الأرشمندريت إلياس مرقص
« من أهلك نفسه يحييها » (لوقا ١٧: ٣٣)
١- إنّ تحقيق برنامج الإنسان كما يريده الله[1] لا بدّ له من السير في طريق، لا بدّ له من الاختيار أوّلًا.
٢- الإنسان «كائن مدعوّ»: مدعوّ إلى أن يصير، متّخذًا بنفسه تحقيق مصيره، بموجب حرّيّته – التي هي جوهر كيانه – وحسب دعوته النهائيّة المرادة من الله. (يقول القدّيس باسيليوس الكبير إنّ الإنسان كائن مدعوّ إلى أن يصير إلهًا). إذا كانت الحرّيّة محور كيان الإنسان فالاختيار باب تحقيق هذا الكيان. الاختيار وحده، على كلّ حال، يؤكّد الحرّيّة الإنسانيّة ويظهرها. الحرّيّة الإنسانيّة تقوم بالضبط في الاختيار.
٣- ولكنّ الناس إجمالًا لا يختارون: في صعيد الله، الصعيد المصيريّ الأخير، الناس لا يختارون بل ينقادون لظروفهم السلبيّة، لآراء غيرهم، للأيّام تتوالى.. ذلك بأنّ كلّ اختيار– بالمعنى القويّ للكلمة – يؤدّي إلى التزام، والناس لا يريدون أن يلتزموا. فلسفة عدم الارتباط وعدم التقيّد هي السائدة إجمالًا في مجتمعنا[2]، وتاليًا الحياة الشخصيّة الداخليّة مبنيّة على ذلك أيضًا: بيني وبين نفسي لا أريد أن أتقيّد، أن أسير في خطّ معيّن، أن أرتبط بوضع نهائيّ. بالنتيجة، ورغم المظاهر السطحيّة الغاشّة، هذا هو مذهب العيش يومًا فيومًا، في اللحظة الآتية من دون ارتباط أو هدى..
٤- الحرّيّة هذه غير المستعملة، التي لا تختار ولا ترتبط ولا تتعهّد، حرّيّة معطلة زائدة لا نفع لها للإنسان في مجال الوجود الأصيل وتحقيق الحياة[3]. مثل هذا الإنسان، الإنسان المحجم، اللاملبّي، لا يؤدّي مهمّته في الكون، لا يخرج من نفسه في سبيل ذلك، في حين أنّ الكلّ مسؤول عن الكلّ، عن المجتمع والكنيسة والكون. هذا الكون نحن نعطيه معناه – على ضوء المسيح – ونحن متضامنون جميعًا في مسؤوليّة مصيره. الإنسان الذي لا ينفتح لهذه المسؤوليّة ولا يختار شيئًا لتحمّل نصيبه منها ليس بإنسان أصيل.
٥) لكلّ إنسان دعوتان: الدعوة الأولى تدعوه إلى اختيار وتبنّي الغاية الأخيرة الموجودة في الحياة. والثانية تدعوه إلى اختيار (وجمع وترتيب وتوحيد) الوسائل العمليّة لتحقيق تلك الغاية: أي الدعوة الروحيّة والدعوة الزمنيّة. الدعوة الروحيّة، الغاية الأخيرة، واحدة مشتركة وعامّة بين جميع الناس (انظر المقال السابق المشار إليه أعلاه)، وإنّما من أجل تحقيقها تختلف الطرائق الظرفيّة باختلاف كلّ فرد من الناس. ليس من إنسان إلّا متجسّدًا في واقع معيّن يجسّده. فبالاختيار يختار المرء أيضًا واقعه، يشقّ طريقًا له في الكون باختيار الطريق والعمل الالتزاميّ فيه، وبهذا فقط، «يغتني» الكون ويعطيه معنى على نور تصميم الله[4].
٦ – حسب تحليل كيركغارد، المرء في طريق تفتيشه عن الدعوة الحقيقيّة العامّة يجتاز عادة ثلاث مراحل رئيسة:
١- المرحلة «الجماليّة» الفنّيّة: حبّ الموسيقى، الرسم، الجمال.. مرحلة الجمال الطبيعيّ.
٢- ثمّ مرحلة الجمال الأخلاقيّ: الاستقامة، الطهارة، التفاني.
٣- وأخيرًا المرحلة الدينيّة الروحيّة: الاتّصال المباشر بالله..
كثيرًا ما نكتفي باكتشاف الجمال الطبيعيّ أو الخير الأخلاقيّ ولا نتابع اختياراتنا (في الطريق اختيارات عديدة متتابعة، بفضلها يحمل الإنسان مسؤوليّة ذاته ووجوده والكون حوله)، لا نتابع اختياراتنا بل نتوقّف فتصير الدعوة ناقصة، مبتورة. وهكذا يصبح الجمال والخير حاجزًا وعائقًا يمنعان المرء من الصعود أعلى. الرجل الفنّان أو الرجل المستقيم الفاضل كثيرًا ما يكون قليل الحساسيّة للقيم الروحيّة، وذلك بسبب اكتفائه وإعجابه بالفنّ أو الفضيلة[5].
٧- والمرء يخطىء دعوته أو لا يتبنّاها (الدعوة الروحيّة والزمنيّة مرتبطتان هنا كلّ الارتباط)، إمّا بسبب عدم انتباه كافٍ في سبيل اكتشافها، أو بسبب عدم شجاعته لاتّباعها. والعالم الحاليّ مع الأسف، بضوضائه واهتماماته الكثيرة ومغرياته، لا يساعد على ذلك. يضاف أنّ الإنسان معقّد متناقض مزدوج في أكثر الأحيان وعليه أن يكتشف دعوته ويحقّقها بالضبط في وضعه المعقّد غير الواضح، وربّما في ظلمة حقيقيّة وتلمّس دائم. عليه أن يختار ويسير خطوة بعد خطوة. وسعادته وفرحه على كلّ حال ليسا في تحقيقه دعوته (في الانتهاء من تحقيقها!) بل في أنّه يحقّقها[6].
٨- ما يساعد على اختيار الدعوة الزمنيّة الخاصّة من أجل تحقيق الدعوة الروحيّة العامّة وضع الإنسان الظرفيّ: مؤهّلاته، ميوله الطبيعيّة، حاجات بيئته وظروفها التاريخيّة.. هذه إشارات ثمينة قد تدلّ على الطريق. وعلى كلّ حال فالطريق الأفضل لكلّ إنسان هو الذي يتيح له الوجود الأكثر أصالة، أعني الذي يتطلّب منه سخاء أكثر وتجاوز ذات أكثر.. في الاختيار ألم وضيق أحيانًا ولكن مثل هذا الألم ولادة.. «إنسان جديد يولد في العالم..» – والربّ يعين.
٩- متى اخترنا وانخرطنا في الطريق تلزمنا الشجاعة لمتابعة المسير، السير إلى الأمام دائمًا، حتّى النهاية. ذلك بأنّ وجودنا البشريّ ليس معطى نهائيًّا، ليس أبديًّا إذا جاز القول. بل كلّه في صيرورة، كلّه «صائر»، في حركة مصير دائمة (لا تستحمّ مرّتين في النهر الواحد، وليس المرء نفسه الذي يستحمّ مرّتين..) ولكنّنا لا نصير من لا شيء، من العدم: إنّ فينا الكائن الذي يجب أن نصيره، قد أعطيناه مع الوجود. هذا وإن كوننا «نصير» نتغيّر، نكبر، هو رأس مالنا. هو عظمتنا، عظمة الإنسان المخلوق. يجعل لنا أجنحة كما يقول القدّيس غريغوريوس النازينزيّ. ينظر المتردّدون إلى أخطار المصير والصيرورة أكثر ممّا ينظرون إلى إيجابيّتها وثروتها. هم يخافون من الجهد المستمرّ المتجدّد أبدًا الذي يتطلّبه النموّ البشريّ. في حين أن هذه سنّة الحياة وطريق الحياة.
١٠) متى اخترنا وانخرطنا في الطريق فاختيارنا يعني التزامنا كما قلنا، وكلّ التزام (على قدره) غير مشروط. فإن كان اختيارنا اختيارًا مطلقًا فالتزامنا غير مشروط مطلقًا. وهكذا فالمرء الذي، بمعرفة وحرّيّة، يلتزم وضعه أمام الله يلتزم كلّيًّا ونهائيًّا: نحن مسيحيّون إلى الأبد.. هذه الأمانة «الوجوديّة» لا ارتداد فيها ولا توقّف، بل هي ممتدّة كلّها نحو المستقبل، نحو الإبداع، تتخلّى تدريجيًّا وقدر الإمكان عمّا يبلى فينا ويعتق. بدون هذه الأمانة الحيّة الخلّاقة المتجدّدة قد نكون «أمينين» ولكن سلبيًّا، نتابع أيّامنا على الرتابة والروتين، في عقليّة موظّفين..
١١) لذلك يجب أن نكون دائمًا متأهّبين لاختيارات أخرى متتالية كما قلنا. بل كلّ اختيار حقيقيّ والتزام يزيد في طاقتنا على الاختيار أيضًا والالتزام.. وهكذا نكون قومًا «ملبّين»، لا نتوقّف متحجّرين. الإنسان الملبّي يتّصف بروح التخلّي الدائم عن الذات، روح الفقر، يتخلّى عن نفسه ليدخل في تصميم أعلى منه..
١٢) روح التلبية هذه والتجديد الضروريّة جدًّا في بيئتنا وكنيستنا تُكتسب بالممارسة وفي النضال حتمًا (في أكثر الأوقات). والنضال ضروريّ لا بدّ منه، وهو ممكن بل سهل بنعمة الله رغم الألم. بالنضال الدائم ضدّ «الإقامة»، ضدّ حواجز الاستقرار والفضيلة التي أقمناها لأنفسنا.. نواصل السير: نواصل الوجود، فنشق طريقنا الحقيقيّ مجسّدين قصد الله نحونا ومشيئته فينا في بيئتنا وتاريخنا، فيتمجّد اسمه القدّوس في طاعة أبنائه الأوفياء على منوال طاعة المسيح.. إنّ حبّة الحنطة إن ماتت أتت بثمر كثير (يو ١٢- ٢٤).
المرجع: مجلّة النور، العدد الرابع، نيسان وأيّار، ١٩٦٥.
[1] انظر مقال «في الحياة الداخليّة»، العدد الأوّل، ١٩٦٥.
2 بل تستطيع القول بشيء من المبالغة، إنّ التملّص من الأحلاف والعقود هو الجاري في السياسة والتجارة والاجتماع.. أعود عن ارتباطي أو وعدي عندما يتسنّى لي ذلك أو عندما ما يحلو لي. معظم العلاقات بين الناس مبنيّة على عدم الالتزام وعدم الأمانة، على نوع من الكذب وسوء النيّة.
[3] وإذا عيشت كمذهب فإنّها السلبيّة الجذريّة، الانتظار المحض، وعدم الإقدام على شيء وجوديّ بحجّة الخوف من الضياع، اللاوجود بحجّة الوجود..
[4] الأمر صعب..! لكنّ الإنسان الأصيل لا يقف عند الصعوبة ويحجم، بل ينطلق ويرفض الفشل، لا يقبل الفشل قضاء وقدرًا.
[5] يجب الملاحظة هنا أنّ المرء الذي يتحلّى بقيم بشريّة، المرء الحسّاس للجمال مثلًا يؤهّل إجمالًا لإعطاء حياته الروحيّة ملئًا آخر أكثر غنى وكمالًا.
[6] لا يشترط أن يختار أمرًا غريبًا غير اعتيادي. قد يختار المرء الوضع الذي هو فيه بالضبط ويتبنّاه وبروحنه. لكن الأمر يحتاج إلى تمييز حتّى لا يكون هذا من باب التهرّب من مسؤوليّة تطلب منه أمام الله في ظرف بيئته وكنيسته.