دورُ الأهلِ خلال الأزمات : الخوفُ والرجاءُ في زمن الوباء 3

د. مارينا رزق Friday June 26, 2020 1119

لا يستطيع الطفل فَهْمَ العالم، أو تقبُّلَه، أو العيشَ فيه، إلّا من خلال وجود أشخاصٍ يعتنون به، أشخاص أنضج منه وأكثر حكمة. هؤلاء يستطيعون أن يقدّموا له العالم بشكل يفهمه. يشكّل الأهلُ الحِضنَ الحاميَ للطفل ونقطةَ البداية التي ينطلق منها إلى العالم.

علاقةُ الأهلِ بالطفل ليست علاقة ندّية، ولا يتساوى فيها ما يقدِّمُه الطرفان، فالطفل يطلبُ والأبوانِ يقدِّمان، بخاصَّةٍ في حالة الضيق الجسديّ أو النفسيّ (جوع، عطش، ألم، خوف، حزن…) فللأبوين دورٌ في تخفيف الضيْق، وتفسير ما يحسّ به الطفل، وتعليمه كيف يتعامل مع عواطفه السلبيّة. فبفضل تدخل الأبوين يبقى الطفل على قيد الحياة وينمو ويتعلّم وينضج. وكلّما أحسّ بالأمان بينهما، استطاع الانطلاق في استكشاف العالم، واكتساب المهارات الكافية للعيش فيه. الطفل ينظر إلى العالم كلّه من خلال نظرتِه إلى أبويه، وعلاقته معهما.

هذا كلُّهُ في دورة حياة الطفل العاديّة، أمَّا خلال الأزمات فتغدو حاجة الطفل لتدخُّلِ الأهل أكثر أهميةً. الخوف من الوباء، ومن المرض، ومن الموت، هو أزمةٌ نفسيّةٌ يواجهها الإنسان، والحجر الصحيّ هو أزمة أيضًا. علاقةُ الإنسان بالأزمات ترتبط بحالته قبلها. وعلاقةُ الطفل بالأزمات تتعلّق بحالة عائلته، وبقدرتها على احتواء عواطفه السلبيّة. أيَّةُ رواسبَ نفسيّةٍ سلبيّةٍ عند الطفل بعد الأزمة، لا تنتج عن الأزمة ذاتها بل عن طريقة تعامل العائلة معها. فدورُ الأهل في حماية الطفل خلال الأزمة يؤثّر بشكل كبير على تطوّره بعدها.

تتسبّبُ الأزماتُ الضخمةُ (كأَزمة الوباء الحاليّة) في هزّ أركان الإطار الذي يعيش الطفل وسطه (البيت، المدرسة، العائلة الكبيرة، الحيّ…) وأهمّ هذه الأركان هو الأهل. فالأزمة قد تُعقِب دماراً وخوفاً، ومنه يتولَّدُ، عند الأهل، شعورٌ بالعجز، وعدم القدرة على الفعل. وإحساسُ الطفل بهذا الشعور عند أهله، قد يولّد لديه شعوراً بالخوف، وبفقدان الأمان، وبالقلق، وبالحزن.

ربما كان هذا الإطار العائليّ ضعيفاً قبل حدوث الأزمة، وظَهَرَ ضَعْفُهُ وهشاشَتُهُ عند حدوثها. وربما كان الإطارُ قويّاً وضَعُفَ آنيّاً. الأمران سيّان عند الطفل. المهمّ هو وجود حضن الأمان أثناء زمن الأزمة المخيف.

من أهمّ صفات الإطار العائليّ السليم، وجودُ حدودٍ واضحةٍ بين الأجيال وبين الأشخاص، أي أنّ مكانَ الأبوين غيرُ مكان الأبناء، ومكانَ الأكبر غيرُ مكان الأصغر. للأبِ دورُ الحامي الأساسيّ لزوجته وأطفاله، وهو الضامن الأوّل لقواعد الحياة في أسرته. وللأم دورُ الحَضْنِ والحنان والتواصل بين الآخرين، وهي الضامن الثاني للقواعد الأساسيّة في الأسرة. الأبوان هما من يحمل مسؤوليّة القرارات العائليّة، وتنظيم قواعد الحياة اليوميّة، وتطوير هذه القواعد كي تناسبَ نموّ الأبناء وتطوّرهم. ففي العائلة السليمة قواعدُ للخلاف بين الأفراد، وقواعدُ للتفاوض. قواعدُ للتصالح ولردم التباعد، وقواعدُ للوجبات العائليّة، ولساعات الخروج من المنزل، ولأيام العطلة، ولوقت النوم ولوقت التلفزيون…

هذه التراتبيّة بين الأبوين والأبناء تساهم في منح الأبناء فضاءً آمناً يكبرون وسطه، وتعطيهم مثالاً حيّاً يُنْشِئون وِفقَهُ عائلاتهم في المستقبل. يمكن تجاوز هذه التراتبيّة في حالات خاصّةٍ كمرض أحد الوالدين أو سفره، وعند ذلك يمكن أن يُعطى أحدُ الأبناء صلاحياتٍ مؤقّتةً وواضحةً وعلنيّةً، من أجل ضمان تسيير الأمور في العائلة حتّى يتمّ تجاوزُ الظرفِ الصعبِ.

إنّ العودة إلى تراتبيّة عائليّة متوازنة من شأنها أن تريحَ الطفل خلال الأزمات وتعيد له الثقة بأنّ “كلّ شيء سينتهي على ما يرام”.

قد يُفقَدُ بيتُ العائلة خلال الأزمات، وقد يتقلقلُ التوازن الماديّ للعائلة، وقد يغيبُ أحدُ الأبوين غياباً يطول أو يقصر، لكنّ استعادة الهيكليّة العائليّة بتراتبيّتها وقواعدها، يخفِّفُ قلق الطفل ويعيد له توازنه.

من أهمّ طرق استعادة التراتبيّة العائليّة طريقة التعامل مع المعلومات في العائلة. يحاول الطفل أن يعرف الكثير، ومعنى هذا في منطقه أنّه يصير مثل الكبار إن عرف مثلهم. لكنّ بعض أنواع المعلومات قد تسبّب له الخوف والقلق، إذ إنّه غير قادر على تدبير السيّئ منها. معلومات الكبار خاصَّةٌ بالكبار فقط، ولا يجب أن تصل إلى مسامع الأطفال، بخاصّةٍ ما تعلّق منها بمشاكل ماديّة أو صحيّة أو بالخلاف بين الأبوين. على الأبوين أن يتَّفقا معاً في اختيار ما يُقال للطفل وكيف يُقال.

الرسالة التي يوصلها الأهل للطفل خلال الأزمة هامَّةٌ جدّاً، وهناك فرقٌ بين أن نقولَ لهم: خطر الوباء قاتل وقد نموت جميعاً بسببه، وعدد الوفيّات يصل إلى كذا وكذا، أو أن نقولَ لهم: هذا الوباء خطِرٌ لكنّ هناك وسائل للوقاية من خطره، فعليكم فعل كذا وكذا. الأطفال قادرون على التعايش مع الأزمة إن أعطيناهم برنامجاً ينفذونه  (كالنظافة، وعدم لمس الوجه، وارتداء الكمامة…).

هناك أمرٌ آخر، قد يكون الزوجان في حالة خلافٍ وشقاقٍ زوجيّ قبل الأزمة، أيّ أنّ الفريقَ الزوجيّ قد يكون منهاراً أو على وشك الانهيار. وهنا يجب ألا ينسوا دورهم كفريق والديّ، فهو الذي يستطيع تدبيرَ أمور العائلة بشكلٍ متوازنٍ ولو كانوا بحالة خلاف زوجيّ. أيّ أن دورَ الأبوين يستمر رغم اضطراب دور الزوجين. حتى لو انفصَلَ الزوجان فالوالدان يظلان هما الوالدين، ودورهما مع الأبناء هو دورٌ ثابتٌ ومحوري.

 

دعم دور الأبوين:

مما تقدَّمَ يتضِّحُ لنا أنّ على الأبوين مَهَمَّةً شاقّةً في تدبير وضع أطفالهم خلال الأزمة وهذا يستلزِمُ أن يكونا بخير حال لمواجهة هذه المَهمَّةَ، وهنا أُدرج بعض الأفكار التي قد تساعد الأبوين في الحفاظ على سلامتهما وعلى طاقتهما العائليّة.

+بصورة شخصيّة: الاعتناء بالسلامة الذاتيّة والنفسيّة (عودة إلى مقال:”الأمان والاستكشاف، تمارين نفسيّة”)

+داخل الثنائيّ الأبويّ: التناوب على القيادة، وهذا تمرينٌ مفيدٌ بخاصّةٍ إن كان الكلّ متواجدين في مكانٍ واحدٍ لزمن طويل (كفترة الحجر الصحيّ مثلًا) وهنا يتَّفق الوالدان على تسلّم أحدهم زِمام الأمور في العلاقة مع الأطفال خلال فترة محدّدة، كأن تكون لأحدهما القيادة في الصباح وللآخر بعد الغداء وهكذا. وهنا يكون لكلٍّ من الوالدينِ فرصة يرتاح فيها ويجدِّد نشاطه. على أن توجدَ ساعةٌ يوميّةٌ يجتمع فيها الأبوان دون الأطفال (لتدبير أمور العائلة، للاتّفاق على بعض الأمور أو للاختلاف بعيداً عن الأطفال) وساعةُ اجتماعٍ عائليّ (خارج وقت الطعام) يُسمح فيها للأطفال بالكلام على ما يريدون.

+دعمُ الأهل من خارج الأسرة من خلال: مجموعات على الانترنت (قراءاتٌ مشتركة، نِقاشٌ عن موضوع معيّن، تبادلُ خبرات…) لقاءاتٌ وأحاديثُ ثقافيّة أو روحيّة على مِنصّات الانترنت، مجموعاتٌ تعليميّةٌ لمهاراتٍ تربويّة، نفسيّة، وطبيّة.

د. مارينا رزق

269 Shares
269 Shares
Tweet
Share269