الكتاب المقدّس وحياتنا الشخصيّة

الأب إلياس مرقص Monday August 17, 2020 254

 الأب إلياس مرقص

غاية مطالعة كلمة الله

«لقد أتيت لتكون لكم الحياة وتكون لكم أوفر». تلك الحياة الأوفر، حياة الروح القدس المدعوّ إليها كلّ إنسان، هي التي نبتغيها من مطالعة الكتب: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكلّ كلمة تخرج من فم الله». وهكذا فإنّ مطالعة الكلمة تظهر لنا قبل كلّ شيء كطعام يغتذي به الإنسان ليحيا حياة الله.

ذلك هو المعنى الأخير للإعلان الإلهيّ ولكلّ تدبير التجسّد والفداء، لأنّه ما قيمة تجسّد الله وما فاعليّة انحداره إلى صميم طبيعتنا إن كان هذا التجسّد لا يملأنا منه، ولا يحوّلنا إليه؟

إنّ الكتاب ذاته باستعماله رمز الطعام في التعبير عن مختلف طرائق التماسنا لله (والرمز هنا أكثر من رمز) يعلّمنا أنّ هذه الطرائق إنّما هي طرائق اغتراف من حياته تعالى وتحوّل إليه: «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني». «جسدي مأكل حقّ ودمي مشرب حقّ». فمطالعة كلام الله، والعمل بمشيئته، وتناول جسده يوفّر لنا الغذاء الإلهيّ الذي نعيش به حياة الملكوت.

ومطالعة كتاب الله في طريق جهادنا والتماسنا وجهه تعالى لا تقلّ شأنًا عن الطاعة لمشيئته وتناول جسده. فالإعلان الإلهيّ دوّن في الكتاب، وبه تبدأ معرفتنا لله. ولكنّ كلمة الله حيّة فاعلة، فكلّما ازددنا فهمًا لها وإصغاء كلّما ازداد فعلها وحلولها فينا. فمطالعتنا كلمة الله غايتها بالنتيجة حلول الكلمة فينا.

الكتاب المقدّس والآباء

نرى أنّ الآباء لا يخشون المبالغة عند نعتهم الكتاب المقدّس بفردوس الحياة الأبديّة وينبوع الروح القدس، وحقل الملكوت. «إنّه فردوس أشهى من الفردوس الأرضيّ وقد أقامه الله في نفوس المؤمنين في كلّ الأرض وإلى أقصى المسكونة: إلى كلّ الأرض خرج منطقهم وإلى أقاصي المسكونة كلامهم». هكذا يتكلّم القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم. وأيضًا «طوبى للرجل الذي في ناموس الربّ هواه وبشريعته يلهج نهارًا وليلًا لأنّ من يجلس قرب ينبوع الكتاب المقدّس مرتويًا من مياهه على الدوام يتقبّل في نفسه ندى الروح القدس». وأيضًا: «كلام الله أشهى من الذهب ومن الحجر الكريم، إذ فيه نلتمس اللؤلؤة الحقيقيّة الكثيرة الثمن، لؤلؤة الملكوت».

ذلك بأنّ الكتاب المقدّس يحمل إلينا الله. إنّه «رسالة من الله إلى خليقته» كما يقول القدّيس غريغوريوس الكبير. ورسالة الله إعلان عن ذاته. فالكتاب هو «أيقونة» الله على حدّ قول القدّيس يوحنّا الدمشقيّ، الكتاب هو المسيح. يقول القدّيس إيرونيموس إنّنا نتناول جسد المسيح ودمه في الإفخارستيّا ولكنّنا نتناولها أيضًا في الكتاب المقدّس. لذلك كلمة الله حيّة «خارقة إلى مفرق النفس والروح». مطالعة الكتاب بنفس منفتحة تائبة خاشعة هي تطهير وغسل في الأنهار كما يقول الذهبيّ الفم وكأنّه يقول معموديّة. والقدّيس أندراوس الكريتيّ يتكلّم صراحة على الاصطباغ بأقوال المسيح المُحيية كصبغة وعن شربها كمشروب، وهو يرى علاقة بين «العهدين العتيق والجديد معًا» وبين ينبوع الدم والماء الذي فاض من جنب المخلّص على الصليب. هناك إذًا نوع من سرّ (Sacrement) في مطالعة الكتاب. «أنتم أنقياء بسبب الكلام الذي قلته لكم»، ولذلك يقول أوريجنس إنّ اهمال كتاب الله وعدم اقتبال كلامه تعالى بحرص واحترام لا يقلّ إجرامًا عن الاستخفاف بجسد الربّ عينه. وفي «السرّ» تقبّل الله وتحوّل إليه. ولذلك فالكنيسة التي ترتّل قانون أندراوس الكريتيّ في الصوم الكبير نراها تقول عفويًّا عن يوحنّا الذهبيّ الفم يوم عيده إنّه صار «مماثلًا» لله إذ «اغتذى من الطعام الإلهيّ الثلاثيّ» فتحوّل إلى الله. وعلى هذه الصورة وبهذا المعنى العظيم «كلمة الله، كما جاء في أشعياء، لا ترجع إليه فارغة» (٥٥: ١١).

مراحل مطالعة الكتاب المقدّس

الكتاب المقدّس وتدرّج الحياة الروحيّة

ولكنّ هذا العمل السرّيّ العظيم لا يتمّ دفعة واحدة. فالله الذي رعى شعبه إسرائيل مدى أجيال وعصور ينعطف أيضًا إلى ظروف كلّ نفس ويقودها إليه يومًا بعد يوم. وقد علّمنا هو أن نطلب «خبزنا كفافنا» يومًا بعد يوم. وهذا الخبز الجوهريّ سواء أكان كلام الله أو مشيئته او قدساته يرافقنا ويتكيّف حسب ضعفنا في مختلف مراحل حياتنا الروحيّة. فالحياة الروحيّة سعي وصعود لا ينتهي وراء الذي صعد إلى السماء «ولا نهاية لحياته».

والكتاب المقدّس أكثر من غيره يُماشي بصورة ظاهرة تدرّجنا نحو الله، صائرًا لنا لبنًا أو بقولًا أو طعامًا قويًّا حسب الحال. بل إنّ سير النفس كلّه ينعكس ويتراءى في مراحل تفهّمها لمعاني الكتاب وتوغّلها في سرّه وأعماقه، بقدر ما يمكن أن يتراءى سير النفس في سبل الله الحيّ. وبديهيّ أنّنا إن أردنا أن نستعرض مراحل هذا التعمّق التدريجيّ في الكتاب ما استطعنا إلّا الإشارة والتنويه فقط وتقديم بعض الأمثلة عند الإمكان:

المرحلة الأولى

لا بدّ من القول أوّلًا إنّ المرحلة الأولى في تقبّلنا سرّ الكتاب هي أن نقرأ من دون ان نفهم. ولكنّ هذه المطالعة بدون فهم- عدا عن أنّه لا بدّ منها للاطّلاع المادّيّ على الكتاب- لا تخلو من نفع روحيّ كما يقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم إذ تفتح أمامنا مجالًا واسعًا للتقديس. وإلى جانب القراءة المادّيّة، القراءة المتكرّرة المتواصلة التي تغذّي النفس كالمطر الخفيف، لا بدّ من موقف داخليّ أساس يوجّه كلّ سيرنا الروحيّ عبر الكتاب: وهو أن نلتمس الله في الكتاب. فلا نقرأه طلبًا لمعرفة أو حجج أو حلول أو لذة بل طلبًا لوجه يسوع، وكأنّ الكتاب ذاته يعلّمنا ذلك إذ ينتهي متوّجًا بهذا التضرّع والنداء: «تعال أيّها الربّ يسوع».

وهذا اللقاء مع الربّ يتطلّب تجريدًا ذاتيًّا و«نسكًا» لا بدّ منه (ascèse). الكتاب المقدّس غير جميع الكتب ليس هو أعظم جميع الكتب أو أكثرها حكمة أو عمقًا أو ما شابه ذلك، بل هو كتاب آخر بالكلّيّة، مفتاحه منه وفيه. فالحكمة البشريّة لا تفيد شيئًا في فهم الكتاب، والأهواء تشكّل غشاوة على العيون، فلنخلع هذه وتلك فإنّ المكان مقدّس. «نحن داخلون إلى قصر السموات فلندع كلّ فكر عالميّ، كلّ تشتيت وبلبلة، ولندخل في هدوء وصمت عميق». هكذا يتكلّم القدّيس الذهبيّ الفم.. «أعطني يا ربّ أن أكتشف قوّة كتابك»، هكذا يعلّمنا القدّيس إسحق السريانيّ أن نصلّي عند البدء بمطالعة الكتاب. «أعطني أن أكتشفك يا ربّ». وعلى هذه الصورة، وراء الأفكار البسيطة والفهم الأذنيّ السطحيّ ندخل شيئًا فشيئًا إلى أعماق الكتاب حتّى نبلغ إلى الحاضر فيه.

المرحلة الثانية

ولكنّ الطريق طويلة. في البدء يظهر الكتاب كالحجر البارد أو الأرض القاحلة، لأنّ النفس متحجّرة بعد وغير مستعدّة لفهمه. ثمّ تقرأه كقصّة وعِبر فتجد فيه أمثلة حيّة تقتدي بها وعونًا مناسبًا ضدّ الأفكار الشرّيرة وتعزية في الضيقات. لقد سارت النفس في طريق الله وتفهم وصاياه فتجد في الكتاب حكمة «سلوكيّة» كعفّة يوسف ووداعة موسى وصبر أيّوب. فترتاح إليه وتعتاد مطالعته. ولكنّها لا تنتبه بعد كفاية إلى الحضرة الإلهيّة الحيّة التي فيه أو لا تعرف أن تحدّد هذه الحضرة: «عن من يقول النبيّ هذا عن نفسه أم عن واحد آخر؟» وإذا عرفت نبوءات الكتاب وحوادثه وآلام المسيح وقيامته فلا يلتهب قلبها لها لأنّ المسيح لم يأت بعد بنفسه يسير بجانبها ليفسّر لها الكتب.

قد يأتي المسيح باكرًا وقد يتأخّر. فعلينا أن نذكره ونلهج به ونتأمّل تدبيره العجيب ونترقّب ميعاده: إنّه الهذيذ بالكتاب. إنّه الكتاب يرافق حياتنا في طريق هذه الحياة. فلا نقرأ ثمّ ندع الكتاب جانبًا بل نبقيه معنا في فكرنا لاهجين به في قلوبنا، ومن العادات المفيدة جدًّا أن نطالع كلّ صباح آية واحدة نختارها شعارًا ليومنا فتكون زادًا لروحنا طيلة ذلك اليوم. وقد تكون آية بسيطة، أوّل آية تعرض لنا فتكتسب بلاغة روحيّة عجيبة: «كان كورنيليوس رجلًا خائفًا الله يصنع حسنات كثيرة للشعب ويصلّي إلى الله في كلّ حين»، فأقضي يومًا صانعًا حسنات كثيرة مع إخوتي ومصلّيًا إلى الله في كلّ حين. لأنّه كما يقول أشعياء «ينبّه أذني صباحًا فصباحًا لأسمع كالعلماء». وهكذا نتعلّم أن نتذوّق الكتاب وننعم بحلاوته.

المرحلة الثالثة

ثمّ نقرأ كما نسمع، نقرأ فنصغي إلى الصوت الإلهيّ في الكتاب، فتصير الآية موجّهة إلينا بالذات بصورة فريدة. وكأنّ المسيح نفسه يقف أمامي ويقول لي أنا: «أتؤمن بابن الله؟… أؤمن يا ربّ وسجد له..». ونقطع العمل من وقت إلى آخر لنتلو مزمورًا يرفع روحنا إلى الله، فتصبح القراءة صلاة، وهكذا نتمثّل الكتاب شيئًا فشيئًا ونهضم معانيه وآياته بعمق يومًا بعد يوم فتصبح جزءًا من ذهننا. ويعتاد ذهننا أن يستحضر الآيات المناسبات في أوقاتها فيصير الكتاب صديقًا حيًّا حاضرًا في جميع الظروف. هل تداهمنا تجربة أم ضيق أم فتور: «اللّهمّ إلى معونتي يا ربّ أسرع إلى أغاثتي». هل نسقط في خطيئة ونتدنّس: «يا سيّد إن أردت تقدر على أن تطهّرني». هل تزعجنا عواصف الشكّ المريعة: «إذا ثار عليك روح المتسلّط فلا تترك مكانك فإنّ الوداعة تسكّن خطايا عظيمة». هل يُظلم عقلنا ويثقل قلبنا ويحصرنا الضجر واليأس: «يا حارس ماذا من الليل؟». هل ننعم برضى الربّ وتعزيته والاستسلام إليه: «الله نوري ومخلّصي فممّن أخاف.. الربّ يرعاني فلا يعوزني شيء.. ترتيلة جديدة أرتّل لك يا ربّ».

وقد تتّخذ بعض الآيات بروزًا خاصًّا بالنسبة إلينا فتصبح عنوانًا بليغًا لوضعنا الروحيّ ولمصيرنا أمام الآب. لقد أصغينا إليها بكلّ جوارحنا فتسجّلت في جسدنا تصرخ فينا وتُدمي. إنّه الكتاب يجابهنا مجابهة جذريّة رهيبة فيديننا ويكشف مأساتنا في العمق:

« من ذا الذي يقدر على أن يتبيّن زلّاته؟ نقّني من زلّاتي الخفيّة» «باركني أنا أيضًا يا أبتِ.. أما أبقيت لي بركة.. أبركة واحدة لك يا أبتِ.. باركني أنا أيضًا يا أبتِ.. ورفع عيسو صوته وبكى».

إنّه تطهير النفس الذي لا بدّ منه. لقد بدأت النفس تشعر حقًّا بخطيئتها ورجسها أمام قدسيّة عرش الله. فيعكس الكتاب عراكها ضدّ الأهواء وتخبّطها ضدّ ذاتها في الليالي الحالكة. وتتنادى الآيات في سمفونيّة كئيبة تعبّر عن بؤس الأشقياء واستغاثتهم: «إنّ يدك ثقلت عليَّ نهارًا وليلًا وغدوت شقيًّا جدًّا فرجع الألم إلى صدري لكي يقتلني». «آثامي ضيّقت عليّ ولم أستطع أن أبصر. كثرت أكثر من شعر رأسي وقلبي خذلني. ارتضِ يا ربّ بأن تنقذني». «أمعائي أمعائي. جدران قلبي توجعني. إنّ قلبي يرنّ فيّ. اللّهمّ اغفر لي أنا الخاطئ».

وتبدأ النفس تفهم أنّ الإثم والألم والجهاد من نصيبها وأنّ الخلاص هو منحة من الربّ. فتأتيها الآيات المحكمة: «باطل لكم أن تبكّروا إلى القيام وأن تتأخّروا عن الرقاد، أنتم يا من يأكلون خبز المشقّة حين يمنح الربّ أحبّاءه رقادًا..». أنا غبيّ ولا معرفة عندي وصرت كالبهيمة قدّامك.. ومع ذلك فأنا معك في كلّ حين.

وإذا ما تعلّمت النفس الصبر على ذاتها وعرفت قيمة الخلاص توقّفت على الآيات المناسبة: «نجت أنفسنا مثل العصفور من فخّ الصيّادين فالفخّ انكسر ونحن نجونا». «أنا حملتكم على أجنحة النسور وجئت بكم إليّ». وتهلّلت النفس بنعمة الربّ: «كيلًا جيّدًا ملبّدًا مهزوزًا فائضًا يعطون في إحضانكم». «تعظّم نفسي الربّ وتبتهج روحي بالله مخلّصي».

كلّ هذا وكأنّ تجاوبًا صميميًّا يقوم بين النفس والكتاب، فالآيات تعبّر عن حالات النفس وتستوقفها. والنفس عفويًّا تكتشف الآيات كما في مرآة وتخرجها من عندها. يروون أنّ الآباء كانوا يتلون المزامير كلّ مرّة كأنّها من تأليفهم، وأنّ البارّة مريم المصريّة تلت على مسمع الأب زوسيماس مقاطع كاملة من المزامير وهي لم تطالع المزامير في حياتها البتّة. فنحن على صورة الكتاب والكتاب على صورتنا.

زيادة في الوضوح

وكلّما تطهّرت النفس كلّما ازداد الكتاب وضوحًا فعمقت معانيه وارتبطت آياته. فإمّا أن تدرك النفس رمزيّة بعض الآيات غير الظاهرة أوّل الأمر: «مذبحًا من تراب تصنع لي وتذبح عليه محرقاتك» (خروج ٢٠ – ٢٤) مذبحًا من تراب: إنّه تراب الانسحاق والتوبة: «أنكر مقالتي وأندم في التراب». تراب العدم والموت: «إنّك تراب وإلى التراب تعود». «في تراب الموت ألقيتني». المذبح الذي سيحمل إلينا القيامة.

أو أن تنفذ النفس إلى روح الفضيلة العميق أو الحكمة الجذريّة التي في الآيات: «لمّا كنت أكثر حداثة كنت تمنطق ذاتك وتمشي حيث تشاء. ولكن متى شخت فإنّك تمدّ يدك وآخر يمنطقك ويحملك حيث لا تشاء»: إنّه سرّ الطاعة العظيمة أم القداسة والاستشهاد، التي تكبر وتكمل فينا مع الإنسان الجديد: «لتكن مشيئتك لا مشيئتي». «ليس أحد يجعل رقعة من قطعة جديدة على ثوب عتيق لأنّ الملء يأخذ من الثوب فيصير الخرق أردأ»: إنّه الراهب (أو المسيحيّ بعامّة) الذي يطبّق مبادئه الجديدة في عقليّته العتيقة، من دون أن ينكر منطقه العتيق، فيصير الخرق أردأ.

أو أن تدرك النفس الشرعة الأساسيّة للنضال الروحيّ عبر الآيات: «أمّا كأسي فتشربانها وبالصبغة التي أصطبغ بها أنا تصطبغان وأمّا الجلوس عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلّا للذين أعدّ لهم من أبي»: إنّه مبدأ «السينرجيّة» (Synergisme) : أعمل وأجاهد حتّى النهاية كان خلاصي يتوقّف على جهودي ولكنّي في الوقت عينه لا أنتظر الخلاص إلّا كنعمة مجّانيّة من الله.

وتزداد النفس فهمًا وإحساسًا فترى في تاريخ شعب الله تاريخًا خاصًّا بها بالذات، فتعيش كلّ حادثة منه كمرحلة حقيقيّة من حياتها هي. ذبيحة إبراهيم مثلًا: «كما أقدم إبراهيم على ذبح ابنه الوحيد إسحق، فلنذبح عقلنا أيّها الإخوة ونقدّمه ضحيّة للربّ». هذا ما تقوله إحدى القطع الليتورجيّة: إنّه الايمان العظيم بدء نضالنا كلّه وأساسه والتزامنا… «لم يكن في الإحصاء الثاني أحد ممّن عدّهم موسى في الإحصاء الأوّل» (عدد ٢٦: ٦٢ – ٦٥) إنّه موت إنساننا العتيق، كلّ أفكار الإنسان العتيق ورغباته، عبر برّيّة التوبة والنسك.

وتخطو النفس خطوة أخرى فترى ليس فقط رمزيّة هذه الآية أو تلك، أو روح هذه الفضيلة أو تلك، أو هذه الشرعة أو تلك أو تختبر هذه المرحلة أو تلك، بل ترى وحدة الكتاب كلّه عبر حوادثه، وحدته العميقة في تيّاراته الكبرى، في قصد الله الواحد فيه عبر مراحل تحقيقه. فيلتحم العهد القديم بالجديد ويستنير، ويلتقي كلّ شيء في نقطة واحدة، في المسيح محور الكتاب وغايته: «الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة. فإنّ الحياة قد أظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبديّة». وتؤخذ النفس بهذه الحضرة الأبديّة فتحلّ عندها محلّ كلّ مرحلة وكلّ رمزيّة وكلّ فضيلة وشرعة. وإذا هامت النفس بالله واستمرّت تلتمس وجهه أصبحت كلّ مطالعة لها في الكتاب موعدًا مع يسوع.

وفي سفر المزامير خصب خاصّ للقاء الربّ. فإلى جانب المزامير النبويّة الصريحة تتبين النفس في المزامير إجمالًا مزجًا غريبًا بين شخص القارئ وشخص الربّ. فينتقل المعنى المقصود في الآية الواحدة، أو في المقطع الواحد، من الربّ إلى النفس ومن النفس إلى الربّ في سرّ من المبادلة والاتّحاد العجيب بين الإنسان الخاطئ والإله الإنسان.

«سأكون قدّامك بلا معاب واحتفظ من إثمي فيجازيني الربّ حسب برّي»، بالإضافة إلى داود النبيّ إنّ المسيح والنفس ينطقان معًا بهذه الأقوال: المسيح البارّ وحده والصدّيق الذي حمل آثامي ووقف للمحاكمة مكاني: «الخاطئ يرصد الصدّيق ويطلب أن يقتله ولكنّ الربّ لا يتركه في يديه وإذا حوكم لا يدينه» المسيح الذي تبنّى شقائي وعاري ورذل مكاني: «أنت تعرف عاري وخزيي توقّعت نفسي العار والشقاء. في طعامي مرارة وفي عطشي سقوني خلًّا»، ولكنّ الله أقامه فحملني معه في قيامته: «انظر إلى مذلّتي التي أوصلني إليها أعدائي يا رافعي من أبواب الموت»: في الآية ذاتها يتكلّم المسيح تارة والنفس تارة أخرى والاثنان معًا تارة ثالثة. وفي هذه الحركة الديالكتيكيّة بين النفس والمسيح، ترتفع النفس وراء المسيح ومعه من البؤس والحمأة إلى خلاص الربّ ومجده، وتنشد معه بصوت واحد: «لن تدع قدّوسك يرى فسادًا. عرّفتني طرق الحياة. تملأني فرحًا أمام وجهك عن يمينك نعيم إلى الأبد».

أسفار الكتاب وكشف المسيح

كلّ سفر من الأسفار المقدّسة يُظهر المسيح بطريقته إن جاز القول. فبديهيّ القول إنّ سفر العدد يختلف في ذلك عن سفر نشيد الأنشاد مثلًا، وسفر أيّوب عن سفر دانيال النبيّ. ولكن يمكن القول إنّ المسيح الكلمة، بالنسبة إلى النظر النقيّ المؤلّه يظهر في كلّ شيء عبر شفافيّة الكتاب كلّه له. نجد مثالًا على ذلك في نظرة القدّيس مكسيموس المعترف إلى عبارة وردت في رؤيا النبيّ حزقيال في الإصحاح الأوّل من سفره حيث يشاهد شبه الحيوانات والروح والبكرات «وكأنّما كانت البكرة في وسط البكرة» فيرى القدّيس مكسيموس في البكرة ضمن البكرة عالمين الواحد ضمن الآخر: العالم العقليّ غير المحسوس مسجّلًا بكامله في العالم الحسّيّ في رموز بصورة سرّيّة، والعالم الحسّيّ محتويًا بكامله في العالم العقليّ في المعينات العقليّة في الذهن المبسّط، وفي وسط العالمين هنالك في محور كلّ شيء، وصميمه الكلمة المتجسّد الحاضر في كلّ مكان في الكتاب وفي الطبيعة على السواء، غاية للعمل ومبدأ للتأمّل، المسيح «بدء الخليقة» وعلّة الموجودات و«كلمة كلّ شيء».

المرحلة الأخيرة

وهناك مرحلة يحضر فيها المسيح في الكتاب بواسطة الكلمات، إذا جاز القول. إنّ القدّيس باسيليوس الكبير يوصينا بأن نربّي ذهننا في الصلاة «حتّى يكون حسّاسًا لقوّة كلّ كلمة، كما أنّ اللسان حسّاس لطعم المآكل». والأب يوحنّا من كرونستادت يقول إنّ «كلّ كلمة من كلمات الصلاة فيها كنوز الروح القدس مستورة داخلها». فالنفس التي توصّلت إلى هذه الحال لا تطالع الكتاب (أو بعض فصوله القابلة لذلك على الأقلّ) لا تطالع الكتاب على مستوى الكلمات المكتوبة، بل هي تقرأ تجري تحت مستوى الكلمات إذا صحّ التعبير مرتشفة من ينابيعها الخفيّة حياة أبديّة. إنّه انتقال من المستوى العقليّ إلى المستوى القلبيّ الروحيّ الذي، يحوي المستوى العقليّ ولكنّه يتجاوزه فتتّخذ الكلمات، إلى جانب مفهومها العقليّ، طعمًا آخر، وتكشف عن حضرة إلهيّة لا توصف، ومن الطبيعيّ أنّ هذه الحضرة الإلهيّة الأقنوميّة، إذا جاز القول، تبلغ أوجها في اسم الربّ يسوع. ولذلك يأتي وقت تترك النفس فيه الكتاب وتجد في اسم يسوع خلاصة الكتاب كلّه وزبدته. بل الكتاب المكتوب يصبح عبئًا وحاجزًا بين النفس والربّ يسوع: «يا ربّي يسوع المسيح ابن الله ارحمني أنا الخاطئ». إنّه نزول العقل إلى صمت القلب للقاء ربّ الوجود. الكلام من هذا العالم، أمّا كلمة الله الحيّ فيعتلن في الصمت الأزليّ. فإذا طرحنا حقًّا كلّ اهتمام آخر، هناك في صميم قلبنا الصامت حيث صورة الله قائمة يشرق علينا نور وجهه.

وكلّما صلّى المرء صلاة يسوع والتصقت روحه باسمه القدّوس كلّما اشتاق إلى الاتّحاد به الاتّحاد الأكمل في سرّ الإفخارستيّا. وهكذا يبلغ إلى قمّة ما أنعم علينا به الربّ في تنازله العظيم. إنّ تلميذي عمواص اللذين كان الربّ يسوع يفسّر لهما الكتب على الطريق، عند كسر الخبز عرفاه وهكذا يتّخذ كتاب إعلان الله وتنازله إلينا معناه الأخير، ريثما ياتي إلينا الربّ في مجيئه الثاني الأخير.

الكتاب المقدّس والصلاة

لقد عرضنا كلّ ذلك بشكل ناقص اضطرارًا وبشكل اصطناعيّ اضطرارًا. ومن البديهيّ أنّ واقع الحياة الروحيّة لا يُحصر ولا يُجزّأ ويُصنّف. فهي تسير بجميع عناصرها المتكاملة ومراحلها المتداخلة فمطالعة الكتاب مثلًا تقود إلى الصلاة والصلاة تعود فتغتذي من مطالعة الكتاب. اليوم تشتاق النفس إلى صمت القلب، وغدًا تعود لتنقّب في الكتاب وتستنير بحكمته. ومن البديهيّ أيضًا أنّ ملازمة الكتاب عقيمة هي إن لم تقترن بالطاعة لأحكامه التي وحدها تُدخلنا إلى فهمه فهمًا حياتيًّا غير وهميّ. وكذلك فإنّ الإفخارستيّا هي قمّة ولكنّها في الوقت عينه سند الطريق ووسيلته وغايته.

الكتاب المقدّس في الليتورجيا

النفس التي اتّبعت وجه الربّ وكرّست حياتها للقائه لا تشقّ طريقها إليه وحدها بل مع الكنيسة جمعاء، محفوظة في وحدة التقليد الحيّ تنهل منه وتتفاعل معه. الحياة الروحيّة كلّها تُعاش معًا. نأكل الخبز الواحد لنشترك في الجسد الواحد. وكذلك الكتاب وإن كانت مطالعته بشكل فرديّ فهو يطالع على كلّ حال مع الكنيسة وفي الكنيسة. «ألعلّك تفهم ما أنت تقرأ؟ كيف يمكنني إن لم يرشدني أحد». النفس التي تطالع الكتاب كنسيًّا، مؤسّسة على عقائد الإيمان ومستنيرة بشروح الآباء إنّما تطيع روح الكتاب. لذلك نراها تختبر وتكتشف تلقائيًّا ما اختبره الآباء وقالوه في شرح الكتاب قبل أن تطّلع عليه، وكلّ اختبار روحيّ جديد لها في الكتاب يأتي منطبقًا على التقليد وكأنّ التقليد ينبع منها تقليدًا حيًّا، وهو بالفعل ينبع من الروح الواحد الذي في الكنيسة وفينا وفي الكتاب.

وفي الليتورجيا بخاصّة تحقّق النفس كلّ ذلك. ففي الليتورجيا نجتمع أوّلًا حول الكتاب. لأنّ الملّة تتألّف أوّلًا حول الكتاب مبدأ خلاصها. والليتورجيا تستحضر لنا الكتاب حيًّا، مختارة ومرتبة مقاطعه ترتيبًا موحى به وموحيًا يشركنا بحياة الربّ على مدار السنة. وتنشد قطع الآباء التي تعلّق على الكتاب وتبسط أمامنا أعمق رموزه ومعانيه، فكأنّها قطع من الأبديّة تنزل إلينا كما قال لي صديق. بل الليتورجيا تستحضر لنا صاحب الكتاب نفسه لأنّنا، بعد أن حضر المسيح وأفاض علينا من روحه لسنا بعد في عهد قديم، بل الروح حاضر معنا إلى الأبد يفسّر لنا الكتاب ويحييه ويحويه. ولذلك فعندما يدخل الكاهن بالإنجيل في الدورة الصغيرة ونحن نقف حوله فكأنّنا نقف حول المسيح، بالضبط كما كان الرسل والتلاميذ يلتفّون حوله في الجليل.. وعندما يتلو الكاهن الإنجيل فكأنّنا نتلقّى كلام الربّ من فمه بالذات، كلام قوّة ونعمة وشفاء وليس كلّ ذلك وغيره في القدّاس الإلهيّ سوى مرحلة، سوى تحضيرنا لاقتبال المسيح والاتّحاد به في سرّ الإفخارستيّا مشتركين في موته وقيامته. وهكذا تنتهي مطالعة الكتاب وتتحوّل إلى سرّ كنسيّ. وهكذا لا ترجع كلمة الله إليه فارغة، بل ترجع حاملة إيّانا إلى أحضان الثالوث قربانًا وتسبيحًا.

 

المرجع: مجلّة النور، العدد الخامس، آذار، ١٩٦٣.

 

0 Shares
0 Shares
Tweet
Share