للمبتدئ مرسيل مرقص
أخويّة دير مار جرجس الحرف
المسيحيّون، بأغلبيّتهم، يعتزّون بالرهبانيّة أو على الأقلّ يريدونها رهبانيّة عاملة في العالم. وهناك إيحاءات كثيرة صادرة عن العالم أو عن الطبيعة البشريّة أو عن الشيطان تحاول محاربة فكرة الرهبانيّة بصورة عامّة، والرهبانيّة التقليديّة الشرقيّة بصورة خاصّة. لذلك رأينا من الأفضل ان نصارحكم من البدء قائلين: الراهب مبدئيًّا[1] يبقى في ديره. وظيفة الراهب أن يكون في ديره ويحقّق هناك الهدف الذي عيّنه الله له. هو غير الكاهن والمبشّر، غير الممرّض والمعلّم، غير مدير المدرسة الإكليريكيّة أو المأوى أو الميتم. وظيفة الكاهن أن يكهن ويرعى الرعيّة، ووظيفة المعلّم أن يعلّم والممرّض أن يمرّض. أمّا وظيفة الراهب فأن يكون راهبًا. لا حاجة إلى أن نصير رهبانًا لنعمل في العالم، لا حاجة إلى نذور العفّة والفقر والطاعة، من أجل التعليم والتبشير والتمريض. فهذا عمل المسيحيّين العائشين في العالم المتزوّجين وغير المتزوّجين، وأرباب الأموال والمصالح والوظائف، إذ لا ضرورة لهم أن يصيروا رهبانًا لكي يخدموا المسيح في مجتمعهم بل هذا واجبهم. أمّا وظيفة الراهب فتختلف عن هذه الأعمال .
وظيفة الراهب أن يترك العالم كلّه وأقرباءه وأصدقاءه ومقتنياته وارتباطاته كلّها ليقدّم ذاته لله. إنّه يتّجه إلى نفسه ويعمل على تطهيرها وتنقيتها بالتوبة والدموع ليعدّها لسكنى الله. إنّه يقدّمها لله كلّيًّا من دون شريك ومن دون اهتمام آخر البتّة فاتحًا مصراعيها للروح القدس ولعالم الملكوت، عالم الثالوث الأقدس. إنّه يحقّق بعون الربّ ونعمته برنامج الإنسان الكامل كما دعاه الله إليه من البدء: إنسان العالم الآتي الذي يعمل إرادة الله ويشكره ويمجدّه مع الملائكة كلّ حين. إنّه يحقّق غاية البشريّة باسم البشريّة. وهو لا يقدم على ذلك إلّا لأنّها دعوة الله صدرت إليه بالذات وإرادته تعالى بشأنه. هو بخلاف الناس العائشين في العالم. فالله يوزّع المهامّ بين البشر بحكمة لا توصف.
يعترض الناس على الرهبانيّة هذه بقولهم: هذا كسل وجبن وأنانيّة، أو هذا شذوذ لا مستند له في الكتاب المقدّس ولا تؤيّده روح المسيحيّة، أو هذا يضادّ طبيعة الإنسان والمجتمع وسير التاريخ، أو في ذلك عدم جدوى وعدم نتيجة وعقم، أو في الكرسيّ الأنطاكيّ الآن فراغ كبير للعمّال وهو بحاجة إلى عمل سريع فماذا يصنع الرهبان في الدير؟ فهل هذه الاعتراضات محقّة؟ سنحاول الإجابة عنها بقدر ما يسمح به المجال .
١ – هل الرهبانيّة كسل وجبن وأنانيّة؟
الأنانيّة تفتّش عن الانا، أمّا حياة الراهب فصلب للأنا. الراهب يتنازل عن كلّ شيء، إنّه ينذر العفّة والفقر والطاعة فيضحّي بكلّ تعزية بشريّة، بالجمال والحبّ والمال والاعتبار إلى الأبد، بل يتخلّى عن ذاته، عن حرّيّته وإرادته بإرادته، والراهب يقضي عيشة نسك وتقشّف. وإذا كان ثرثارًا ففي الدير الصمت وإذا كان كسولًا ففي الدير يدعوه الجرس إلى القيام والعمل في أحَبّ أوقات الراحة إليه. وإذا كان لا يميل إلى الجهاد فالحياة الرهبانيّة جهاد مستمرّ ويقظة دائمة ليلًا نهارًا، ويمكن القول إنّ الراهب في حالة طوارئ دائمة لا تقبل التواني والتغاضي لحظة. فاحكموا إذا كان هذا كسلًا أو جبنًا أو أنانيّة!
أوَليس هنالك بالعكس نوع من الأنانيّة، ومن الأنانيّة الجماعيّة في العالم؟ ألسنا نبقى في العالم لأنّنا نجري وراء رغباتنا وميولنا ثمّ نقول يجب أن نبقى في العالم وننهي الآخرين عن الترهب لله؟ الراهب لا يساير هذه الأنانيّة الجماعيّة لأنّ حياته مبنيّة على قول المسيح «حبّة الحنطة إن لم تمت لا تأتي بثمر». هو رجل التكريس الكلّيّ لله، رجل التضحية والذبيحة الحياتيّة القصوى لا الأنانيّة والجبن والكسل.
٢ – أشذوذ هذا أو ابتكار لا مستند له في الكتاب المقدّس وروح المسيحيّة ؟
ليس مقياس الشذوذ في ما تتبعه الأكثريّة أو الأقلّيّة من الناس. أمّا الكتاب المقدّس فعدا الآيات العديدة الصريحة التي تؤيّد الرهبانيّة[2] فواضح وجليّ أنّ روحه وروح كلّ المسيحيّة معه تتّجه اتّجاهًا عميقًا نحو «التكريس الكلّيّ» لله. ومن يعرف الكتاب جيّدًا يتبيّن فيه بسهولة سلسلة متواصلة من الاشخاص «المفروزين» للربّ: سلسلة ملوكيّة تبدأ بإبراهيم «أبي المؤمنين»، رجل الطاعة والتجريد الذي ترك عشيرته وبلده وقبِل بذبح وحيده من أجل الربّ (تكوين ٢٢) وتمرّ بملكيصادق «بلا أب بلا أم بلا نسب» (عبرانيّين ٧ : ٣)، بإيليّا العفيف الأمين الواقف على الدوام أمام الله الحيّ، والأنبياء كافّة (وهنا تنتقل فكرة التكريس من الصعيد الفرديّ إلى صعيد «المؤسّسة» التي هي «مؤسسة الأنبياء»)، وتستمرّ في «البقيّة» الأمينة من إسرائيل (أشعياء ١ : ٩)، وفي جماعة قمران التي تؤلّف جماعة رهبانيّة بكلّ معنى الكلمة[3]. ثمّ بعد السيّد المسيح «الأمين» الوحيد (رؤيا ٣ – ١٤) تتكمّل السلسلة الملوكيّة في جماعة المسيحيّين الأوّلين في أورشليم (انظر أعمال الرسل ٢ : ٤١ – ٤٦ و٤ : ٣٢ – ٣٥ و٥ : ١٢ – ١٣)، ثمّ في الشهداء، وبعد انتهاء زمن الاضطهادات في المتوحّدين والرهبان أولئك «الشهداء البيض» كما يسمّيهم باسيليوس الكبير. فليست مؤسّسة الرهبان تاليًا شذوذًا في نظر التدبير الإلهيّ، بل هي تكملة لسلسلة مرامي الله الخلاصيّة، هي نواة وخميرة وذبيحة أعدّها الله برحمته ليقودنا إلى الخلاص. قد يكون ذلك شذوذًا عند عامّة الناس ولكنّها طريق المسيح، الطريق الملوكيّة الطريق الوحيدة للحياة والمجد. من أحبّ حياته أضاعها … إنّه قانون حبّة الحنطة التي تقع في الأرض، إنّه الصليب ثمّ القيامة. والصليب شذوذ و«جهالة عند اليونانيّين» لا عند المؤمنين بيسوع المصلوب.
٣ – هل هذا يُضاد الطبيعة الإنسانيّة والمجتمع وسير التاريخ؟
لقد بدأت المأساة في الفردوس عندما أخطأ آدم واختبأ من وجه الله.. والآن تصرّف العالم كلّه هو اختباء من وجه الله. الإنسان بعد الخطيئة يحاول الهرب من ذاته متلهّيًا بالأشياء الخارجيّة. إنّنا نهرب من مجابهة ذواتنا وتنقيتها، وننجرف في تيّار الخطيئة واللهو أو الضجر، بدلًا من أن نستقرّ في ذواتنا: في الراحة والسكينة والسلام، في الغبطة الإلهيّة التي في أعماقنا. العالم مبنيّ على نسيان الله. المجتمع ينسى الله أو يتناساه ويفعل كلّ شيء ليُنسينا إيّاه. والناس هم كالابن الشاطر الذي يبدّد حصّته من الميراث في أقطار بعيدة من دون فائدة ولا نتيجة. وليس من حلّ لهذا الوضع إلّا في العودة إلى بيت الآب، العودة إلى النفس التي هي هيكل الله، إلى الفردوس الداخليّ فردوس القلب حيث صورة الله وسُكناه. وليست مهمّة الراهب إلّا أن يعود إلى بيت الله، أن يتذكّره على الدوام تعويضًا عن نسيان العالم له. ولهذه الغاية ينصرف الراهب إلى إصلاح ذاته وتنقيتها يومًا بعد يوم بنعمة الربّ الرحيم، وبالتوبة والندامة والدموع حتّى تعود إلى حالتها الأولى كالابن الشاطر. لقد أعادنا المسيح إلى دعوتنا الأولى بالصليب وبواسطة هذا الصليب يستعيد الراهب الفردوس، ويبلغ إلى قيامة الطبيعة البشريّة من فسادها الحاضر. ويحقّق الراهب ذلك مع آخرين. يحقّقه في شركة في حياة اجتماعيّة. في مجتمع أخرويّ مثاليّ ينفتح على عالم الأبديّة. مجتمع الراهب مجتمع ينقاد لروح الله ويبتغي رضاه وحده. تتخلّله إرادة الله وتسيّره. يجتاحه الله محوّلًا إيّاه إلى مجتمع شكر وتمجيد وفرح سماويّ.
الرهبانيّة إذًا ليست ضدّ طبيعة الإنسان لأنّها العودة بهذه الطبيعة إلى أصلها ورفعها إلى موطنها الحقيقيّ. ليست الرهبانيّة ضدّ المجتمع لأنّها المجتمع المثاليّ وليست هي ضدّ التاريخ لأنّها تقودنا إلى نهاية التاريخ، إلى غايته، إلى الحياة الأبديّة.
٤ – هذا الانقطاع هل هو عقم وعدم جدوى ولا يؤدّي إلى نتيجة عمليّة؟
يشهد التاريخ بعكس ذلك تمامًا. فالرهبنات هي التي حفظت المسيحيّة بعد عهد الشهداء، هي التي حافظت على الإيمان القويم، على الحقيقة، وحاربت الهرطقات. هي التي أعطتنا كنوز العبادة الأرثوذكسيّة ومناهل علم الحياة الروحيّة ورجال الكنيسة العظام[4].
والوقائع تشير إلى أنّ الرهبانيّة كانت مقياسًا لانتشار المسيحيّة فحيث ازدهرت كانت تزدهر المسيحيّة. والدليل واضح على ذلك فآثار الرهبان في فلسطين وسوريا وكبادوكيا وما بين النهرين وجورجيا وأرمينيا تشير إلى انتشار المسيحيّة في تلك الأصقاع في ذلك الحين، عندما كان عندنا بعد رهبان.
ولذا فإنّ مبعث قلق الأرثوذكسيّة في العالم اليوم هو أنّ عدد رهبان جبل آثوس في نقص مستمرّ. ومن يفهم الأرثوذكسيّة يقول إنّ مشكلتها الكبرى تكمن في نقص عدد الرهبان. إنّه قلق صميميّ قلق كيانيّ يجب ألّا ينطفئ حتّى يعود الرهبان فيملأوا الكهوف والأديار.
الرهبانيّة هي «العين التي تنظر بها الكنيسة العالم اللامتناهي»، (فكتور هوجو). هي شهادة ملموسة ومحسوسة لغلبة المسيح على العالم. فالراهب يشهد كلّيًّا في نفسه وجسده في حياته كلّها للمسيح الغالب. إنّ وجود الراهب كساعٍ إلى القداسة تاركًا الأهواء وملتمسًا نقاوة القلب والتحرّر من عبوديّة المادّة وفسادها ومتأمّلًا العالم السماويّ، يجذب وراءه الكنيسة كلّها بالروح القدس للتفتيش عن معاينة الله وسُكنى الله فيها. والصلوات الكنسيّة في الحقيقة مظهر من مظاهر التيّار الكنسيّ نحو القداسة.
إن كنّا نؤمن بأنّ الكنيسة هي جسد المسيح وبأنّ دورة الدم فيها هي دورة نعمة المسيح ننتهي إلى أنّ أعضاء هذا الجسد مرتبطون بعضهم ببعض بصورة سرّيّة غير منظورة بنعمة المسيح المحيية. وعندئذٍ نفهم قيمة الصلاة وفعاليّتها، ففعاليّة الصلاة سرّ غير مبنيّ على نواميس الفيزياء والكيمياء. الراهب بصلاته يفيد الكنيسة جمعاء ولو بقيَ مجهولًا من جميع الناس، لو لم يسمع به أحد ولم يشعر بوجوده فرد. هو موجود ليصلّي من أجل الذين لا يعرفون أن يصلوا والذين لا يستطيعون أن يصلوا والذين لا يريدون أن يصلوا.
الناس يطلبون أن يروا نتيجة عملهم لأنّهم أضاعوا مفهوم المجّانيّة، لأنّهم لا يؤمنون بغير المنظور. أمّا الراهب فيعطي نفسه لله من دون قيد ولا شرط. الراهب يترك كلّ شيء ليكون لله ولكنّه لا يطلب نتيجة عمله لأنّ في هذا الطلب شرطًا. المسيح عندما مات على الصليب كان موته في الظاهر فشلًا عظيمًا، ولكن من هذا الفشل بزغت القيامة وكان الخلاص. ونحن علينا أن نعمل في أثر المسيح مؤمنين بعمل الله البشريّ غير المنظور. الله يتطلّع ويرى هل من أناس منفتحين له كلّيًّا ومستسلمين؟ وعندئذٍ يستخدمهم لإنقاذ الكنيسة والعالم. لا يمكن إنقاذ الكنيسة إلّا بالتكريس غير المشروط لأنّ تجربة الفعاليّة التي يقع فيها الكثيرون هي كما قلنا تجربة عدم الإيمان. إنّ الناس المكرّسين لله كلّيًّا يشبهون تقدمة القدّاس الإلهيّ التي يفرزها الكاهن من الخبز والخمر ليقدّمها لله ذبيحة فتتحوّل إلى جسد الربّ ودمه. والرهبان يُفرزون من العالم لكي يحلّ الروح القدس فيهم ويقدّس بواسطتهم العالم كلّه كما يتقدّس الخبز والخمر بالتقدمة المتحوّلة إلى جسد الربّ ودمه. الرهبان مثل باكورة الحصاد وباكورة القطيع المقدّمة للربّ ليبارك الحصاد كلّه والقطيع كلّه، ففيهم يتبارك ويتقدّس شعب الله كلّه. هم مثل الخميرة التي تُفرز وتُخبّأ وبواسطتها تخمّر العجينة كلّها. ولذلك قيل عن الرهبانيّة إنّها السرّ الثامن من أسرار الكنيسة إذ إنّه عبر الرهبان، تلك المادّة البسيطة والحقيرة، تحلّ نعمة الله على الكنيسة وبواسطتها يبقى الله تعالى في العالم. الرهبان «كمؤسّسة» كنسيّة كشيء مكرّس، هم ذلك السلك والاختصاص، تلك الوظيفة التي من ورائها تقدّم الكنيسة كلّها لله وتكرّس. وبها يتأمّن استمرار الروح القدس في هذا الكون.
قال الفيلسوف الروسيّ بردييايف: «لا يمكن للكنيسة أن تقوم بدون أساقفة وكهنة، أيًّا كانت مؤهّلاتهم البشريّة، وفي الحقيقة لا يمكنها أن تتنفّس وتحيا داخليًّا بدون نسّاك وقدّيسين ورهبان».
٥ – ولكنّ الكرسيّ الأنطاكيّ بحاجة إلى عمل سريع؟
هذا صحيح، ولكنّه بحاجة أوّلًا وقبل أيّ شيء آخر إلى رهبنة. لأنّه منذ سنين طويلة وُجد أناس مؤمنون حاولوا ويحاولون أن يعملوا، منهم بطاركة قدّيسون وشهداء وجمعيّات ومؤسّسات خيريّة وحركات دينيّة، ومجلّات ونشرات كلّها تبغي النهضة وتعمل لها، ومع ذلك ما تزال الكنيسة بحاجة إلى عمل سريع، ما تزال منحطّة نسبيًّا وتبقى الحاجة إلى تلك النهضة الأصيلة، العميقة، الكلّيّة ذات الاتّصال الحياتيّ والجماعيّ بالروح القدس. إنّ الكرسيّ الأنطاكيّ سيبقى بعوز إلى نهضة روحيّة واستقامة عميقة أمام الله إلى أن يوجد فيه أناس يكرسّون ذواتهم لله تكريسًا كلّيًّا غير مشروط.
ها قد انقضت ثماني عشرة سنة على تأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وربّما أجدى شيء قامت به، ولا نقولها افتخارًا بل بالعكس فإنّنا كلّنا عبيد بطّالون، والله هو الذي يدعو وكثيرًا ما يدعو الحقيرين، هو انبثاق رهبنتين عنها، رهبنة للنساء ورهبنة للرجال، فهل تريدون أن يترك الرهبان مهمّتهم الرهبانيّة ليتّجهوا إلى العمل الخارجيّ كغيرهم، فيضيع الهدف الرهبانيّ الأوّل ونعود إلى حيث كنّا؟
الترقيع شيء والعمل الأصيل شيء آخر. ونكون من المرقّعين إذا فضّلنا العمل السريع على الحياة الرهبانيّة الداخليّة البعيدة المدى. وهل يُنهض الترقيع بالكنيسة ويحلّ مشاكلها؟ بل هو يعمل في تثبيت الانحطاط واستمراره لأنّه لا يعالج المشكلة من جذورها.
أنطونيوس الكبير غادر برّيّته في مصر ونزل إلى الإسكندريّة ليدحض هرطقة الآريوسيّين، ولكنّ أنطونيوس الكبير كان قد قضى اثنين وخمسين عامًا ناسكًا متوحّدًا، كان قد صار راهبًا.. نعم الرهبنات الأرثوذكسيّة في التاريخ حقّقت مشاريع اجتماعيّة عدّة وأوّل مستشفى عموميّ في التاريخ أسّسه الراهب باسيليوس الكبير وخدمه رهبان. نعم أيضًا إنّ دير «الذين لا ينامون» أوفد مرّة مائة وخمسين راهبًا دفعة واحدة ليتجوّلوا في ما بين النهرين مبشّرين بإنجيل المسيح (ولكنّ هذا لم يكن الهدف الأصليّ لترهّبهم بل كان أمرًا ظرفيًّا وثانويًّا بالنسبة إلى الهدف الأوّل).
على الراهب ألّا ينسى هدفه الأصليّ وإلّا فيخسر من الجهتين: لا يصير راهبًا ولا يخدم الله بين الناس. على الراهب أن يستسلم لله تعالى ليصنع به ما يشاء، ويستخدمه في العالم وينقذ الكنيسة بواسطته أو يتركه في صومعته. غاية الراهب هي إعادة الصلة مع الله، إعادة فتح أعماقنا لله، هي طلب الله بإلحاح بالصلاة الحارّة بالألم بالدموع بالدم باطّراد. هي توق وشوق إليه وامتداد نحوه لا نهاية له. هي نظرة الكيان كلّه إلى الله وإعادة فتح السماء. هذا ما يحتاج إليه الكرسيّ الأنطاكيّ قبل أيّ شيء فلنطلب هذا أوّلًا والباقي يُزاد لنا.
المرجع : مجلة النور، العدد الثالث، آذار، ١٩٦١.
[1] سوف نرى أنّ الرهبان يخرجون في كثير من الأحيان من أديارهم لخدمة الكنيسة والمجتمع، كما حصل في التاريخ، ولكن يبقى هذا ظرفيًّا في الحياة الرهبانيّة والمبدأ هو البقاء في الدير .
[2] نكتفي هنا بذكر بعض الآيات: «إن أردت أن تكون كاملًا فاذهب وبع أملاكك واعط الفقراء وتعال اتبعني» (متّى ١٩ : ٢١). انظر أيضًا بشأن نذر الفقر (لوقا ١٤ : ٣٣). «هؤلاء هم الذين لم يتنجّسوا مع النساء لأنّهم أطهار. هؤلاء هم الذين يتبعون الخروف حيثما ذهب. هؤلاء اشتروا من بين الناس باكورة «لله وللخروف» (رؤيا ١٤ : ٤). انظر أيضًا بشأن نذر العفّة (متّى ١٩ : ١٢). «مرتا مرتا إنّك مهتمّة ومضطربة في أمور كثيرة وإنّما الحاجة إلى واحد فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لا يُنزع منها» (لوقا ١٠ : ٤١ و٤٢). انظر أيضًا بشأن التأمّل والتوحّد يوحنّا ٢١ : ٢٢ ومتّى ١١ : ١١…
[3] راجع « مخطوطات البحر الميت وجماعة قمران » للدكتور أسد رستم .
[4] لا مجال هنا للتوسّع في بيان خدمات الرهبانيّة وتأثيرها الجوهريّ، إن كان في الحقل الدينيّ الكنسيّ البحت أو في الحقل الحضاريّ الاجتماعيّ العامّ.