في بعض وجوه الصلاة

الأرشمندريت إلياس مرقص Friday July 31, 2020 181

الأرشمندريت إلياس مرقص

الصلاة مرآة الإنسان، فيمكن القول بأنّنا نصلّي كما نعيش، كما نحن، نصلّي على صورتنا. هذا وقد قيل: «إنّ الذي لا يصلّي إلّا حين يصلّي فهو لا يصلّي أبدًا». لأنّ الصلاة حياة، وإلّا فلا تكون صلاة. ولذا كثيرًا ما تكون فاترة ومملّة… واجبًا ثقيلًا علينا. ولكنّها أيضًا تفترض تهيئة وجهادًا، إنّها مدرسة الحياة الروحيّة. ففيها وبها نتعلّم ونكبر فنكتشف حياة الله، نكتشف الحياة.

سبقنا في هذه الطريق الآباء القدّيسون ووضعوا لنا من خيرات حياتهم نماذج صلاة يُقتدى بها، كمزامير داود وصلوات الخدم الكنسيّة الكثيرة التنوّع والغنى. ذلك بأنّ للصلاة وجوهًا كثيرة كوجوه الحياة الكثيرة. ويكفي أن ننتبه إلى مضمون صلوات كنيستنا المقدّسة لنتبيّن فيها «مواضيع» عديدة تصلح «مادّة» لصلاتنا فتسندها و«تبطّنها»… وتلبّي حاجاتنا المتنوّعة.

ومن هذه «المواضيع» – على سبيل المثال – البركة التي تؤلّف خطًّا غنيًّا جدًّا في صلواتنا الكنسيّة يكاد ينسجها من أوّلها إلى آخرها[1]. وثمّة غير هذا المنوال مواضيع الخطيئة والرحمة والشكر والفرح والنور والمحبّة… إلى جانب التسبيح وتأمّل أسرار المسيح والعذراء وغيرها… ومن شأن هذه كلّها أن تغذّي صلاتنا وتغنيها.

سنتناول اليوم أوّلًا وجه الخطيئة والرحمة.

ورد في الإفشين السابع من الأفاشين التي يقرأها الكاهن أثناء تلاوة مزامير السحر: «إنّنا لا نعلم أن نصلّي كما يجب ما لم ترشدنا أنت يا ربّ بروحك القدّوس، ولهذا نضرع إليك أن تترك وتصفح وتغفر كلّ ما خطئنا به حتّى هذه الساعة الحاضرة بالقول أو بالفعل أو بالفكر، طوعيًّا أو غير طوعيّ…».

هذا يعني – في ما يعني – أنّه علينا أن نستغفر ونتنقّى لنقدر على أن نصلّي. ألم يوصِ الربّ بأن نترك قرباننا على المذبح ونذهب فنتصالح مع قريبنا أوّلًا (لأنّنا من دون ذلك لا نقدر على أن نصلّي). قال داود النبيّ: «إن كنتُ راعيت إثمًا في قلبي فلا يستمعنّ الربّ لي» (مز ٦٥ : ١٨)[2].

فمعرفة خطايانا والإقرار والإحساس بها حقًّا، الإحساس العميق بأنّنا، في الحقيقة، خطأة، غير مستقيمين أمام الله، وأنّ حياتنا كلّها باطلة («كلّ إنسان حيّ هو باطل بكامله»، مز ٣٨ : ٥)[3]، مع التماس الصفح بدموع من الذي لا حدّ لرحمته… هذا كلّه من شأنه أن يجعلنا نصلّي بحرارة وبلا ملل، أن يجعل صلاتنا ذات فحوى، أن يجعلها: «كيانيّة» و«في الحقّ»… فيحرّرنا الله من «جراثيم» خطيئتنا، ونحظى بالسلام والخلاص… إذ كيف لنا أن نشعر بالخلاص، أن نشعر بالقيامة إن لم نشعر بالهوّة، بالموت الذي نقوم منه؟.

ويُسعفنا في هذا المضمار أنّ طلب الرحمة في صلواتنا الكنسيّة يتكرّر ويؤلّف تيّارًا ثابتًا أساسيًّا… تكفيك صرخات «يا ربّ ارحم» التي تكاد أن تنسج كلّ الخدم[4]، وأيضًا المزمور الخمسون الذي يُتلى مرّات كثيرة. هذا عدا عبارات الانسحاق أمثال التالية: «يا ربّ استمع لي لأنّني بائس ومسكين» (في صلاة الساعة التاسعة)، «أنا صغير وحقير» (في صلاة نصف الليل)، و«أمّا أنا فمسكين وفقير» (في صلاة النوم).

ثمّ هناك المقاطع الرائعة الطافحة بروح الاسترحام خصوصًا في كتابَي المعزّي والتريودي، والتي إليكم في ما يلي بعض النماذج عنها:

– «من ضيقة نفسٍ حزينة متوجّعة أقدّم لك طلبات أنا الشقيّ».

– «أيّها المسيح، مرارًا كثيرة وأنا مقدّم التسبيح وُجدتُ مكمّلًا الخطيئة، لأنّي باللسان أنطق بالنشائد وبالنفس أتفكّر بالقبائح. لكن قوّم كليهما بالتوبة وخلّصني».

– «إن تنهّدت كالعشار أتوهّم أنّي أُثقِّل السماوات، وإن دمّعت مثل الزانية، أنجّس الأرض بعبراتي. لكن امنحني صفح الخطايا أللّهمّ وارحمني».

«في عمق الخطيئة سقطتُ، ولنفسي باللذات وسّختُ ودنّستُ».

– «أردت يا ربّ بالدموع أن امحو كتاب ذنوبي المكتوب باليد وبقيّة حياتي بالتوبة أُرضيك، لكن العدو يطغيني ويقاتل نفسي، فمن قبل أن أهلك بالكلّيّة خلّصني يا ربّ منعمًا».

– «قد تهشّمت نفسي في آلام العمر».

– «طهّر نتانتي الكثيرة يا ربّ يا من نقّيت البُرص».

– «إليك أحني ركبتي وأنكبّ بوجهي على الأرض باكيًا، ونحوك أصرخ أنقذني».

– «أنا هي الشجرة التي بلا ثمر يا ربّ، وثمرة التخشّع لم أقتنِ بالكلّيّة. فلذلك أخشى القطع وأفزع من تلك النار التي لا تطفأ، فأسألك يا ربّ قبل تلك الشدّة أن تردّني إليك وتخلّصني».

– «إنّ سيول الخطيئة الرديئة تلجّجني، وأوجاع الجحيم أحاطت بي، وفخّ الموت النفسانيّ أدركني، فيا أيّتها السيّدة الرحيمة أصرخ إليك بتوجّع قلب أسرعي الآن فاحفظيني من موت اليأس وهلاك الجحيم».

– «لنبكينّ على ذواتنا يا أخوة من كلّ النفس»…

ولكن لا يخفى أنّ هذا الوجه من وجوه الصلاة يؤول إلى الفرج والفرح: «يا سلوة المحزونين امنحيني حزنًا مفرِّحًا». إنّه «الحزن الجالب الفرح» حسب تعبير القدّيس يوحنّا السلّميّ. ففي مجرّد عبارة «يا ربّ ارحم» نوع من راحة واطمئنان، بل من حلاوة… لأنّنا بها نرتمي في «أحشاء رأفة» الله. كما أنّه بوسعنا أن نحيا المزمور الخمسين كنوع من معمودية: «إرحمني يا الله كعظيم رحمتك… إغسلني كثيرًا من إثمي… تغسلني فأبيضّ أكثر من الثلج..» هذا علاة على ما تأتي به بقية وجوه الصلاة. فإذا ما انتقلنا الى وجه المحبّة في الصلاة تبينّا مدى تنوّع أبعادها واتّساعها. إذ إنّنا فيها نحقّق ما خُلقنا من أجله.

فالله محبّة وغاية خلقه إيّانا إدخالنا في ملكوت محبّته. وغاية الطقوس أن نحيا هذه المحبّة، محبّة الله لنا ومحبّتنا لله. أليس تتويجها تناول جسد الربّ الذي بذله حبًّا بنا؟

ورد في كتاب المعزّي أنّ الله هو شوق، هو «عشق». كما قال الربّ لتلاميذه «أنتم فيّ وأنا فيكم». وليس من غير ذي معنى أن تبدأ كلّ الخدم الكنسيّة تقريبًا بالصلاة الى الروح القدس: «هلمّ واسكن فينا». وليس «خبزنا الجوهريّ» الذي نطلبه يومًا بعد يوم سوى الروح القدس. في صلاة الساعة الثالثة، في الصوم الكبير، نسأل يسوع أن: «اقترب إلينا اقتربّ… وكما كنت مع رسلك دائمًا هكذا اتّحد بالمشتاقّين إليك». وفي صلاة الساعة السادسة نقول: «إجرح نفوسنا بشوقك». أليس يسوع هو «الختن»، العريس الذي تدّلج إليه من الليل؟ (في صلاة نصف الليل). أليست العذراء مريم – العروس التي لا عروس لها – مثالنا الأسمى في هذا الصدد؟ أليس الربّ هو القدّوس «المستريح في القدّيسين» كما يقول الكاهن قبل إنجيل السّحر؟

   عند ترتيل «قدّوس قدّوس قدّوس ربّ الصباؤوت» في القدّاس الإلهيّ يقول الكاهن: «قدّوس أنت وكلّي القدّس لأنّك أحببت عالمك بهذا المقدار حتّى أعطيت ابنك الوحيد كيلا يهلك كلّ من يؤمن به..». فالله قدّوس (من هذه الناحية) لأنّه «أسلم ذاته لأجل حياة العالم»، لأنّه محبّة. والقدّاس الإلهيّ كلّه (بل الخدم كلّها التي تهيّئ له) يتّجه نحو الاتّحاد بالله، نحو كمال المحبّة بالمناولة.

هذا ونورد في ما يلي نماذج عن ذِكر المحبّة الإلهيّة في كتبنا الطقسيّة:

– «لقد اتّحد الإله بجملته فيّ بجملتي خلّوًا من استحالة».

– «أضيئي بنار العشق الإلهيّ مصباح نفسي المظلم يا كلّيّة النقاوة».

– «كما أنّ كلًّا منّا له غرام مفرط نحو والدته فهكذا بالحريّ يجب علينا أن نحبَّ الربّ بأشدّ حرارة».

– «إجعل قلوب عبيدك رحبة واسعة في لجّة محبتك».

– «أيّها المخلّص أنت بجملتك حلاوة، أنت بجملتك المأثور الشهيّ الذي لا يُشبع منه».

– «هب لنفسي شوقًا للتخشّع لكي ألتصق بك».

– «إنّ شهداءك يا ربّ لمّا انجرحوا بعشقك الإلهيّ..».

– «إنّ القدّيسين ربطوا القلب بشوق الربّ».

– «إنّ أهل البراري بالعشق الإلهيّ يتطايرون دائمًا».

وعندما نصلّي واعين جوّ المحبّة هذا، وبروح المحبّة هذه، يصطبغ لنا كلّ شيء بصبغة المحبّة. فالطلبات «من أجل سلام كلّ العالم»، وجميع الناس، ابتداءً من رئيس الكهنة وإلى آخر «المضنيّين» تتلوّن بلون المحبّة وكأنّ طعمها يتغيّر… ونحسّ أحيانًا أنّ الكون كلّه يشترك ويتجدّد في تسبيح الخالق (كما يرد في صلاة السحر عند تلاوة المزامير ١٤٨ – ١٥٠: «كلّ نسمة فلتسبّح الربّ»).

على هذا المنوال نستطيع أن نُغني صلاتنا ونوسّعها وننعم بها ونشكر الربّ.

 

المرجع : مجلّة النور، العدد الثالث، ١٩٩٥.

[1]  أنظر مقالنا «في البركة والصلاة» في العدد الثاني من مجلّة النور، السنة التاسعة والأربعون، صفحة ٦٠.

[2]  كان أحد الكهنة الأبرار، كلّما جاءه أحد مسترشدًا أو ملتمسًا حلًّا لمشكلة ما، يُلزمه أوّلًا، قبل أن يسمح له بعرض أمره، بأن يركع ويعترف بخطاياه.

[3]  قال أحدهم بعد قراءته كتاب «السلّم الى الله» إنّه إكتشف أنّ كل فضائله هي في الواقع خطابًا…

 

4  أنظر التعليق على معاني «يا ربّ إرحم» في نشرة «رعيّتي» العدد ٣٥، السنة ١٩٩٢.

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share