في أبعاد الخدم الليتورجيّة

الأب إلياس مرقص Tuesday July 21, 2020 161

الأب إلياس مرقص

   في الخدم الليتورجيّة التي تصلّيها الكنيسة الأرثوذكسيّة كلّ يوم ثلاثة أبعاد، يحسن أن ندركها لكي تتَّخذ صلاتنا فيها كامل مداها.

فكلٍّ من صلوات النهار تتناول بُعدَ الخَلق (فترة الخَلق الأولى قبل السقوط)، وبُعدَ الفداء (فداء المسيح وتدبير خلاصه لنا بعد السقوط)، وبُعدَ الحياة الشخصيَّة (حياتنا نحن على ضوء البعدين السابقين).

إنَّ صلاة الغروب مثلًا تبدأ بفترة الخَلق: فالمزمور ١٠٣ «باركي يا نفسي الربّ، ربّي وإلهي لقد عظمت جدًّا، بالبهاء والجلال تسربلت…» هو تسبيح الخليقة في زمن لم تكن فيه مثقلة بعد بالخطيئة. ثمَّ المزامير ١٢٩ و١٤٠ و١٤١ تأتي بنا إلى زمن السقوط والفداء: «يا ربّ إليك صرخت فاستمع لي…» «من الأعماق إليك صرخت يا ربّ»، «أخرج من الحبس نفسي». فتجري الدورة الصغيرة التي ترمز إلى مجيء المسيح إلى العالم: «الحكمة فلنستقم»، و«يا نورًا بهيًّا لقدس مجد الآب…» أمّا البعد الشخصي الذي يرافق البعدين السابقين فينتهي بالقول: «الآن أطلق عبدك أيُّها السيِّد حسب قولك بسلام فإنَّ عينيَّ قد أبصرتا خلاصك…».

وصلاة السحر ترمز في مجال الخَلق إلى ظهور النور، وفي مجال تدبير الخلاص إلى ساعة القيامة، وفي المجال الشخصيّ نقدِّم لله أُولى حركات قلبنا ونفسنا كولادة جديدة وكقيامة.

وعلى هذا المنوال تجري بقيَّة الساعات[1]. ويُلاحظ هذا الأمر خارج الخدم اليوميّة أيضًا. ففي ما يُسمَّى سواعي الفصح (إذ نصلّيه خلال الأسبوع التالي لأحد الفصح) ويتلوه الكاهن في كل قدّاس إلهيّ أثناء التبخير قبل الدورة الكبيرة، نبدأ بالبُعد الكونيّ مشيرين إلى حضور المسيح في كلّ مكان: «لقد كنت في القبر بالجسد وفي الجحيم بالروح، بما أنّك إله، وفي الفردوس مع اللصّ وعلى العرش مع… أيُّها المسيح، أيُّها المنزَّه عن أن يكون محصورًا». ثمَّ ننتقل إلى البعد الفدائيّ بتحديد حضور المسيح في القبر بوصفه ينبوع القيامة: «أيُّها المسيح إنَّ قبرَك الذي هو ينبوع قيامتنا قد ظهر في الحقيقة حاملًا الحياة ولأبهى من كلِّ خدر ملوكيّ». وننتهي بالبُعد الشخصيّ ممثَّلًا بالعذراء مريم نموذج حياتنا: «إفرحي يا من هي للعليّ مسكن إلهيّ لأنّه بك يا والدة الإله قد مُنح الفرح للصارخين إليك: مبارَكَةٌ أنتِ في النساء أيَّتها السيِّدة البريئة من كلِّ عيب». لقد أصبحت هي مسكن الله. إنَّ قلبنا مدعوٌّ ليصير مسكنًا لله. ولذلك يتلو الكاهن بعد هذه القطع مباشرةً المزمور الخمسين حيث نستغفر ونطلب: «قلبًا نقيًّا اخلق فيَّ يا ألله»ـ لكي نقتبل المسيح بالمناولة.

وممّا يسترعي الانتباه أنَّ الصلاة التي تفتتح كلَّ الخدم تحتوي هي أيضًا على الأبعاد الثلاثة: «أيُّها الملك السماويّ…الحاضر في كلِّ مكان والمالئ الكل (البُعد الكونيّ)، كنز الصالحات ورازق الحياة (بُعد الفداء) هلمَّ واسكن فينا وطهّرنا من كلِّ دنسٍ وخلِّص أيُّها الصالح نفوسنا» (البُعد الشخصيّ). ونستطيع أن نتبيَّن ذلك أيضًا في غيرها من الصلوات… (ولربَّما في دستور الإيمان)…

فإذا ما انتبهنا إلى هذه الأبعاد تتَّسِع صلاتنا إلى حدود الكون المملوء بحضور الله الخالِق، وتواكب أسرار نزوله إلينا بالفداء، وتحقِّقها في أعماق القلب. فنسبِّح مع الخليقة كلَّها، مع الجبال والوديان والنور وكلّ نسمة، ونئنُّ مع آدم الساقط ملتمسين الرحمة، ونفرح بخلاص الربّ الذي نحويه في قلوبنا ممجِّدين وشاكرين.

وهذا وإنَّ هذه الأبعاد تُعاش معًا، نكاد نشعر بها في آنٍ واحد إذا صحَّ القول. ذلك بأنَّ الخدم الليتورجيّة كثيرًا ما تُعرض وتجمع «الأضداد» في نوعٍ من «تقابل تَناوُبيّ»(alternaner) ، فتقرن بين التمجيد والاسترحام، بين حزن التوبة وفرح الغفران…

مثالًا على ذلك فبَعد «المجد للآب والابن والروح القدس» غالبًا ما نقول: «يا ربّ ارحم يا ربّ ارحم». و«قدّوسٌ الله قدّوسٌ القويّ قُدّوسٌ الذي لا يموت ارحمنا»… ومزامير السحر الستة مُختارة ومرتّبة على أساس تلاوة مزمور يغلب فيه طابع اليقين والفرح بالخلاص ثمَّ مزمور يغلب فيه طابع التضرُّع من قلبٍ يئس الخطيئة… وهكذا دواليك.

وفي الذكصولوجيا الكبرى أيضًا نجد تقابلًا بين التمجيد والاسترحام: فبعد «أيُّها الربُّ الإله يا حَمَل الله يا ابن الآب» نقول: «يا حامل خطيئة العالم ارحمنا يا رافع خطيئة العالم»؛ وبعد «في كلِّ يومٍ أبارك وأسبِّح اسمك إلى الأبد وإلى أبد الأبد»، نقول: «أهِّلنا يا ربّ أن نحفظ في هذا اليوم بغير خطيئة»؛ وبعد «مبارَكٌ أنت يا ربّ إله آبائنا مسبَّحٌ وممجَّدٌ اسمك إلى الأبد آمين»، نقول: «لتكن رحمتك علينا كمثل اتّكالنا عليك»؛

وبعد «لأنَّ من قبلك عين الحياة وبنورك نعاين النور»، نقول«فابسط رحمتك على الذين يعرفونك»

وعلى هذه الصورة نحقِّق في موقف واحد وحالة روحيّة واحدة وضع الإنسان «الكيانيّ» وإذ ذاك نكون في «الحقّ» وتاليًا في السلام. فالإنسان المخلوق من العدم، الساقط، العاجز، والمُحبّ البشر، فيجمع «الشعورين» في شعور واحد موحَّد. ألا يقولون إنَّ القدّيسين يدخلون الجنَّة وهم يرتعدون؟

فطوبى لمن يُعطى نعمةً ليحيا صلاته هكذا، فبآفاتها الكونيّة والغذائيّة والقلبيّة، بروح التحسُّر والتوبة وبفرح الخلاص والتسبيح والشكر معًا…

 

 

المرجع : مجلّة النور، العدد الرابع، ١٩٩٤.

 

 [1]  الساعة الثالثة مثلًا هي في مجال الخَلق ساعة تجربة الحيّة لآدم في الفردوس. وفي مجال الفداء ساعة انحدار الروح القدس على التلاميذ. وفي المجال الشخصيّ صلاة توبة والتِماس تجديد الروح القدس فينا لنتغلّب على إبليس. وكذا الساعة السادسة والتاسعة والأولى (للمزيد من التفاصيل، انظر نشرة دير مار جرجس الحرف، العددان ١١ و١٢).

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share