الأرشمندريت إلياس مرقص
لن أتكلّم كثيرًا… أساسًا ليس عندي إلّا فكرة واحدة… فهذه ليست محاضرة، ليس فيها بحث عقليّ ولا معلومات. إنّما هي عرض فكرة. وإذا نجحت بتمريرها لكم أكون سعيدًا وشاكرًا لله.
هذه الفكرة هي الانطلاق. «الآن أطلق عبدك…»، لا أقصد انطلاق الساعة الأخيرة كسمعان الشيخ (وإن كان هذا يدخل ضمن موضوعي)، بل الانطلاق في كلّ الحياة. أعني موقف الانطلاق، الانطلاق الداخليّ، حالة انطلاق داخليّة تتّصف بها حياتنا… أي الموقف الكيانيّ…
هي الحياة الروحيّة (أو الحياة بعامّة)، مواقف أساسيّة ثابتة ودائمة يجدر بالإنسان المسيحيّ أن يتبنّاها. ومن الأمثلة على ذلك: الإحساس بالخطيئة بالعمق، اليقين برحمة الربّ التي لا حدّ لها، الشكر الدائم على كلّ شيء … والانطلاق هو من هذه المواقف الأساسيّة.
واختياري هذا الموضوع كان أيضًا لسبب آخر وهو أنّنا في زمن الصوم الكبير الذي هو زمن المسير نحو القيامة، نسير خلاله ونصعد نحو الفصح وأنّ الفصح (بحسب معنى الكلمة) هو عبور، هو انتقال. ننتقل فيه «من الموت إلى الحياة ومن الأرض إلى السماء» (كما نرتّل يوم العيد).
فالإنسان مدعوّ كيانيًّا إلى القيامة، إلى أن يحيا، أن ينفتح، ويخرج من ذاته ليتقبّل الحياة…
– «بتأييد الربّ أسير إلى الأمام»… يقول داود في المزامير. «أنسى ما وراء وأمتدّ إلى قدّام»… يقول بولس الرسول.
– «من أراد أن يتبعني فليحمل صليبه ويتبعني». والربّ يقول لبطرس: «أنت اتبعني»… ومتّى العشّار على مائدة الجباية «قام وتبعه»…
– في سفر نشيد الأنشاد:
«اجذبني وراءك فنجري»… فنجري…
«قومي يا خليلتي يا جميلتي وهلمّي»…هلمّي…
«اهرب يا حبيبي وكن كالظبيّ على جبال الأطياب»…
– «رفعت عيني إلى الجبال من حيث يأتي عوني» (في المزامير).
– إنّ فكرة الانطلاق والخروج والتخطّيّ للتسامي… تملأ الكتاب المقدّس.
– في سفر نشيد الأنشاد مقطع حلو جدًّا وذو معنى عميق:
«في الليالي على مضجعي التمست من تحبّه نفسي. التمسته فما وجدته. أنهض وأطوف في المدينة، في الشوارع وفي الساحات، ألتمس من تحبّه نفسي. إنّي التمسته فما وجدته. صادفني الحرّاس الطائفون في المدينة. أرأيتم من تحبّه نفسي… فلمّا تجاوزتهم قليلًا وجدت من تحبّه نفسي. فأمسكته، ولست أطلقه حتّى أدخله بيت أمّي وخدر من حبلت بي»… الحرّاس هم القيود والعادات الاجتماعيّة، وما إلى ذلك. كلّ ما يؤول إلى القوقعة والجمود والتحجّر. «ابن الإنسان ربّ السبت أيضًا»… وبيت أمّي هو مصدر كياني، فمن هناك ينطلق انطلاقي…
- في عيد القدّيس إستفانوس أوّل الشهداء اختارت الكنيسة مقاطع من خطابه لليهود، لا كلّ خطابه، بل المقاطع التي تتناول الانطلاق:
«أيّها الرجال الإخوة والآباء اسمعوا إنّ إله المجد تراءى لأبينا إبراهيم… وقال له أخرج من أرضك ومن عشيرتك وهلّم إلى الأرض التي أريك… وبعد نقله إلى الأرض التي أنتم ساكنون فيها الآن، لم يعطه فيها ميراثًا ولا موطئ قدمين…»، ذلك لئلّا يقيم في الأرض…
ثمّ تابع إستفانوس خطابه وقال: «إنّ سليمان بنى لله بيتًا. ولكنّ العلي لا يسكن في هياكل مصنوعات الأيادي… أيّ موضع يكون لراحتي؟… الله لا ينحصر في بيت… لا ينحجز… الشاعر الفرنسيّPaul Claudel يجعل الله يقول: Brûles ta maison, je veux passer»» (أحرق بيتك، أريد أن أمرّ).
ويتابع إستفانوس فيقول: «يا قساة الرقاب… إنّكم تقاومون الروح القدس دائمًا…» (الروح الحيّ المحيي الذي يهبّ…)، حتّى وصل إلى القول: «ها أنذا أرى السماوات مفتوحة وابن البشر قائمًا عن يمين الله… أيّها الربّ يسوع المسيح إقبل روحي…»، روحي طالعة إليك…
- ثمّ في عيد دخول السيّد إلى الهيكل، يُتلى الإنجيل القائل:
«كان إنسان في أورشليم اسمه سمعان وكان هذا الإنسان بارًا، تقيًّا، ينتظر تعزية إسرائيل. وكان قد أوحي إليه من الروح القدس أنّه لا يرى الموت قبل أن يعاين مسيح الربّ»… ثمّ «الآن تطلق عبدك أيّها السيّد على حسب قولك بسلام فإنّ عينيّ قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته…»، كان ينتظر التعزيّة والخلاص. كان عائشًا لينتظر.
ثمّ نرى حنّة النبيّة ابنة فنوئيل: «هذه تقدّمت في الأيّام كثيرًا… ولها أرملة نحو أربع وثمانين سنة لا تفارق الهيكل متعبّدة بالأصوام والأسهار ليلًا ونهارًا... فهذه حضرت في تلك الساعة تشكر الربّ وتحدّث عنه كلّ من كان ينتظر فداء في أورشليم…»، إنّه الانتظار عينه، توجّه العمر كلّه، ليلًا ونهارًا، والتوق إلى مجيء المخلّص.
وفي رسالة العيد: «أنت الكاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصادق»… إلى الأبد…
هذا وإذا دقّقنا نجد أنّ الحياة كلّها تقوم على هذا الانفتاح:
– على صعيد كيان الله، إذا جاز القول: فالله محبّة في ثالوث، أي أنّه حركة محبّة دائمة، خروج دائم لكلّ أقنوم نحو الآخر… للدخول في الآخر…
– على صعيد تدبير الخلاص: يسوع خرجَ من حضن الآب إلى العالم ليُتحد العالم به ويخلّصه. وفي الوقت ذاته كان اشتياقه للرحوع إلى الآب…
– على صعيد كيان الإنسان: لقد بدا فلسفيًّا أنّ العنصر الأساس في حياة الإنسان هو الشوق (le désir). فبدون شوق، بدون رغبة… تنتقص الحياة فالإنسان يعيش بقدر ما يشتاق ويتوق ويمتدّ… هذا ويقول الآباء إنّه حيوان ذوكصولوجيّ، أو همنولوجيّ، أيّ أنّه خلق للتمجيد والتهليل والتعجّب (émerveillement). «ما أعظم أعمالك يا ربّ»…
– وجود الملائكة أساسًا وكيانهم هو لهذا التعجّب الدائم: «قدّوس قدّوس قدّوس ربّ الصباؤوت، السماء والأرض مملوءتان من مجدك». وقد علّمونا أنّ الحياة المسيحيّة الحقّ تدعى حياة ملائكيّة (vios angelicos)
– في الزواج يترك الرجل أباه وأمّه ويلتصق بامرأته… والمرأة يكون اشتياقها لرجلها (يقول الكتاب)… فيصيران جسدًا واحدًا… لتمجيد الله. (لا لينظر الواحد إلى الآخر، بل لينظرا معًا إلى الله…).
– في الفنّ إجمالًا والرسم والموسيقى ينفتح أمامنا أفق آخر، فننتقل إلى تخوم عالم آخر… وقد قال دوستويفسكي: «الجمال سوف يحرّر العالم»… (La beauté sauvera le monde).
– وهذا الشوق، هذه الحرارة (ferveur)، هي ما نحتاج إليه قبل كلّ شيء في حياتنا… إذ إنّنا بدونه نفتر، نبتعد، ننسى، فنخطأ ونسقط… نموت.
– إنّ القدّيس إسحق السريانيّ يشبّه هذه الحرارة (لا تتعثّروا) بالكلب، الكلب حارس البيت. فإذا غاب الكلب أو نام، يتعرّض البيت للسرقة… وهكذا إذا غاب الشوق عن النفس، خمدت وتعرّضت سريعًا للخطيئة.
– وهذا يسري على صعيدي الصلاة والعمل.
– فلا بدّ للصلاة من أن تتمّ بحسّ وحرارة، وإلّا فتكون روتينيّة ومملّة ومتعبة… في كتاب السلّم إلى الله نرى راهبًا حارّ العبادة يقول عندما يسجد: «هلّموا (يا إرادتي وعقلي وقلبي وكلّ كياني) هلّموا لنسجد ونركع للمسيح…»، إذا عنينا ما نقول فكلمات الصلاة ذاتها توقظنا وترتقي بنا. «المجد للآب…»: وهو تمجيد يتكرّر جدًّا… تسبيح ثمّ «الآن وكلّ أوان وإلى دهر الداهرين آمين»: إنّه أفق الأبديّة، وكأنّ الأبديّة تنفتح لنا. هللويا: تهليل وشكر وفرح… وإذا كنّا قد خطئنا فلنا التوبة والدموع… كلّ ذلك خروجًا والتماسًا للخلاص…
– أمّا على صعيد العمل، فالمحبّة التي تحوي كلّ الفضائل، المحبّة الحقيقيّة تفترض الخروج من الذات نحو الآخر، إلى الآخر: عدم البقاء حيث نحن، بل الخروج للإحساس بالآخر والاتّحاد به… «بي أنا فعلتموه» يقول يسوع يوم الدينونة…
الإيمان (لا الإيمان بوجود الله وحسب)، بل الإيمان الحيّ ينقلنا إلى عالم آخر، عالم الأسرار الفائقة العالم إنّه ولادة… أمّا الرجاء فبُعده هو بُعده هو بعدُ الامتداد.
– ومن ثمار الروح (حسب غلا ٥: ٢٢) إلى جانب المحبّة، السلام (طوبى لصانعي السلام) والعفّة: أن نعفّ… يقول أحد القدّيسين: إنّ الطائر ليطير يدفش الهواء بجناحيه، كذلك نحن علينا أن ندفش الأهواء وراءنا لنعفّ ونتقدّم، واللطف وغيرها من الفضائل التي توسّع النفس وتكبّر المرء. فالإنسان أكبر من نفسه. زكّا العشّار القصير القامة صعد إلى جميّزة، ليصير أعلى من نفسه. نحن على صورة الله، ولذلك نحن أكبر من أنفسنا.
– الخلاصة أن يكون الإنسان المسيحيّ optatif ولا captatif.
optatif = منفتح، واسع الصدر، معطاء، مسامح، كريم ، لطيف… ولا أحلى من هذا، لا أحلى من الحياة المسيحيّة المعاشة. عكس الcaptatif = منغلق، منقبض، أنانيّ، بخيل، حقود، ولا أردأ وأبشع وأسوأ واقبح من هذا.
– أخيرًا، الموت انطلاق: «أَخرج من الحبس نفسي»، يقول داود في مزاميره.
– والحياة الأبديّة كلّها انطلاق، انطلاق لا ينتهي.
وهكذا وصلنا إلى نهاية الكلام، ولم يبق لي سوى أن أقول وأتمنّى، في ما تبقّى من هذا الصوم المبارك، أن نجعله صومًا، خروجًا من خطايانا وضعفاتنا، وصعودًا نحو الفصح المجيد، العبور المجيد، اشتياقًا إلى الآب، حبًّا واشتياقًا…
___________________
*كلمة ألقاها الأرشمندريت إلياس مرقص رئيس دير القدّيس جاورجيوس، دير الحرف في ١٨ آذار ١٩٩٩، في كنيسة القدّيس نيقولاوس – الأشرفيّة – بيروت.
المرجع : مجلّة النور، العدد الثاني التوثيقيّ، ٢٠٠٠.