الجسد هيكل الروح القدس

مرسيل مرقص Monday August 17, 2020 227

مرسيل مرقص

     « ألا تعلمون ّأن أجسادكم هي هيكل الروح القدس الذي فيكم الذي

 تلتمسوه من الله » ( كورنثوس الأولى ٦ : ١٩ ) .

   قصدنا أن نبيّن كيف أنّ جسم الإنسان– الجسم الحيّ– خلق أصلًا من الناحية الكيانيّة الأنتولوجيّة وكيف هو مكوّن ومؤلّف عضويًّا من الناحية الطبيعيّة العضويّة لكي يكون هيكلًا للروح القدس، وكيف أنّ تاريخه الأخلاقيّ، اذا أمكن القول، ليس في الجملة سوى تاريخ حصوله على الروح القدس، عبر جميع مراحل هذا التاريخ من مبدأ روحيّ أوّليّ، ثمّ سقوط وانحطاط، ثمّ افتداء وتجديد الطبيعة، وأخيرًا من تألّه، اذ تنفتح الحياة الإلهيّة فينا بالروح القدس .

 آ – أوّلًا من الناحية الأنتولوجيّة الكيانيّة وعلى مستوى الخلق:

خُلق الإنسان على صورة الله ليس في النفس فقط بل في الشخص كلّه ، وميزة صورة الله هذه لا تعود إلى عنصر ما من المركب الإنسانيّ بل إلى طبيعة الإنسان بتمامها. قال القدّيس غريغوريوس بالاماس: «إن اسم الإنسان ليس للنفس أو للجسم بل للاثنين معًا لأنّهما خُلقا معًا على صورة الله». وكذلك يقول القدّيسان إيريناوس وغريغوريوس النيصصيّ بأن ليس النفس فقط بل الجسم أيضًا يشترك في سمة الصورة ويُخلق على صورة الله. أمّا المضمون الإيجابيّ للصورة فمن المعروف أنّه ، كما قال القدّيس مكاريوس المصريّ، الشركة مع الله التي كان الإنسان بموجبها قبل الخطيئة لابسًا الكلمة والروح القدس. وقال يوئيل النبيّ: «سأسكب من روحي على كلّ جسد».

ثمّ بين مواضيع التوراة المهمّة أنّ مفهوم الجسد، «بشر» في العبريّة، مرتبط ارتباطًا تامًّا بأمر إظهار الشخصيّة، فالجسد هو ما أعدّ لكي ينال النفخة الإلهيّة، ليحيا بها، ليظهرها بصورة ما. بعد أن صنع يهوه الإنسان من تراب الأرض نفخ في أنفه نسمة حياة، فالجسد بدون النفخة التي تحييه لا يكون سوى جثّة، غير أنّه ليس الجثّة، لأنّه الجسد المُحيى بالنسمة الحيويّة. والنسمة الحيويّة نفسها مفهومة سماويّة بصورة ما. اللغة العبرية تشبّهها بالريح «رُوَح» فتسمّي هذه النفخة السرّيّة غير الملموسة نفخة من الله: «روح يهوه». في العقلية العبرانيّة، التي هي تأليفيّة (Synthétique) دائمًا، النفس هي قبل كلّ شيء مجموع الكيان، وإذا عنينا ب«الروح» قسمًا أعلى من الإنسان فإنّنا نكون قد وضعنا شيئًا إنسانيًّا محل الله.

ومن جهة ثانية ، نفخة الحياة لها طابع شخصيّ ما دامت تحيي الجسد، إذ إنّها، علاوة على كونها نفخة الله هي أيضًا النفخة الشخصيّة الخاصّة بكلّ واحد وملكه الأغلى. وفي هذا المعنى، ليس يهوه الإله الذي يرسل روحه في كلّ جسد فحسب، بل هو أوّلًا: «إله أرواح كلّ جسد» (العدد ١٦ : ٢٢ و ٢٧ : ١٦).

وبالإضافة إلى كلّ ذلك ليس الكائن البشريّ مخلوقًا بتمامه على صورة الله، وبهذه الصفة لابسًا الكلمة والروح القدس، فحسب: إنّه مخلوق على صورة ما سيكون عليه المسيح، الكلمة المتجسّد. قال القدّيس صفرونيوس الأورشليميّ: «في الوقت عينه كان الجسد جسدًا وجسد كلمة الله، وفي الوقت عينه كان جسدًا محييًا بنفس عاقلة وجسد الكلمة، لأنّ الجسد إنّما في الكلمة يملك وجوده وليس في ذاته».

ومن جهة أخرى بالتجسّد اتخذ ابن الله الجسم الإنسانيّ إلى الأبد ، والطبيعة البشريّة هي جزء من شخص المسيح: إنّها « تأقمنت » في أقنوم الكلمة. لهذا يحتفظ ابن الله بالجسد بعد الصمود، وبجسده هو جالس عن يمين الآب. يوحنّا الذهبيّ الفم يشرح كما يلي: «بهذه العبارة (عن يمين الآب) نعني المجد والشرف حيث يقيم ابن الله قبل الدهور وحيث إذ تجسّد في آخر الأيّام يقيم بصورة جسديّة بعد أن مُجّد جسده». إنّه إذًا الجسم الممجّد الروحيّ الذي تكلّم عليه القدّيس بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس، وأنّه بهذه الصورة سوف توجد عناصر جسميّة دائمة في الملكوت، «لكي تجثو لاسم يسوع كلّ ركبة ممّا في السموات وعلى الأرض وتحت الثرى» (فيليبّي ٢ : ١٠).

إذًا على الأساس الأنتولوجيّ الذي ذكرناه يتّضح أنّ المسيحيّة ترفض كلّ فكرة تجعل من الجسد عنصرًا مؤقّتًا من الوجود، أو سجنًا للنفس أو مبدأ شرّ يجب محاربته في ذاته. وعند القدّيس بولس الرسول نفسه مفهوم الجسد غير مفهوم الجسم organisme  الطبيعيّ وحده: إنّه مفهوم الجسد chair  «سركس»، الذي هو مفهوم أدبيّ. والثنائيّة التي يتراءى استنتاجها من المقطع الشهير في الرسالة إلى أهل روميه: «أرى في أعضائي ناموسًا آخر يحارب ناموس عقلي» (روميه ٧ : ٢٣ – ٢٤)، هي ثنائيّة أدبيّة أخلاقيّة وليس كيانيّة، ثنائيّة الإرادة لا الطبيعة. نعم إنّ الجسد كعنصر جوهريّ من الشخصية قاسى تأثير الخطيئة وقاساه حتّى التأصّل، حتّى صار أسيرًا لناموس الخطيئة في الأعضاء الذي يتكلّم عليه بولس. ولكن ما من معادلة ممكنة بين الجسم والشرّ في ميدان الجوهر. هذا ومع أنّ الخطيئة شوّهت الإنسان إلّا أنّه يحفظ، عبر تمزّقات الرداء السماويّ، سرّ طبيعته الحاملة الروح، وحتّى إذ ابتعد الإنسان عن الله إلى الحدّ الأقصى وصار متباينًا عنه بطبيعته فإنّه يبقى شخصيًّا مخلوقًا على صورة الله وبهذه الصفة مالكًا طبيعته بحرّيّة.

ومن ناحية أخرى ليس الجسم وحده واقعًا تحت سلطان الخطيئة بل الشخص بكلّيّته. فالمسيح علّمنا ذلك حين قال: «من القلب تخرج الأفكار الشرّيرة والقتل والزنى والفسق…» وآباء الكنيسة أوضحوه. فكاسيانوس يقول لنا إذ يشرح هذا العدد للقدّيس بولس، «الجسد يشتهي ضدّ الروح والروح ضدّ الجسد» (غلاطية ٥ : ١٧): «واضح أن ليس علينا هنا أن نفهم بكلمة الجسد الإنسان نفسه أي جوهر الإنسان، بل لأنّ هاتين الرغبتين المختلفتين هما في شخص واحد، فنحن دائمًا في حرب أهليّة داخليّة». وذياذوخوس: «يوجد حس طبيعيّ واحد للنفس، مقسوم في ما بعد إلى نشاطين بنتيجة معصية آدم» وأيضًا: «بعضهم تخيّل أنّه يوجد في روح الأبطال athlètes كمبدأين مختلفين»، وأيضًا: «إذا كان حمّام القداسة (المعمودية) ينتزع منّا رجاسة الخطيئة، فهو لا يغيّر الآن ثنائيّة إرادتنا». ويختم كاسيانوس شارحًا بولس الرسول: «لا يجب بعد الآن الشكّ في أنّنا لا نستطيع أن نزيل تمامًا عن أعضائنا رجاسة الزنى والفسق، لأنّ الرسول لا يعبّر عن هذا الواجب بصورة أخرى عمّا فعله بالنسبة إلى البخل والكلام البطّال والسكر والسرقة وكلّها رذائل يسهل الإقلاع عنها».

فليس الجسم إذًا هو الشر كما تعلّم المانويّة واللاأدريّة والمعرفيّة (gnosticisme). والرسول يوحنّا، مع أنّه يتبنّى التعابير المعرفيّة «نور وظلمة»، يجهل كلّيًّا معارضة الجسم والروح كما يجهل المعادلة بين الظلمة والجسم. الثنائيّة الأنتولوجيّة بين الجسم والنفس تنتهي في الباب العمليّ الأخلاقيّ، إمّا إلى حرّيّة كلّيّة بدون أيّ رادع (libertinisme) أو بالعكس إلى صرامة كلّيّة متحجّرة (rigorisme)، وكلتاهما تتعارضان جوهريًّا وبالسويّة مع العقيدة المسيحيّة. فهذه ترفض كلّ عقيدة تقلّل من قيمة الجسد أو تحتقره أو تعادله بقوّة شرّيرة، كما أنّها ترفض المذهب المثاليّ الفكريّ (idéalisme).

وفي هذا الموقف المبدئيّ يكمن أساس النسك والتقشّف الجسديّ كما تفهمه المسيحيّة، أي أنّه لا يهدف كما في الهنديّة إلى ملاشاة الجسم أو «خروجه»، بل إلى استعباد الجسم إلى ال«بنيفما»، المركز الروحيّ للإنسان. وهذا يتطلّب أحيانًا أن يكون المرء قاسيًا مع الجسد، وما من شكّ في أنّه قد حدثت تطرّفات في الواقع في هذا المجال، ولكنّه يبقى أمرًا مسلّمًا به في المسيحيّة استنكار المغالاة في النسك والتقشّف، استنكار النسك لأجل النسك.

كتب القدّيس بولس إلى أهل أفسس «فإنّه ما من أحد أبغض قطّ جسده الخاصّ» (٥ : ٢٩). وقال القدّيس غريغوريوس الكبير: «بالإمساك يجب إفناء رذائل الجسد لا الجسد نفسه». وكذلك المغبوط أوغسطينوس يقول بعدم إزالة الجسم بل بحفظه مستعدًّا لتتميم الواجب. أمّا القدّيس ليون الكبير فيجمّل الموضوع بقوله: «إنّه نافع في كلّ زمان وموافق للعهدين أن نفتّش عن رحمة الله بواسطة تأديب الروح والجسم». إنّها أوّليّة النسك الروحيّ، نوع من اليقظة الداخليّة الدائمة، لأنّ كلّ ما يجري في الجسد له وقع غير محدود ويلزم الشخصيّة بكلّيّتها.

وهكذا فالجسم هو، بنوع ما، علامة الشخص وظهوره، مبدؤه الداخليّ هو مبدأ روحيّ، وحضور الروح القدس فيه يظهر في كيف أنّ الشخص بصورة دائمة يتجاوز نفسه إلى أبعد من نفسه. وإذا كان يستحيل هنا في هذا العالم التناسق التامّ بين الجسم والروح بسبب مأساة العرضيّة والظرفيّة الإنسانيّة التي تتطلّب منّا كفاحًا متواصلًا لأجل بلوغ القداسة (إلّا إذا غرقنا في الموت الروحيّ). فيبقى صحيحًا أنّ غايتنا الأخيرة هي التألّه بواسطة الروح القدس، الذي ينتهي بنا إلى ملكوت الله. ومنذ هذه الحياة الحاضرة نستطيع أن نحصل على طعم سابق لملكوت الله، مدخل إلى القلوب من الروح القدس.

وهكذا إذًا من وجهة نظر الخليقة، الروح (القدس)، المبدأ الروحيّ هو في الوقت ذاته أساس الكأس البشريّة، وغايته أنّ الجسم مخلوق في نفخة الروح لكي يصير هيكل الروح. وكلّ حياته تقوم على أن يتابع بلا انقطاع هذا الهدف– عبر العرضيّة وفساد الإرادة– هدف الكينونة هيكل الروح فعلًا وشخصيًّا بكلّ ملء حضوره الحقيقيّ، الذي هو في النهاية حضور الثالوث الأقدس.

ب – من ناحية بنية الكائن البشريّ العضويّة:

فالسيكولوجية العميقة للجسم، كما تظهر أكثر فأكثر من دراسات وأبحاث الطبّ والتحليل النفسيّ الحديثة، تثبت بصورة أكيدة رنين الجسديّ في النفسيّ وبالعكس. كلّ موقف إنسانيّ يُعاش في الجلد إذا جاز القول. والطبّ النفسيّ الجسديّ (médecine psycho-somatique) يأتي على ذلك بأمثلة دامغة. إلى المبدأ عينه تستند الفراسة والغرافولوجية والشيرومنسية[1] والأساليب الأخرى لدراسة الطبع بحسب ظهوراته في الوجه والخطّ وأسارير الكفّ وسواها. الكائن الذي يستسلم لغرائزه يسجل ذلك في جسده، والكائن الذي يبذل جهدًا للتغلّب على ذاته « يروحن » جسده ويجعله شيئًا فشيئًا شفّافًا. إنّ وجه القدّيس ووجه الفاسق يعكسان عالمين مختلفين. فليس إذًا من استقلال جسديّ أو استقلال تركيبيّ للجسم، وحتّى كلمتا «رنين» و «طنين» النفسيّ في الجسديّ وبالعكس لا تعبّران تمامًا عن الواقع، لأنّهما تسمحان بالاعتقاد أنّ مهلة ما تمرّ بين الحالة العاطفيّة والحالة الجسميّة المقابلة لها، بينما تجري الأمور بأكثر صميميّة وأكثر سرّيّة. وقد تمكّن العالم كلاكيس (Klages) من القول إنّ الجسم هو «تعبير» النفس والنفس هي «معنى» الجسم، وإنّ العلاقة بين الاثنين تشبه علاقة الكلام بالفكر، إذ يعبّر الكلام عن الفكر وليس للفكر من صلابة بدون الكلام، ولكن أيضًا يتجاوز الفكر الكلام ويفيض عليه من جميع الجهات.

هذه العلاقة الصميميّة بين الجسم والوجود الشخصيّ للإنسان ظاهرة أيضًا في المجال الجنسيّ. الكائن البشريّ ذو جنس في أعماق بنيته. هو ذو جنس في نمط تفكيره وإحساسه وعمله. إنّ شخصًا إنسانيًّا ما هو ذكر أو أنثى في جوهر بنيته. إنّ جنسيّتنا هذه تفعمنا كلّيًّا وهي ملازمة للحياة نفسها. ومن منّا لم يشعر، على أثر تصرّف جنسيّ ما، بالتزام كلّ كيانه؟ وإذًا كان الأمر خطيئة، بأنّه حدثت كارثة بكلّ معنى الكلمة وسقوط حقيقيّ للشخص. فإذًا ليس أيضًا أيّ استقلال جنسيّ. قال أوغسطينوس: «من ليس روحانيًّا حتّى في جسده، يصير جسدانيًّا حتّى في روحه».

من جهة أخرى ليس الجسم شيئًا يعانيه الإنسان. فللجسد قيمة وكرامة عليا هي السماح للأشخاص بأن يتّحدوا ويشتركوا، فالجسد هو الواسطة التي بها يتحقّق حضور نفس لنفس أخرى، ولأنّ الإنسان هنا ملتزم حتّى في جسده إنّما الشركة بين الأشخاص البشريّين هي عميقة وسرّيّة معًا بهذا المقدار.

وعلاوة على ذلك، ليست الجنسيّة شيئًا لا نعانيه وكفى: هي فينا قوّة وطاقة تحت تصرّفنا، طاقة تساعد على تحقيق الشخص، إنّها كمخطّط أو مشروع يحقّقه المرء شيئًا فشيئًا، أو لا يحقّقه، ويمكنه تغييره أثناء الطريق. يبيّن آدلر كيف أنّه بحسب توجيهنا لجنسيّتنا تستطيع هذه أن تنحرف مثلًا نحو إرادة السيطرة التي تحلّ مكانها. وبواسطة هذه الطاقة الجنسيّة نستطيع إذا أردنا (على مستوى آخر) أن نصل إلى الروح في الجسد، وفي الزمان إلى الأبديّة. نعم إنّ التناسليّ غير قابل لأنّ تعلو قيمته أو يتجلّى كتناسليّ: إنّ حياتنا الجنسيّة تتضمّن زاوية حيوانيّة غير قابلة للتبديل، ولكن ما ليس في الجنسيّة بيولوجيًّا تمامًا بل سيكولوجيًّا نوعًا ما فهذا يمكن له أن يتحول ويتصعّد وينتقل إلى خدمة الروح. بل إنّ الغريزة في الجنس البشريّ مشحونة بالعواطف ومفعمة بالروحانيّة إلى حدّ أنّها تستطيع في بعض الطبائع أن تمحى أمام متطلّبات ارتقاءات النفس، وذلك بدون أن تؤدّي السيطرة التي يفوز بها الراهب أو الراهبة على الجسد – حينما يكون الموضوع عفّة لا كبتًا – إلى أيّ نقص في قيمتها التامّة، سواء من الناحية الجسديّة أو النفسيّة أو الأخلاقيّة. لأجل هذا بدون شكّ اتّفق اللاهوتيّون على القول بأنّ حالة البتوليّة هي أسمى في ذاتها من غيرها. ولكنّ ذلك في الروح القدس وبه. ولأنّ الكلمة صار جسدًا، وبذلك اتّخذ الجنسيّة البشريّة. والتجسّد وحده، وكلّ شيء في تجسّد الكلمة، يسمو على الجنسيّة ويتمّمها في الوقت عينه. ومهمّتنا نحن في هذا الميدان هي التفتيش عن توازن يستطيع الروح وحده تأمينه إن كان نفسه موحّدًا بالروح القدس. دانتي يسأل بياتريس: «علّميني كيف يخلد الإنسان» .. الحلّ في سرّ التجسّد ..

ولذلك فعيب الفرويديّة الكبير هو أنّها تسيّر بلا نهاية وهدات النفس بدون مساعدة نور آخر ومحبّة أخرى. هي تحكم مع الإنسان عبر الجنس لا على الجنس عبر الإنسان، وبتحويلها الروح إلى الجنس تذلّ وتحقّر الروح بدون أن تفتدي الجنس وترفعه.

ففي النفسيّة البشريّة توجد إذًا هذه الغائيّة التي يتكلّم عليها يونغ، غائيّة موجّهة نحو تحقّق الشخص، نوع من التوق متّجه إلى جمع وتنسيق كلّ الضغوط السببيّة الآتية من النفس(persona)  والمجتمع، في طريق هذا التحقيق، ديناميكيّة جوهريّة نحو حالة عليا يسعى الكائن إلى بلوغها.

فوق الجسم، فوق الزمان والمكان، هناك قياس داخليّ للشخص يعطي للظهورات المكانيّة والزمنيّة معناها، وفي نهاية الأمر سوف يبقى ويخلد في الجسم ما كان يساهم فيه في هذا القياس الداخليّ، هذا القسم الجوهريّ من الجسم.

إذًا فالإنسان هو سيكولوجيًّا أيضًا ظهور الروح فيزيولوجيًّا وسيكولوجيًّا معًا الشخص البشريّ مؤلّف ومكوّن لأجل حياة الروح وموجّه إليها.

   ج – والآن كلّ شيء يتعلّق بموقفنا الأخلاقيّ، بفهمنا العمليّ والفعّال، وعلى مستوى الإرادة، لبلوغ حياة الروح هذه.

وبادئ ذي بدء لا كره للجسم ولا احتقار للجسد: «فإنّه ما من أحد أبغض قطّ جسده» ، كما جاء في الرسالة إلى أهل أفسس (٥ : ٢٩). وترتليان من جهته يقول: «يجب ألّا تكون الطبيعة موضوع عار بل موضوع احترام». أما إكليمنضس الإسكندريّ فيقول: «يجب ألّا نخجل من أن نسمّي ما لم يخجل الله من خلقه». لأنّه كما أعلن عن ذلك أوغسطينوس: «في نوعه الخاصّ وبحسب درجته الخاصّة الجسد هو صالح».

أمّا بالنسبة إلى المسألة الجنسيّة، فلا يوجد في المسيحيّة موقف مضادّ للجنسيّة. لا «مضادّة للجنسيّة»

(Pas d’anti-sexualité) ولكنّ الجنسيّة هذه يجب أن تكون موجّهة بالمحبّة، أي يجب أن تتحوّل، في الموقف الأساس للكائن من الاستيلائيّة إلى العطائيّة، ممّا هو مغلق، أنانيّ وكثيف، إلى ما هو منفتح ومتجسّد نحو الغير ولأجل الغير. ولذا إنّ كلّ اتّصال جنسيّ خارج الزواج هو خطيئة ضدّ الغير بفعل هذا الاتّصال عينه ولكونه خارج الزواج. الخطيئة هي في «تشييء» الغير (objectiver) أي أن نعتبر الغير كأنّه شيء لا شخص فلا نعود نحسب حسابًا لشخصه، في كلّ ما للشخص من حرّيّة وأصالة، ولا للعلاقات بين الأشخاص التي هي علاقات فريدة من نوعها، وفي الوقت عينه أن نريد احتكار حرّيّة الغير كحرّيّة، أي أنّ تصير حرّيّة الغير نفسها لنا، كأنّها عبدة لنا، إلّا أنّه بهذا لا تكون بعد حرّيّة. هذا التناقض (paradoxe) هو تناقض خطيئة الجسد في الحبّ الذي يُساء فهمه، تناقض الحبّ الذي يزعم أنّه يكتفي بذاته فينتهي بسبب ذلك إلى مأزق، لأنّ الجنسيّة كلذّة أنانيّة لا تُرضي الإنسان جوهريًّا وهي في النهاية ضدّ الطبيعة.

لأنّه في الواقع لا توجد قطّ حاجة جسديّة صرفة ومقصورة على ذاتها، حاجة يمكن أن تشبع بالاستقلال عن محيطها النفسيّ. غالبًا ما تكون العلاقات الجنسيّة وسيلة أو اختبارًا يلوذ به الإنسان لكي يخرج من عزلته أو لكي يظهر سلطته. ما هو أكيد هو أنّ المرء لا يحبّ جسمًا كجسم. وإلّا فيمكنه أن يحبّ امرأة مجنونة، الأمر الذي لا يفعل إلّا بصعوبة كلّيّة، وإلّا أيضًا لا يمكن أن نفهم كيف يستطيع الإنسان أن يحبّ امرأة داعرة، الأمر الذي يقع كثيرًا.

وبالنتيجة تتحقّق الغائيّة الروحيّة للجنسيّة في الشركة الزوجيّة المسيحيّة. حبّ الرجل والمرأة عبر جسدهما له مصير سامٍ. فعبر جسدهما يوجد عطاء الأشخاص أنفسهم، الحقيقيّ والجوهريّ. إنّ قوّة وعظمة الحبّ الزوجيّ تأتيان من هذا الاتّحاد وهذه الشركة الوحيدة التي يحقّقها: الزواج اتّحاد وشركة بهذا المقدار صميميّة حتّى إنّها تلزم الشخص بتمامه، في كلّ سرّه. وإنّها تاليًا أحد الأعمال الخطيرة جدًّا التي يمكن الرجل والمرأة أن يطرحاها. والطابع المأساويّ الأساس لهذا العمل يأتيه من أنّه يحقّق الشركة (الاتّحاد) بواسطة الجسد. ولكن إذا كان الاتّحاد بين الرجل والمرأة هو ثمرة حبّ يعطي ذاته في الطهارة والسخاء والأمانة الزوجيّة، حينئذٍ الجسم نفسه يصبح روحانيًّا لأنّه يصير في خدمة حبّ يرفعه ويقدّسه، بما أنّه مبارك من قِبل الله. يقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم: «كما لو أنّكم أخذتم أنقى ما في سبيكة ذهبيّة ومزجتموها بذهب آخر، هكذا المرأة تأخذ المادّة الملقِّحة التي تسيلها اللذّة كما في بوتقة، وتغذّيها وتتعهّدها وهي تمزج بها ما يأتي منها، فتلد إنسانًا». ويقول القدّيس غريغوريوس النيصصيّ إنّه لمّا كان الإنسان في حالته الأصليّة الأولى، حالة صورة الله التي هي الآن مختفية في دنس الجسد، كان يضع في الربّ كلّ سعادته وكانت الرفيقة التي أعطيها تساعده على ذلك، كما يشير إليه الكتاب المقدّس. والآن في شدّة امتدادنا نحو تجديد الحالة الأصليّة، فمصير الرفيقة هو أيضًا مساعدتنا لكي نحيا للربّ. «من اقترن بزانية يصير معها جسدًا واحدًا، أمّا الذي يقترن بالربّ فيكون معه روحًا واحدًا» (١ كور ٦ : ١٦ – ١٧). فخارج هذه الغائيّة وخارج هذا الٳطار، ليست العلاقات الجنسيّة سوى عادة يصير المرء عبدًا لها.

إنّ سكنى الحبّ في الجسد ونموّه فيه هما عطيّة الكلمة الصائر جسدًا. فيه (أي في الكلمة) الجسد هو ثمر الروح (القدس) ويعطي الروح (القدس) الذي هو محبّة. إنّ ملك الكلمة في الجسد هو مُلك محبّة، يحوّل كلّ اقتناء إلى تحرير ويحوّل سرعة زوال اللذّة إلى ثبات الفرح. وليس الأمر معنويًّا مثاليًّا، بل هو خلق جديد: الكلمة ليست فكرة بل شخصًا. ويلزم ، أقلّ ما يلزم، موهبة الروح القدس لفهم أعماق الجسد هذه.

لأجل بلوغ هذه الغاية، لأجل تقديس الجسد حقيقة بواسطة الروح القدس، إن كان من الناحية الجنسيّة أو غير الجنسيّة، هذا يقتضي جهادًا روحيًّا مستمرًّا، يقتضي هذا التيقّظ وهذا النسك الروحيّ اللذين تكلّمنا عليهما سابقًا. «حتّى الرسل الذين نالوا المعزّي لم يكونوا بدون قلق: بالفرح والابتهاج كان يمتزج الخوف وارتعاد النعمة نفسها، وليس بسبب القسم السيّئ فيهم، ولكنّ النعمة كانت تحميهم إذ تمنعهم من التيه بنوع ما». هكذا تكلّم مكاريوس الثاني، والقدّيس باسيليوس بدوره يقول: «الروح القدس حاضر عند الجميع ولكنّه لا يُظهر قوّته إلّا عند الذين تطهّروا من الأهواء». أمّا القدّيس سيرافيم ساروفسكي فقال: «نعمة المعموديّة هذه بهذا المقدار كبيرة وينبوع الحياة هذا بهذا المقدار ضروريّ للإنسان حتّى إنّها لا تُسحب من هرطوقيّ حتّى ساعة موته». وهذا الصراع الذي لا نخوضه وحدنا بل المسيح معنا، فقد أعطانا المسيح في قربانه المقدّس الوسيلة العظمى للتقديس، وسيلة الصيرورة فعلًا هيكل الروح القدس.

وإذا توصّلنا حقيقة، في نهاية الأمر، إلى عدم إطفاء الروح القدس فينا، حينئذٍ يصير جسمنا هيكله المقدّس على الدوام. وسكن الروح القدس فينا يصنع من كياننا مقرّ الثالوث القدّوس، ويختمنا بختم علامة شخصيّة وفريدة مع الثالوث: إنّه هنا سرّ الإخلاء الذاتيّ، سرّ تنازل الروح القدس الآتي إلى العالم. والذين يحيون مسيحيًّا يشعرون بأنّهم موضوعون هكذا بواسطة الروح القدس في اتّصال مباشر مع الله، اتّصال كلّ لحظة. إنّهم يعيشون في الحيازة الدائمة لهذه القدرة ويحسّون بوجودهم محييًا باستمرار من قِبل هذا الينبوع الذي لا ينضب.

وهكذا فٳنّ جسم الإنسان خُلق أصلًا وهو مؤلّف عضويًّا لكي يكون هيكلًا للروح القدس. وتاريخه الأخلاقيّ، إذا أمكن القول، ليس في الواقع سوى تاريخ حصوله على الروح القدس.

 

المرجع : مجلّة النور، العدد السادس، حزيران، ١٩٥٧.

[1] الغرافولوجية: معرفة الشخص عبر خطّه والشيرومنشية معرفة الإنسان من يده.

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share