في الحياة الداخليّة

الأرشمندريت إلياس مرقص Tuesday July 21, 2020 261

الأرشمندريت إلياس مرقص

لا يجهل أحد أهمّيّة الحياة الداخليّة في حياة الإنسان. وقد ابتغينا في السطور التالية تركيز الأفكار حول هذا الموضوع: مكانة الحياة الداخليّة، غايتها، علاقتها بالحياة الاجتماعيّة.

 ١- إمكانيّة الحياة الداخليّة:

في كلّ منّا إنسان داخليّ إلى جانب الإنسان الخارجيّ، كلّ إنسان سليم يشعر من وقت إلى آخر بحاجة إلى الاختلاء إلى نفسه والرجوع إلى ذاته. يشعر بأنّ هناك شيئًا آخر عبر المنظورات والمحسوسات، بأنّ مركزه الحقيقيّ هو ما وراء المنظورات والمادّيّات ذلك بأنّ حياتنا الحقيقيّة ليست بالنتيجة تلك الحياة الخارجيّة الصاخبة بل في أعماق النفس.. إنّ العالم الخارجيّ (أو «العالم» فقط) يحاول بكلّ الطرائق جذب الإنسان خارج نفسه وإلهاءه بأمور أخرى «ويح لي طال اغترابي، طالت غربتي على نفسي». (مزمور ١١٧: ٥ و ٦). ولذلك فالإنسان الخارجيّ المشتّت، إنسان الحواسّ والفضوليّة يطغي على الإنسان الداخليّ ويغلب. الإنسان الخارجيّ ينال حقّه بسعة، أمّا الإنسان الداخليّ المحتاج إلى عناية أكثر فيبقى متقلّصًا مطمورًا، مجرّد احتمال وإمكانية وحسب. الإنسان الخارجيّ يعيش على حساب الإنسان الداخليّ ويتضخّم، وذلك في نوع من سرطان نفسانيّ يسبب اضطرابًا كيانيًّا مبهمًا، مشادّة داخليّة مؤلمة من جرّاء اختلال الانسجام والتوازن. الإنسان الخارجيّ بدلًا من أن يصدر عن الإنسان الداخليّ ويغتذي منه ينقطع عنه ويسدّ عليه، بدلًا من أن يحيا منه يقتله. وهكذا بدلًا من أن نحيا حياتنا الحقيقيّة لا نحيا مطلقًا، أو بدلًا من أن نتطابق مع أنفسنا ونكون في سلام، نزدوج ونشقى..

معنى الكون ومعنى المجتمع والعائلة والمهنة والجمعيّات وكلّ شيء، يتركّز بل يقوم في داخل الإنسان، في نظرته إلى الكون وشعوره وإرادته: الحقائق بالنتيجة لا تجري على الصعيد الخارجيّ بل على الصعيد الداخليّ. المعركة الحقيقيّة الفصل ميدانها القلب. الإطار الخارجيّ الإنسان يعطيه معناه ويكيّفه. فالحياة الداخليّة تاليًا أساس حياة الإنسان كلّه، جذور حياة الإنسان كلّها، تشمل على السواء الحياة الشخصيّة والحياة الاجتماعيّة على مختلف نواحيها.

الإنسان يبدأ حياته في قلبه. كلّ شيء يتقرّر في القلب. مثال الإنسان الأعلى وتحقيقه إن لم يولد في القلب أوّلًا فلن يتوصّل المرء إلى شيء. «قبل كلّ شيء يا إخوتي عودوا إلى أنفسكم».. سرّ الإنسان ليس سرًّا منظورًا بل هو مخفى كامن في داخل قلبه. الإنسان إن لم يدخل بعد إلى قلبه، أو لم يحاول الدخول، أو إن لم يكن على طريق قلبه، فهو لم يباشر بعد حياته الحقيقيّة، رغم وجوده المادّيّ الجسديّ وحياته اليوميّة..

الحياة الداخليّة تاليًا هي التي تعطي «الملء» طابع الملء لكلّ حياة الإنسان. الإنسان الكامل، سرّ برنامج الإنسان الكامل كما يريده الله، والواجب تحقيقه، هو في قلبه أوّلًا، ولذلك يتكلّم الكتاب المقدّس على «إنسان القلب الخفيّ» (١بط ٣: ٤).

في الحياة الداخليّة يتمّ اللقاء مع الله لا خارجها وتاليًا هي مكان الوجود.. وفي الحياة الداخليّة يزداد المرء عمقًا ووجودًا حقيقيًّا أمام الله: أي أنّه يحيا.

ثمّ إنّ الحياة الداخليّة تنمو وتكبر ككلّ شيء لا تبقى كما هي، يجب أن تصير حقيقة كاملة لا مجرّد إمكانيّة. مبدأ   الحياة الروحيّة فينا لا يكفي، يجب استثماره. إنّنا نبدأ بشيء وننتهي بشيء آخر. كلّ مرحلة تعلوها أخرى، الرجوع إلى الذات لا يكفي، محاربة الخطيئة لا تكفي. الإنسان «الأخلاقيّ» أيضًا لا يكفي.. هناك حياة «روحيّة»غير حياة النفس، سنرى أنّها حياة الله. على الإنسان ألّا يكتفي بحياة النفس بل يتقبّل حياة الله لأنّه مخلوق على صورته. وإلّا لا يحقّق كماله ولا الغاية من وجوده. يجب ألّا نعيش «من أجل» الله، هذا لا يكفي، بل مع الله: الله فينا ونحن فيه: «أنا فيكم وأنتم في»: من أجل هذا أتى المسيح، ليعطينا الحياة. ما هي هذه الحياة التي قال عنها مع أنّنا كلّنا عائشون؟ إنّها حياة أخرى، أكثر غزارة، أوفر. الكتاب المقدّس يتكلّم على أناس «نفسانيّين لا روح لهم» (يهوذا ١٩)، ويتكلّم على الإنسان الجسدانيّ والإنسان الروحانيّ. الإنسان الروحانيّ يكون في العالم مثل بقيّة الناس، يعيش بينهم مثلهم: ولكنّه في قلبه منجذب إلى فوق، متّصل بحياة أخرى، ليس من العالم. «وأنا إن ارتفعت أجذب إليّ الجميع». هذه الحياة الأخرى، غير حياة النفس، لا نعرفها دائمًا. هي موضوع اختبار. إنّها تأتي من فوق، من عند الله مجّانًا: هي موضوع نعمة. ولكنّ الله يعطينا إيّاها في أوقات مباركة، يعطينا أن نتذوّق حياته وروحه القدّوس.

إذًا الحياة الداخليّة أساس ومنطلق لحياتنا الحقيقيّة الكاملة. هي حضورنا لنفسنا وعبر نفسنا حضورنا لله. ولذلك يعطي الكتاب المقدّس تلك الأهمّيّة الكبرى للقلب: احفظ قلبك، أعطني قلبك .. ويتكلّم على كتابة الناموس في وسط القلب، «خزنت كلامك في قلبي».. وعلى محبّة الربّ «من كلّ القلب».. وعلى القلب الجديد بدلًا من القلب القديم، قلب الحجر.. إنّه قلب العهد الجديد: «أنا فيهم وأنت فيّ»: «لست أنا أحيا بل المسيح يحيا فيّ».. يسوع هو قلبنا، سكناه فينا بروحه القدّوس هي الحياة الروحيّة..

لأنّ الحياة الروحيّة يجب ألّا نفهمها كدوران داخليّ عقيم بل كانطلاق إلى آفاق الربّ، كسير واضح المعالم ونموّ يقين في برنامج محقّق في المسيح.

٢- الحياة الداخليّة وبرنامج الإنسان:

إذا أردنا الآن إيراد لمحة سريعة عن برنامج ″الإنسان″ بصورة عامّة على ضوء الكتاب المقدّس، أمكننا القول باختصار إن الإنسان بالأساس (وعلى كلّ حال) ليس منقسمًا إلى داخليّ وخارجيّ، ليس جسدًا ونفسًا بل هو كلّ ما يعبّر عن ذاته في أوجه مختلفة.. ليس كائنًا يجمع بين العالمين الروحيّ والمادّيّ: الكتاب المقدّس لا ينظر إلى الإنسان مثل هذه النظرة، لا ينظر إليه إلّا ككائن أمام الله هو صورته. أمام الله: أي إنّ قصّة الإنسان غير محصورة في عالم طبيبعيّ مغلق بل تتّسع وتنفتح إلى آفاق التاريخ، تاريخ أوسع من التاريخ الزمنيّ، تاريخ الدور الأوّل فيه لله: الله الذي خلق الإنسان والذي يصير إنسانًا ليخلّص الإنسان.

الإنسان من الأرض هو، ولكنّه غير محدود ومحصور في الأرض. إنّه خليقة حرّة في علاقة دائمة وأساسيّة مع الله. هذه العلاقة هي من مقوّمات الإنسان منذ البدء، والتكلّم على الإنسان بصرف النظر عن علاقته بالله كلام لغو لا يمكن تصوّره في الكتاب.

ما هي العلاقة الأساسيّة بين الله والإنسان كما تظهر في الكتاب؟ هي الطاعة لكلام الله. الله يأمر الإنسان لكي بالطاعة لكلامه يكتمل الإنسان، عارفًا أنّه ليس الله بل مرتبط بالله. بالطاعة ينفتح الإنسان لله ويدخل في حوار الحبّ والحياة.

المسيح آدم السماويّ، هو الذي حقّق هذا البرنامج. إنّه صورة الله (ليس على صورة الله)، الابن المتّحد دائمًا بالآب، الذي يعمل مشيئة الآب، الذي يعطينا روحه القدّوس لنصعد إلى الربّ.

برنامج الإنسان إذًا هو أن يكتمل: أن يخرج من ذاته، أن يتجاوز ذاته بالطاعة لينال حياة الله. الحياة الداخليّة، الحياة الروحيّة كلّها غايتها تجاوز الذات، الانتقال من الأنا الأنانيّ، المغلق، المحتكر، إلى الأنا السخيّ، المنفتح، المحبّ، لينال الوجود الحقيقيّ: حياة الله. هذا التمييز بين الأنا الاستيلائيّ والأنا المنفتح المعطاء تمييز كلاسيكيّ في علم النفس، لكنّ الانتقال من الأوّل إلى الثاني يجب أن يقود إلى اقتبال حياة الله.

في مراحل الحياة الروحيّة نصادف هذا التجاوز الذاتيّ تجاوزًا مستمرًّا متزايدًا بادئين بأعمال الأمانة وإنكار الذات والنسك ومارّين بالاتّضاع ومحبّة الآخرين حتّى نصل إلى حالة الانفتاح الكلّيّ لنعمة الله الانخطاف (الخروج من الذات) حيث يأتي الروح القدس ويسكن فينا.

في الحياة الداخليّة درجات. العالم الخارجيّ يأتينا من طريق الحواسّ ثمّ العقل. ولكن هناك ما هو أعمق من العقل. هناك درجات أخرى، نزول آخر في الذات بشكل أعمق لاكتشاف مركزنا الداخليّ. نحن ننسى داخليّتنا تحت ضغط العالم الخارجي ولكن داخليتنا هي حقيقة كيان الروح فينا: الإنسان روح ايضًا.. « طالت غربتي عن نفسي » يقول المرتل كما رأينا وهذا صحيح: لأنّ فينا عوالم نجهلها.. هناك أيضًا ما هو أعمق من الروح: حضور الله. هذا الحضور أعمق من الكلّ لأنّه مصدر الكلّ وهو قبل الكلّ. لا نستطيع النزول أو الصعود، السقوط أو الارتفاع من دون الاصطدام بالله. إنّه يحيط بنا أعلى من روحنا.

في الحقيقة إنّ التداخل الأكثر صميميّة موجود بين الله والإنسان: الله داخليّ فينا أكثر من أنفسنا. الله لا يعطي فقط العطايا ولكنّه يعطي نفسه: الله نفسه هو عطيّة نفسه، هذا هو الروح القدس. إنّه عطاء حرّ، ويحيي. قلب الله ينضمّ إلى قلبنا يتسرّب إلى الداخل ويملأ ويتّحد ولكن لا يمكن امتلاكه والتسلّط عليه. فكيف نناله؟ لا نناله بالضبط إلّا بعطاء أنفسنا عطاءً كلّيًّا، لأنّ هذا هو الله. الروح القدس عطاء وحبّ، يمّحي في عطاء ذاته للإنسان، يتطابق معه من الداخل، يصير نحن. ففي عطاء أنفسنا لله الله بذاته حاضر. في هذا العطاء بالضبط ننال الله. حينئذِ هو يعمل ويصلّي فينا ويحيا فينا: «لست أنا أحيا بل المسيح يحيا فيّ».

الحياة الروحيّة إذًا هي ذلك الانطلاق، ذلك الخروج الذي لا يتوقّف ولا يحدّ. ينبغي ان نخرج من العدم إلى الوجود، أن نأتي إلى النور. لا نتوهمّنّ، نحن بحاجة دائمًا إلى تجاوز ذواتنا وعدم التوقّف. كلّ توقّف منّا موت وسقوط. الأب زكريّا يقول: «لا تتوهّم يا أخي، ينبغي أن تصير بجملتك نورًا لتصل إلى الضياء الكلّيّ». كثيرًا ما يصبح الخير الذي فينا عبثًا وحاجزًا دون متابعة العطاء بشيء من الفهم الروحيّ أو الفضيلة، أو الخدمة والتفاني، وهو كثير الإيجابيّة، ولكنّه كثيرًا ما يصير عائقًا بيننا وبين الله «الكلّيّ».

الحياة الروحيّة يجب أن تقوم على أساس المحرقة والقربان: الخير الذي لنا يجب أن نقرّبه أيضًا، أن نتجاوزه لنبتغي الله ككلّ «أحبّهم إلى المنتهى».. «من يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص».

الحياة الداخليّة تقوم تاليًا على هذا المعنى فقط: الرجوع إلى الذات من أجل تجاوز الذات ونوال حياة الله. هذا هو مصير الإنسان ودعوته الأولى. وينتج من ذلك أنّ الحياة الداخليّة ليست حياة استثنائيّة على حدة تضادّ الحياة البشريّة.. الخطيئة في العالم هي سبب النظرة إلى الحياة الداخليّة كحياة غير اعتياديّة، في حين أنّها الشرعة الحقيقيّة لكلّ إنسان.

يلقي عيد التجلّي ضوءًا على معنى الحياة الداخليّة.. أصعد الربّ تلاميذه «إلى جبل عالٍ على انفراد»، بعيدين عن ضوضاء العالم واهتماماته، «وهناك تجلّى أمامهم».. تجلّى فرأوا نورًا آخر غير نور الشمس، غير النور المادّيّ. رأوا النور الأزليّ، نور اللاهوت الذي لا يدرك. نور التجلّي هو نور الله، نور القيامة والمجيء الثاني، نور الحياة وعدم الفساد، النور الذي يقدّس كلّ إنسان آتٍ إلى العالم. وغاية الحياة الداخليّة الروحيّة أن نلمس هذا النور الذي خلقنا لأجله. العيون خلقت لترى النور، ليس فقط  نور الشمس، وإلّا نكون مثل من تكلّم عليهم الكتاب: «لهم عيون ولا يبصرون».

«يا نفسي قومي، قومي استنيري فإنّ نورك قد وافى ومجد الربّ أشرق عليك»، هكذا يقول أشعياء النبيّ (٦٠: ١). الربّ هو نور الحياة. يسوع هو الإله الحيّ، رئيس الحياة. أنا هو الحياة. الحياة هي في التماسه. في المسيح الموت مبتلع في الحياة. فلنطلب إليه كما تقول طروباريّة التجلّي أن يشرق لنا نحن الخطأة نوره الأزليّ، أن يحطّم أفقنا الضيّق ويفتحه لنوره. بكلّ ما لدينا من حبّ، في طاقة حبّ وأمانة لنطلب إليه أن ينير حياتنا وعالمه..

 ٣- الحياة الداخليّة والحياة الاجتماعيّة:

من المناسب الآن توضيح العلاقة بين الحياة الداخليّة والحياة الاجتماعيّة الشراكيّة. الحياة الداخليّة لا تتناقض مطلقًا مع الحياة المشتركة بل تحتويها كما هو جليّ. تبدأ الحياة المشتركة وتنبع من الحياة الداخليّة. ولكن هناك، تحت اسم حياة داخليّة، عزلة فاسدة غير العزلة الصحيحة: عندما أنعزل عن أخوتي وأنزوي في ذاتي من دون التفكير بالله (وبكلّ ما يعني ذلك) أصبح لا مع الله ولا مع أخوتي بل مع كسلي وأهوائي. الحياة الداخليّة الصحيحة ليست ذلك الانعزال غير المنتهي الفاسد البعيد عن كلّ احتكاك مع الله والناس. الإنسان عضو العائلة البشريّة المخلّصة في المسيح وليس تاليًا وحده في الوجود، لا جسديًّا ولا معنويًّا. هو عضو البشريّة، عضو الكنيسة. والحياة البشريّة، حياة الكنيسة، تجد أساسها ومعناها في سرّ الثالوث القدّوس. «آدم»، الجنس البشريّ، خلق على صورة الله أي على صورة حياة الثالوث القدّوس: تفاعل وشركة ومحبّة. الإنسان اجتماعيّ بطبيعته لا بموجب وصيّة خارجيّة: هذه «لحم من لحمي» يقول الكتاب.. (ولذلك لمّا كان آدم وحوّاء في وضعهما الأول النقيّ، في علاقة مع الله كاملة ونيّرة، كانا لا يخجلان). إذًا ليست الحياة الجماعيّة نوعًا أدنى من الحياة الداخليّة، ونتيجة لتنازل ومساومة بل هي بالعكس تتمتّع بأوّليّة في حياة الإنسان لأنّه بالضبط ليس وحده في الوجود.

لكن الإنسان بوصفه عضوًا في العائلة البشريّة والكنيسة يتلقّى دعوة الحياة الداخليّة الكاملة. ذلك بأنّه لا يقتصر على كونه عضوًا في العائلة وفردًا في الجماعة وحسب بل له حياته الشخصيّة. إنّه شخص وكشخص فهو يجمع كلّ الفضائل وكلّ الاكتسابات الروحيّة التي يكتسبها في الشركة، يجمعها ويجوهرها في حياته الداخليّة الشخصيّة. هذا سرّ الإنسان كما رأينا «إنسان القلب الخفيّ» لا الإنسان الخارجيّ غير الشخصيّ، النكرة. الإنسان يعيش حياته الاجتماعيّة العميقة في داخله أوّلًا.

الحياة الداخليّة، العزلة الصحيحة، غير منغلقة بل منفتحة كلّ الانفتاح، متّصلة بالله والناس لاصقة بهم على صعيد عميق أوّل.

العزلة الصحيحة، في تفاعل صميميّ مع حياة الشركة، تساعدنا على تغذية حياتنا الشخصيّة ممّا نأخذه من حياتنا مع الآخرين: من خدمة وطاعة ومحبّة وصلاة جماعيّة.. حياة الشركة تطهّرنا، تصقلنا، تحطّم فينا العادات السيّئة (الإهمال والكسل، الأنانيّة، الكبرياء) وتحضّرنا للعزلة الروحيّة، وهذه بدورها تسند حياة الشركة بما فيها من وعي وتجديد دائم وحضور للآخرين. إنّها تهوي حياة الشركة وتسهّلها بل تحوّلها وترقّيها إلى حياة روحيّة داخليّة.

بدون الحياة الداخليّة المعاشة مع الله تصبح حياة الشركة عبئًا وضيقًا وتناهشًا.. حياة مفروضة لا حياة في المحبّة والروح، المحبّة الموحّدة في الروح القدس، في «الجسد الواحد». غاية مسيحيّة المسيح أن نكون واحدًا كلّيًّا على صورة حياة الثالوث القدّوس كما قلنا. القدّيس غريغوريوس النيصصيّ يقول إنّ الحياة المسيحيّة ليست إلّا تقليدًا للطبيعة الإلهيّة وتشبّهًا بها. المسيح أدخلنا إلى حياة الثالوث. أتى من قلب الثالوث وحقّق بتجسّده سرّ المحبّة الموحّدة، وفي المسيح الذي يجمع كلّ شيء «فيه خلق الكلّ.. الكلّ به وله قد خلق.. فيه يقوم الكلّ» يقول الكتاب (كو ١: ١٦ و ١٧) في المسيح ليس بعد شيء لأجل ذاته بل الكلّ هو لأجل الكلّ، لأجل «الآخر». كلّ شيء لكم.. وأمّا أنتم فللمسيح والمسيح لله (١كور ٣: ٢٢- ٢٣). في المسيحية لا استطيع أن أعيش وحدي لأنّي لا أحقّق كياني ملء كياني كإنسان ما لم أنل زيادة الكيان من «الآخر»، في حوار المحبّة مع الآخر. هذا معنى الحياة الجماعيّة المشتركة: «إذا اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي أكون في وسطهم». ولكنّها تبدأ بالضبط بالحياة الداخليّة الشخصيّة: إلهنا إله شخصيّ..

هذه إذًا هي مكانة الحياة الداخليّة في حياتنا، وهي جديرة بأن نمارسها وننمّيها فتجلي حياتنا كلّها وتعطيها معناها العميق المرضيّ لدى الربّ.

 

 

المرجع: مجلّة النور، العدد الأوّل، كانون الثاني، ١٩٦٥.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share