotowicz: Les peurs enfantines, PUF, Paris, 1974, p.96.
  • Cf Ignace Lepp: La mort et ses mystères, Grasset, 1966, pp.37-39.
  • Cf Michel Zlotowicz: Op.Cit., pp.94-96, p.100.

Sheila Macleod: Anorexique (1981), Aubier-Montaigne, 1982, pp.109-110.

  • Cf D Benjamin B. Wolman: Comment vaincre les peurs enfantines (Children’s fears), traduit de l’américain par Josette Féral, Marabout, Verviers, 1980, p.175.
  • Cf John Killinger: Op.Cit., p. 170.
  • Cf Denis Wallon: Op.Cit., 154.
  • Cf John Killinger: Op.Cit., p.177.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

***راجع:

  • Marjorie E. Mitchell: Aider L’enfant en face de la mort des autres, op.cit., pp.210-212.
  • Killinger: op.cit. pp.178-179.
  • Everett Ostrovsky: L’influence masculine et l’enfant d’âge préscolaire, Delachaux et Niestlé, 1959, pp. 115-117.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

****راجع:

  • Dr Denis Wallon: op.cit., p.155.
  • François Dolto: Lorsque l,enfant paraît, t.I, Seuil, Paris, 1977, pp.98-99, pp.116-117.
  • Roger PERRON: Les enfants inadaptés (1972), “Que sais-je?”, PUF, 3e éd., Paris, 1979, pp.103 et 105.
  • John Killinger: op.cit., pp.180-181.
  • Jacqueline Dana: La constellation familial, Coll. “Réponses”, R.Laffont, Paris, 1978, pp.159-160.

 

 

 

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share