الأرشمندريت إلياس مرقص
جرت في الآونة الأخيرة سيامات كثيرة مختلفة، والناس إجمالًا عندنا لا يفرّقون بين السيامة الكهنوتيّة و«السيامة» الرهبانيّة ولذلك رأينا إيضاح الأمر في المقال المقتضب التالي:
١- السيامة الرهبانيّة ليست سيامة
من الخطأ تسمية التكريس الرهبانيّ «سيامة» لأنّه ليس سيامة بالكلّيّة. فالسيامة تطلق على السيامة الكهنوتيّة فقط بدرجاتها الثلاث: شمّاس، كاهن، أسقف (بقيّة الألقاب شرفيّة أو وظيفة ولا قيمة كهنوتيّة لها). وهي تعطي الشخص المُسام وظيفة كنسيّة معيّنة غايتها تأمين رعاية المؤمنين. إنّها تعطي الشمّاس أو الكاهن أو الأسقف الصلاحيّة الشرعيّة مع النعمة الإلهيّة الخاصّة للقيام بهذه الرعاية (سلطان تعليم كلام الله وتقديس المؤمنين بالأسرار المقدّسة والخدم الكنسيّة وقيادتهم إلى الخلاص).
أمّا «السيامة» الرهبانيّة فلا علاقة لها بالرعاية ولا تعطي للراهب أيّة وظيفة ولا أيّة صلاحيّة من هذا القبيل. بل تتعلّق بشخص الراهب فقط الذي يقدّم نفسه للربّ ناذرًا العفّة والفقر والطاعة ليعيش حياة جديدة. لا يتمّ فيها سرّ الكهنوت وتاليًا لا تسمّى سيامة، بل اسمها خدمة التصيير إلى الإسكيم الرهبانيّ (الصغير أو الكبير) أو التكريس الرهبانيّ.
٢ – طقس خدمة التصيير إلى الإسكيم الرهبانيّ (الصغير)
يتضمّن طقس التكريس الرهبانيّ النقاط التالية:
– يحمل الحضور شموعًا مضاءة.
– يُعاد طالب الترهّب إلى أمام الباب الملوكيّ حافي القدمين مكشوف الرأس، خالعًا ثيابه الاعتياديّة ولابسًا حلّة بيضاء، ساجدًا ثلاث سجدات إلى الأرض عند مدخل الكنيسة، ثمّ في وسطها ثمّ أمام الباب الملوكيّ.
يسأله الرئيس بضعة أسئلة فيجيب عنها طالبًا الدخول في السيرة الرهبانيّة، ومتعهّدًا بحفظ البتوليّة والطاعة والنسك والفقر والثبات في الدير حتّى الممات من أجل ملكوت السموات.
– يعظه الرئيس مطوّلًا مبيّنًا له الضيقات والمشقّات والأحزان التي سيتحمّلها فيجيب بقبوله بها.
– يتلو الرئيس ثلاثة أفاشين يطلب فيها إلى الله أن يتقبّل الطالب في كنفه.
– يناوله المقصّ ثلاث مرّات لكي يدفعه هو إليه باختياره، ثمّ يقصّ شعره على اسم الآب والابن والروح القدس.
– يلبسه الثوب الرهبانيّ على اسم الآب والابن والروح القدس، مشيرًا إلى رمز كلّ قطعة منه في حين يرتّل الإخوة والحضور «يا ربّ ارحم».
– بعد الإفشين الأخير تقال الطلبات السلاميّة من أجل الراهب الجديد، ثمّ ترتّل «أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم..»، ويقرأ فصل من الرسالة إلى أفسس (إلبسوا سلاح الله الكامل ٦: ١٠ – ١٧)، ومن إنجيل متّى (من أحبّ أبًا أو أمًّا أكثر منّي..).
– أخيرًا يُعطى الراهب الجديد صليبًا وشمعة ويجري التقبيل. وإذا كان التكريس خلال القدّاس الإلهيّ، يتناول الراهب الأسرار المقدّسة.
٣ – الفروقات بين ارتداء الإسكيم الرهبانيّ والسيامة الكهنوتيّة
من الفروقات الرئيسة بين طقس الإسكيم الرهبانيّ والسيامة الكهنوتيّة:
أ – في السيامة الكهنوتيّة لا يأتي المطلوب شرطنته حافي القدمين ولابسًا حلّة بيضاء وساجدًا إلى الأرض، لأنّه لا يأتي بالدرجة الأولى كتائبٍ بل ليُقلّد وظيفة كنسيّة ويصير أداة للروح القدس.
ب – في السيامة الكهنوتيّة لا يُسأل المطلوب شرطنته «ماذا أتيت تطلب؟» (والأسئلة الأخرى المتعدّدة)، وذلك بأنّ المطلوب شرطنته ليس هو الطالب أن يشرطن في الأصل بل الكنيسة قد اختارته وعيّنته ليصير شمّاسًا أو كاهنًا أو أسقفًا (وتاليًا فالمسؤوليّة كبيرة جدًّا في شرطنة من لا يستحقّون)، بينما طالب الترهّب هو الذي يتقدّم ويرجو قبوله راهبًا ثمّ للكهنوت شروط غير مطلوبة في الراهب.
ج – ليس في السيامة الكهنوتيّة «نذور» بالمعنى الرهبانيّ المحدّد، ولا يُقصّ شعر المشرطن كما يُقصّ شعر الراهب.
ه – إفشين السيامة الكهنوتيّة يستنزل نعمة الروح القدس على المشرطن، وبه يتمّ سرّ الكهنوت فيعطى المشرطن إحدى الدرجات الكهنوتيّة الثلاث بصلاحيّاتها وسلطانها. أمّا أفاشين الإسكيم الرهبانيّ فتطلّب فقط إلى الله أن يتقبّل الراهب في كنفه، في طريق التوبة والجهاد الروحيّ.
ه – حين إعطاء الثوب في السيامة الكهنوتيّة يصرخ المطران «مستحقّ» ويجيب الشعب «مستحقّ» على كلّ قطعة (وموافقة الشعب أساسيّة هنا). أمّا في طقس الإسكيم الرهبانيّ فيقول الشعب فقط يا ربّ ارحم ثلاث مرّات على كلّ قطعة من الثوب.
٤- الإسكيم الرهبانيّ أقرب إلى المعموديّة.
الإسكيم الرهبانيّ هو تجديد للمعموديّة أكثر منه نوال نعمة الكهنوت. إنّه تجديد لالتزامات المعموديّة وقد سمّي أحيانًا بالمعموديّة الثانية وتذكّرنا بالمعموديّة في طقس الإسكيم الرهبانيّ النقاط التالية:
– الشموع والحلّة البيضاء (وكشف الرأس والقدمان الحافيتان).
– قصّ شعر الرأس (خدمة قصّ شعر المعتمد تهمل الآن في معظم الأحيان، وهذا خطأ. راجع كتاب الأفخولوجي).
– ترتيلة «أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم المسيح قد لبستم هللوييا..».
– الراهب أقرب إلى العلمانيّ منه إلى الكاهن.
٥- ليس التكريس الرهبانيّ بقريب أو بعيد عن عامّة المسيحيّين.
ليس من فرق في الأساس بين الراهب والمسيحيّ بصورة عامّة. فالالتزامات التي يلتزمها الراهب يلتزم المسيحيّ بمعظمها، وطقس الإسكيم الذي يوضح متطلّبات الحياة المسيحيّة ومراحلها يوضح في الوقت ذاته أنّ هذه لا تختلف عن متطلّبات الحياة المسيحيّة ومراحلها لعامّة الناس إلّا في الدرجة لا في الجوهر.
– فالأفاشين والصلوات تشير أوّلًا إلى ضرورة «تنقية أفكار المبتدئ من غرور هذه الحياة الباطلة»، وهذا لازم للجميع.
– ثمّ تنبّهه إلى «ألّا تلتفت إلى الوراء وإلّا فإنك لا تكون أهلًا لملكوت السموات».
– ثمّ تبيّن له المرحلة الأولى في طريقه وهي مرحلة كلّ حياة مسيحيّة أصيلة، مرحلة التطهير: «عليك قبل كلّ شيء أن تطهّر ذاتك من كلّ دنس جسديّ وروحيّ».
– ثمّ توضح ضرورة الجهاد والنضال: «لأن الأعمال الحسنة تقتنى وتتم بالنصب» «شدّوا أحقاءكم..» «لا تكرهن شيئًا ممّا تظنّه صعبًا عليك..» «لا تصغرنّ نفسك في التجارب» وهذا بالضبط طريق كلّ مسيحيّ.
– ثمّ تؤكّد على أهمّيّة الاتّضاع والوداعة اللذين لا بدّ منهما للجميع قبل كلّ شيء آخر: «اقتنِ التواضع لأنّه هو الذي يجعلك وارثًا الخيرات الأبديّة، أنبذ القحة.. احتمل بصبر جميع أحزان السيرة الرهبانيّة» وحياة المسيحيّ في العالم لا تخلو من أحزان!..
– ثمّ تذكّر بكلام الربّ الموجّه إلى جميع أتباعه: «فليضئ نوركم قدّام الناس ليروا أعمالكم الصالحة ويمجّدوا أباكم الذي في السموات».
أمّا نذور العفّة والفقر والطاعة فلا شكّ في أنّ كلّ مسيحيّ أصيل يجب أن يتحلّى بروح العفّة والفقر والطاعة، وأن يتبنّاها بالقدر الذي يسمح به وضعه وظروفه ومهنته وعائلته، نابذًا على الدوام روح الشهوة والطمع والتسلّط والبطر…
الرهبان تاليًا ليسوا بمنفردين في المسيحيّة بل هم طليعة الجيش، وقد تفرّغوا فقط أكثر من غيرهم لحياة الصلاة والتسبيح وحمل صليب المسيح.
٦- الشعب كلّه شعب كهنوتيّ بالمعنى العامّ أمّا الكهنة فلهم وحدهم سرّ الكهنوت.
الشعب المسيحيّ كلّه مكرّس لله: «أنتم شعب مختار، كهنوت ملوكيّ، أمّة مقدّسة» (١ بطرس ٢: ٩). الشعب كلّه يجب أن يسبّح ويشهد لله ويصلّي من أجل جميع الناس. وهذا ما يجمع بين المسيحيّين كافّة من دون استثناء من رهبان وكهنة وعلمانيّين. هذا هو الكهنوت الروحيّ المشترك بين جميع المسيحيّين لانتمائهم للمسيح والروح والقدس الساكن فيهم. (ولكنّ هذه الحالة الكهنوتيّة بالمعنى العامّ هي غير سرّ الكهنوت الخاصّ بالكهنة، وهي لا تعطي حقّ إقامة الأسرار المقدّسة في المسيح وباسمه. ولا بدّ من رجال مخصّصين لإقامة الأسرار باسم المسيح، فهناك إذًا فرق أساس بين الكهنة من جهة – شمّاس، كاهن، أسقف – والرهبان والعلمانيّين من جهة أخرى. سرّ الكهنوت كسرّ قد سلّمه الربّ إلينا على يد الرسل فانتقل إلينا بصورة متّصلة حتّى الآن).
٧ – حضورنا حفلات التكريس
حضورنا حفلات التكريس الرهبانيّ (والسيامات الكهنوتيّة) والاشتراك فيها ليس إذًا حضورًا شكليًّا سطحيًّا بل هو مشاركة معنويّة حقيقيّة وتأييد. إنّه يذكّرنا بصفتنا الكهنوتيّة العامّة نحن أيضًا، وبالتزاماتنا التي التزمناها في المعموديّة، ويدعونا لنجدّد تعهّدنا مع المكرّسين فنساهم هكذا في التجديد ونتزوّد بهمّة جديدة وبمؤونة التزام شخصيّ تذكّي أمانتنا في حياتنا المسيحيّة وشهادتنا للمسيح.
إذا كان الناس يبتعدون عن الله وعن الكنيسة، فلأنّ المسيحيّين بعامّة قد نسوا وأهملوا صفتهم الكهنوتيّة ومهمّتهم كشعب كهنوتيّ، عليه أن يشهد للمسيح بإيمانه وأعماله الصالحة وفرحه وتضحيته. «أنتم ملح العالم». هذا أمر جدّيّ إلى أبعد حدّ. ولكن «إن فسد الملح فبماذا يملّح»؟. في هذه الأيّام بالضبط أصبح العالم بحاجة إلى ناس مكرّسين، في الدير وخارج الدير. وليس التكريس الرهبانيّ أو الكهنوتيّ إلّا للمحافظة على جودة الملح وكيلا ينطفئ النور ولا ينسى الناس الله. يجب أن يحيا الناس لأجل المسيح. ما قيمة المسيحيّة إن كنّا لا نعيش للمسيح! «ونفسي أيضًا تحيا له» (مزمور ٢١: ٢٩).
المرجع: مجلّة النور، العدد الأوّل، كانون الثاني، ١٩٦٧.