مرسيل مرقص
١ – التعليم الأرثوذكسيّ عن الثالوث الأقدس ورد جليًّا في قانون وضعه القدّيس أثناسيوس وهذه ترجمته:
– إنّ الايمان المسكونيّ، هو أن نعبد إلهًا واحدًا في ثالوث وثالوثًا في وحدانيّة، غير مشوّشي الأقانيم ولا مقسّمي الجوهر، فإنّ أُقنوم الآب آخر وأقنوم الابن آخر وأُقنوم الروح القدس آخر، لكن للأب والابن والروح القدس لاهوت واحد ومجد متساوٍ وعظمة متساوية في الأزليّة. فكما هو الآب كذلك الابن وكذلك الروح القدس…
هكذا إله هو الآب وإله الابن وإله الروح القدس، لكن ليسوا ثلاثة آلهة بل إلهًا واحدًا، وكذلك الآب ربّ والابن ربّ والروح القدس ربّ لكن ليسوا ثلاثة أرباب بل ربًّا واحدًا…
فالآب ليس مصنوعًا ولا مخلوقًا ولا مولودًا من أحد، والابن هو من الآب فقط ليس مصنوعًا ولا مخلوقًا بل هو مولود. والروح القدس من الآب غير مصنوع ولا مخلوق ولا مولود بل منبثق… وفي هذا الثالوث ليس أَحد أَوّل أو آخر ولا أَحد أَكبر أو أَصغر، لكنّ الثلاثة أَقانيم بجملتها هي مماثلة بعضها لبعض في الأزليّة ومتساوية… فمن أَراد أن يخلص فليعتقد بالثالوث الأقدس كما أَشرنا…
٢ – إيضاح التعليم عن الثالوث الأقدس:
– جوهر واحد في ثلاثة أقانيم، هذا مختصر التعليم.
– الجوهر هو ما هو عامّ للثلاثة، الأقنوم ما هو خاصّ بكلّ منهم.
– الابن ليس الآب لأنّه ليس إلّا آب واحد، ولكن هو ما هو الآب.
– الروح القدس وأن ينبثق من الآب ليس الابن لأنّه ليس إلّا ابن واحد، ولكن هو ما هو الابن. الثلاثة واحد في الألوهيّة والواحد ثلاثة في الأقانيم ». (غريغوريوس النازينزيّ).
– الفرق بين الأقانيم الثلاثة هو أن الآب لا يولد ولا ينبثق من أُقنوم غيره: الآب عدم الولودة وعدم الانبثاق، والابن مولود من الآب: الولودة، والروح القدس منبثق من الآب، الانبثاق «لقد عرفنا أنّ هناك فرقًا بين المولوديّة والانبثاق، لكنّنا لا نستطيع أن نعلم طريقة الفرق ونوعّيته» (يوحنّا الدمشقيّ).
– الفرق الوحيد بين الثلاثة أقانيم هو صلة الأصل وهي صلة نفي: الآب ليس الابن وليس الروح، والابن ليس الآب وليس الروح، والروح ليس الآب وليس الابن.
– إنّ مولوديّة الابن غير المولوديّة الجسديّة. هي أَزليّة أَبديّة، لا بداءة لها ولا نهاية. الابن ما زال مع الآب لم يفترق عنه، أَي أنّه وُلد ويولد على الدوام من دون افتراق. وانبثاق الروح أَزليّ أيضًا لا بداءة له ولا نهاية. فالابن والروح هما من الآب منذ أن كان الآب أَي قبل الدهور.
– الأقانيم الثلاثة غير مفترقين بل هم متداخلون وأعمالهم غير مميّزة: ما يعمله الواحد يعمله الثلاثة معًا والثلاثة يعملون كواحد: طبيعة واحدة وإرادة واحدة وقوّة واحدة وعمليّة واحدة. هم متّحدون ولكن لا ليندمجوا بعضهم مع بعض بل ليحووا بعضهم بعضًا، غير مفترقين ولا مجزّئين بالجوهر، هم مثل ثلاث شموس الواحدة ضمن الأخرى، فنورهم واحد بالتداخل الصميميّ.
– مبدأ الوحدة في الثالوث هو الآب: الابن يولد من الآب والروح القدس ينبثق من الآب. إذا قلنا مع اللاتين إنّ الروح القدس ينبثق من الآب والابن، تركنا وحدانيّة الآب وأَدخلنا صلة أَصل جديدة. الآب هو مبدأ الوحدة وينبوع الألوهيّة في الثالوث الأقدس.
– لكنّ الآب ليس فوق الابن والروح، وإلّا جعلنا من «المبدأ» مبدأ الأشخاص دونه مقامًا فنسيء إليه بدلًا من أن نعظّمه.. لأنّ مجد المبدأ ليس في التقليل من قيمة الذين يأتون منه..
– مبدأ الكائن المخلوق هو التغيير، الانتقال من عدم الوجود إلى الوجود. أمّا الثالوث الأقدس فثبات مطلق واستقرار دائم، ثبات مطلق بالضرورة إذا أمكن التعبير. ليست هنالك نسبة بين الثالوث والكائن المخلوق. لو فرضنا أنّ الكون غير موجود، لبقي الله ثالوثًا – آب وابن وروح قدس. خلق العالم عمل «إراديّ»، أمّا انبثاق الأقانيم فعمل «بحسب الطبيعة». ليس هنالك تغيير داخليّ في الله، ليس من حركة أو «مصير» أو مأساة تتطلّب أن يتوسع الله في ثالوث. الثالوث ثبات مطلق واللغة البشريّة تعجز عن التعبير عن هذه الاستراحة الملوكيّة…
٣ – تأمّلات في الثالوث الأقدس:
الله لا يسكن في ضيق (الرقم ١) ولا يمتدّ من دون حدّ (بعد الرقم ٣). لا توحيد ولا تعدّد. فنرى بذلك سرّ العدد ٣. «الإله الواحد يتوسّع بمجرّد غناه، العدد ٢ يفوق العدد ٣ يفوق التفريق الواحد والمتعدّد يجمعان ويحصران في الثالوث». القدّيس غريغوريوس النازينزيّ يبيّن نقص كلّ عدد غير العدد ٣. ولكن هل أنّ فكرة العدد يمكن أن تنطبق على الله؟ كلّا. إنّنا عندما نتأمّل في الثالوث لا نعدّ ١ – ٢ – ٣، الأول، الثاني، الثالث: «لأنّي أَنا الأوّل وأَنا أَكثر من الأوّل» (أشعياء ٥٤: ٦). ليس هذا العدد المادّيّ الذي نحسب به ولا يطبّق في الملكوت الروحيّ حيث لا يوجد ازدياد كمّيّ. إنّما ٣: ١، العدد ٣ ليس «كمًّا» إنّما يعبّر عن نظام الألوهيّة الذي لا يوصف.
– التأمّل في الثالوث الأقدس يرفع النفس فوق الكائنات المتغيّرة والعكرة، ويعطيها ثباتًا في وسط الشهوات، وسلامًا لا يتزعزع هو بدء التأليه. لأنّ الإنسان المتغيّر بالطبيعة، يجب أن يصل إلى حالة الثبات الأبديّ بواسطة النعمة، ويشترك بالحياة غير المتناهية في نور الثالوث الأقدس. ولذلك فقد دافعت الكنيسة في مراحل حياتها التاريخيّة عن عقيدة الثالوث الأقدس كاملة غير ناقصة بملء قواها.
– سرّ الثالوث لا يوصل إليه إلّا بالجهل التامّ الذي يرتفع عن كلّ مفاهيم الفلسفة. هو نهاية اللاهوت السلبيّ: فيظهر الثالوث الأقدس كواقع أوّليّ مطلق. لا يفسّر بحقيقة أخرى ولا يستنبط أو يكتشف من حقيقة أخرى، لأنّ ليس ما هو قبله. عدم قابليّة الله لأن يُعرف تظهر بالنهاية كثالوث، فيجد الفكر فيه ثباتًا لا يزعزع ويجد اللاهوت أساسه الأزليّ والجهل يصير معرفة.
– الثالوث أَساس كلّ فكر دينيّ وكلّ تقوى وكلّ حياة روحيّة وكلّ اختبار.
عندما نفتّش عن ملء الكيان، عن معنى الوجود، وغايته، نفتّش بالحقيقة عن الثالوث. علينا إمّا أن نقبل الثالوث الأقدس أو نجد أَنفسنا في طريق لا منفذ له، في تمزيق الكيان، في الموت الروحيّ، أمّا الثالوث أو جهنم.
العقيدة الثالوثيّة صليب للفكر البشريّ ولذلك لم نستطع أن نأتي إليها إلّا بعد صلب المسيح الذي تغلّب على الموت وعلى جهنم. ولذلك أيضًا إنّ استعلان الثالوث في الكنيسة يظهر كالحقيقة الجامعة الأولى.
المرجع: مجلّة النور، العدد السادس، حزيران، ١٩٥٦.