«سأله يسوع ما اسمك فقال لجئون»..

مرسيل مرقص Monday August 17, 2020 181

مرسيل مرقص

«وساروا إلى كورة الجرجسيّين التي هي مقابل الجليل، ولمّا خرج إلى الأرض استقبله رجل من المدينة كان فيه شياطين منذ زمان طويل وكان لا يلبس ثوبًا ولا يقيم في بيت بل في القبور».

هذا الرجل يمثّل لنا روح البطالة والفضول. ليس فيه شيطان واحد بل شياطين. هو لا يلبس ثوبًا لأنّه يلبس كلّ الاثواب وليس له ثوب، وهو لا يقيم في بيت لأنّه يقيم في كلّ مكان ويهتم بكلّ شيء ولا يدري في أيّ بيت يستقرّ. بل يقيم في القبور أي في ما هو فاسد ومدوّد، بعيد كلّ البعد عن الوحدة والبساطة والقداسة.. وذلك منذ زمن طويل:

«منذ حداثتي أهواء كثيرة تحاربني». كلّ واحد منّا هو هذا الرجل المملوء شياطين، لا ثوب لنا، لا لون معيّن لنا ولا هدف، لا ندري أين نوجّه خطّ حياتنا وأين نستقرّ.. «لكن أنت يا مخلّصي أعضدني وخلّصني».

فلمّا رأى يسوع صرخ وخرّ له وقال بصوت عظيم ما لي ولك يا يسوع ابن الله العليّ. أطلب إليك ألّا تعذّبني.

إنّ عالم المادّة أو عالم الخطيئة، العالم السفليّ، لا بدّ له من أن يخرّ في كلّ وقت للربّ يسوع الذي غلب العالم. ونحن إذ نشعر بتغلّب العالم الروحيّ نصرخ قائلين: «ما لنا ولك يا يسوع نحن في عالم وأنت في عالم، فاتركنا في عالمنا ولا تعكّر علينا العيش. دعنا ننعم بخطايانا – إذا أمكن أن ينعم يومًا إنسان بخطاياه – ولا تعذّبنا بتدخّلك. ولكنّ هذا العذاب هو بدء الخلاص والربّ قد حضر إلى كورتنا ليخلّصنا من بلوانا».

«لأنّه أمر الروح النجس بأن يخرج من الإنسان. لأنّه منذ زمان كثير كان يخطفه. وقد رُبط بسلاسل وقيود محروسًا وكان يقطع الرُبُط ويُساق من الشيطان إلى البراري».

الربّ يأمر الروح النجس، روح البطالة القتّال، بأن يخرج منّا. نحن لا نستطيع أن نخرجه وحدنا. لقد تسلّط علينا وعلى حياتنا. لقد قطع كلّ قيد، لا الضمير يردعه، فإنّه أسكته، ولا النصح والتعليم والوعظ يرجعه، فإنّها قيود وسلاسل شكليّة يجب تحطيمها. هو لا يفهم الحرّيّة إلّا في البراري، من دون طريق معيّن تسير فيه أو تؤدّي إليه، من دون مسؤوليّة، لكنّ الربّ يساعدنا على إخراجه. إذا اتّكلنا على الله فهو يحلّله ويحلّه:

«فسأله يسوع قائلًا ما اسمك. فقال لجئون. لأنّ شياطين كثيرة دخلت فيه وطلبت إليه ألّا يأمرها بالذهاب إلى الهاوية. وكان هناك قطيع خنازير كثيرة ترعى في الجليل. فطلبت إليه أن يأذن لها بالدخول فيها. فأذن لها. فخرجت الشياطين من الإنسان ودخلت في الخنازير. فاندفع القطيع من على الجرف إلى البحيرة واختنق».

إذا حلّلنا حالتنا، بمساعدة يسوع، وفهمنا ضعفنا، خلصنا إلى التغلّب عليه، شياطين كثيرة دخلت فينا. نحن ننتقل من شهوة إلى شهوة ومن كبرياء إلى كبرياء. لقد تعدّدت حياتنا وتشتّتت شخصيّتنا. ما عادت «واحدًا» داخليًّا بل «لجئون». إنّ هذه الشهوات المتنوّعة، إنّ بهيميّتنا هذه لا تليق بنا. وعندما نشعر بكرامتنا الحقيقيّة فشهواتنا من تلقاء ذاتها تطلب الخروج منّا وتخرج إلى حيث يليق بها، إلى الخنازير، فلندعها تجرفها إلى البحيرة وتختنق بلا عودة.

«فلمّا رأى الرعاة ما كان هربوا وذهبوا وأخبروا في المدينة وفي الضياع. فخرجوا ليروا ما جرى وجاؤوا إلى يسوع فوجدوا الإنسان الذي كانت الشياطين قد خرجت منه لابسًا وعاقلًا جالسًا عند قدمي يسوع».

إنّ روح العفّة قد تغلب على روح البطالة فينا. فأصبح كلّ واحد منّا مكتسيًا، له ثوب معيّن، له لون وهدف وخطّة في الحياة. وأصبح عاقلًا يعي الحقيقة والسعادة ويعرف أين هما ويمتلئ حكمة، وقد ترك كلّ شيء وجلس عند قدمي يسوع الحلو جدًّا، يتأمّل حنوه وقداسته ويسجد للاهوته السرّيّ الذي يفوق كلّ ادراك.

«فخافوا. فأخبرهم أيضًا الذين رأوا ما كان، كيف خلص المجنون فطلب إليه كلّ جمهور كورة الجرجسيّين أن يذهب عنهم لأنّه اعتراهم خوف عظيم، فدخل السفينة ورجع. العالم لا يدرك ما ليس من العالم فيرفضه كالسمّ. أمّا الرجل الذي خرجت منه الشياطين فطلب إليه أن يكون معه ولكنّ يسوع صرفه قائلًا ارجع إلى بيتك وحدّث بما صنع الله إليك. فمضى وهو ينادي في المدينة كلّها بما صنع إليه يسوع».

وهكذا فالله لا يتخلّى عن العالم. يرسل تلاميذه إلى العالم ليعيشوا في العالم ولكنّهم ليسوا من العالم. فلنتابع حياتنا في هذا العالم متذرّعين بالعفّة التي ترفعنا عن العالم، ولتكن عفّتنا وأعمالنا الصالحة نداء إلى العالم ليقترب الملكوت..

 

المرجع : مجلّة النور، العدد الأوّل، كانون الثاني، ١٩٥٢.

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share