الأرشمندريت إلياس مرقص
- «قد نظرنا النور الحقيقيّ».
- نرتّلها في نهاية القدّاس الإلهيّ تتويجًا لكلّ الخدم الليتورجيّة. لأنّنا، عبر هذه الخدم، إنّما نسعى – يجب أن نسعى – إلى النور. إنّ في طقوسنا الأرثوذكسيّة «موضوعًا» (thème) إلى جانب المواضيع الأخرى[1] وشبه «خطّ»، هو موضوع النور وخطّ النور يقودنا، في شبه مسيرة، إلى رؤية النور الإلهيّ، النور الحقيقيّ.
- فالله نور.. والشيطان (والخطيئة) ظلمة.. وفي حياتنا الروحيّة نحن نجاهد بنعمة المسيح، مدّلجين من الظلمة إلى النور: «أنا قد جئت نورًا إلى العالم حتّى كلّ من يؤمن بي لا يمكث في الظلام» (يو ١٢ : ٤٦)، لأنّه «نور الناس» (يو ١ : ٤). ولذلك نصرخ في الطقوس: «من الليل تبتكر روحي إليك يا الله»، طالبين أنّ «نستحقّ التمتّع الذي لا يدنى منه».
- وإذا ما انتبهنا إلى ذكر النور في صلواتنا الطقسيّة نلاحظه في كلّ الخدم تقريبًا، في شيء من التدرّج، ابتداءً من صلاة نصف الليل وحتّى القدّاس الإلهيّ.
- في صلاة نصف الليل ننطلق من الظلمة شاخصين إلى نور الربّ: «ها هو الختن يأتي في نصف الليل». فيا نفسي «أضيئي مصباحك»، ويا الله «أنر عيني ذهننا»، «متوقّعين حضور نهار ابنك الوحيد» «لأنّك أنت هو النور الحقيقيّ». ونصلّي من أجل الأموات الماكثين في الظلمة: «أسكنهم في مكان نيّر».
- وفي صلاة السحر نتابع مسيرتنا من الظلمة إلى النور: «إنّ العدو أجلسني في الظلمة مثل الموتى منذ الدهر». «قلت أن يُشرق من الظلمة نور». «افتح حدقتي ذهننا» و«أشرق في قلوبنا نور معرفة لاهوتك الذي لا يضمحلّ»، فهل تُعرف في الظلمة عجائبك؟… ونصعد في مسيرة الكاطافاسيات والقوانين السحريّة[2] حتّى نصل إلى العذراء أمّ النور: «إلى والدة الإله وأمّ النور بالتسابيح نعظّم مكرّمين»، ثمّ «المجد لك يا مُظهِرِ النور»[3]….
- وفي الساعات نواصل توسّلاتنا التماسًا للاستنارة: «أضئ بوجهك على عبدك»، «لأنّك أطلعت شمس العدل» و«أيّها المسيح النور الحقيقيّ الذي ينير ويقدّس كلّ إنسان آتٍ إلى العالم أرسم علينا نور وجهك يا ربّ لكي ننظر به النور الذي لا يُدنى منه» و«اجرح نفوسنا بشوقك حتّى إذا كنّا ناظرين إليك في كلّ حين ومهتدين بالنور الذي ينبعث منك ومحدّقين فيك أيّها النور الأزليّ الذي لا يدنى منه نرفع لك بغير فتور الشكر والحمد…». وإذا تُلي الإنجيل يقول الكاهن إفشين قبل التلاوة الذي ينتهي هكذا: «لأنّك أنت استنارة نفوسنا وأجسادنا…»
- وفي صلاة الغروب نمجّد الله «اللابس النور مثل الثوب» ونطلب إليه أن «سربلنا بأسلحة النور» و«أنر أعين قلوبنا إلى معرفة حقّك»، «حتّى إذا كنّا مستنيرين بهذيذ وصاياك ننهض بنفس مبتهجة إلى تمجيد صلاحك». وفي نهايتها «فإنّ عينيّ قد أبصرتا خلاصك نورًا لاستعلان الأمم…». هذا عدا الترتيلة الأساسيّة: «يا نورًا بهيًّا لقدس مجد الآب…» التي فيها، انطلاقًا من النور المسائيّ وظهور الابن نور الآب يمجّد العالم الثالوث القدّوس[4].
- وعندما لا نقيم القدّاس الإلهيّ نصلّي صلاة «المكارزمي» (أي التطويبات) وكأنّها بديل عن القدّاس الإلهيّ، إذا جاز القول! فنلاحظ فيها قنداق عيد التجلّي حيث يظهر المسيح الإله كشعاع الآب: «تجلّيت أيّها المسيح الإله وحسبما وسع تلاميذك شاهدوا مجدك حتّى عندما يعاينونك مصلوبًا يفطنوا أنّ آلامك طوعًا باختيارك ويكرزوا للعالم أنّك أنت بالحقيقة شعاع الآب». وكأن هذا القدّاس الإلهيّ خلاصة لغاية القدّاس الإلهيّ الذي نستحضر فيه تدبير المسيح بكامله ونقتبله… نورًا حقيقيًّا.
- هذا ومن ناحية أخرى نلاحظ أنّ ذكر النور هذا في الكتب الطقسيّة يتناوله من وجوهٍ كثيرة بدءًا من الله كنور، والقدّيسين كنور ومرورًا بأوامر الله وانتقالنا من الظلمة إلى النور، حتّى معاينتنا للنور وتسربلنا وتألّهنا بالنور بل حتّى استنارة الخليقة كلّها بالنور، وحاثًّا إيّانا على تأمّله والاشتياق إليه والاشتراك فيه لنصير «أبناء النور» (يو ١٢: ٣٥ – ٣٦).
- فيرد ذكر الله: «النور المثلّث الشعاع» «الذي لا بدء له»، و«الذي بغير زمان» و«الذي لا يغيب» و«لا تدركه العقول» و«معدن النور» و«نار النور»، كلّ ذلك تعبيرًا عن «سرّ النور البسيط المثلّث ضياؤه»، والنور «الحلو»، (كقول العذراء «يا نوري الحلو»..).
- أمّا العذراء فتظهر «باب النور» و«سحابة النور»، «المستوعبة نورًا»، و«مسكن النور» و«حاوية الضياء شعاع الآب» و«الأوفر نقاءً من النور».. ونظير الملائكة والقدّيسين «آنية واسعةً لشعاع الثالوث المقدّس» و«مصابيح عقليّة حاملة الضياء»، «يشرقون المسيح الشمس للذين في الظلام»… أمّا الأنبياء فقد «صنعوا عقولهم نبويًّا قابلة الإشراقات الإلهيّة فحصلوا نورًا»، والشهداء المستنيرون «حصلوا كواكب كثيرة الضياء باعثة شعاعات الصبر، ينيرون كلّ النفوس بضياء جهاداتهم»…
- هذا عدا عن ذكر نور القيامة التي «أضاءت الدنيا»، و«نور الكهنوت» الذي استنار به رؤساء الكهنة لامعين به، ونور قول الله «المصباح اللامع» و«ضياء التوبة» و«نور الصليب… وضياء الطهارة»…
- وأخيرًا ذكر الخليقة التي «بجهادات الرسل استنارات قاطبة»، مع «كلّ الموجودات» و«كلّ الأرضيّين» و«كلّ طبيعة ناطقة أُبدعت بهاءً ثانيًا لشعاعه فاستناروا بجميع الإشراقات»…
- من دون أن ننسى الأموات فنضرع أن «رتّب في ضيائك الذي لا يشوبه مساء الذين نقلتهم..» و«هب لهم أن يستنيروا ببهاء جمالك»..
- ولكنّنا في واقعنا البشريّ نحن في الظلمة، في ظلمة الخطيئة، فنصرخ: «إحفظنا من قتام رقاد الخطيئة وأنرني أنا المسودّ جدًّا»، «أنا المطروح في ظلمة الخطيئة المدلهمّ»، و«أنقذيني يا عذراء من الظلمة الواجبة» و«أنّ الغشاوة الموضوعة على عيني نفسي تمنعني من أن أنظر إلى شعاعاتك» و«أشرقي ضياءً في القلوب المظلمة».
- أمّا الانتقال من الظلمة فشرطه الأساس هو حفظ الوصايا: «إنّ أوامرك نور على الأرض»، «حتّى إذا سلكت في طريق وصاياك حسنًا كما في نهار…» «تجعلني مستحقًّا لمشاهدة أشعّتك».. فلا شيء يقوم مقام حفظ الوصايا. إنّها أسلحة النور: «سربلني بأسلحة النور». إنّ المزمور ١١٨ الذي نصلّيه كل يوم على مدار السنة يذكر حفظ الوصايا أكثر من مائة وسبعين مرّة وإلّا فيكون لنا عيون ولا نبصر.. ولن تعني لنا كلمة نور شيئًا (كلام الله وفروضه ومشيئته وناموسه وشهاداته وأحكامه..).
- إلّا أنّ معاينة النور تبقى عبر كلّ حال نعمة من الله، إذ «بنورك نعاين النور». «بنورك الذي هو الروح نعاين النور الذي هو الابن». «فارسم علينا نور وجهك لكي ننظر به النور الذي لا يُدنى منه». «فنشبع من عذوبة ضياء مجدك الكلّيّ الشرف» و«عذوبة مسلسل نورك» و«حلاوة شعاع بهائك» «مستلذّين ببهاء شعاعاته».
- ونلاحظ وجه الإفعام: «أفعمني من إشراقاتك» و«من النور الأزليّ اجعلني ممتلئًا»، «ألبسوني حلل النور»، «نوّر نفسي واجعلها بهيّة بالحلل النورانيّة المضيئة».
- فنصير أبناء النور ليس هذا النور المخلوق الذي نراه بل النور الإلهيّ غير المخلوق: «أوضحني شريكًا ببهائك» و«للّمعان المؤلّه»، و«أوضحني هيكلًا لشعاعك المثلّث الضياء».
- إنّها غاية كلّ ما تقدّم… أن ننظر حقيقة النور الإلهيّ لنصير حقيقة أبناء النور. إنّ تقليد كنيستنا الأرثوذكسيّة، كنيسة النور[5]، يشدّد على حقيقة ذلك وبخاصّة عبر ممارسة لصلاة اسم يسوع. فالقدّيس غريغوريوس بالاماس يشرح لنا كيف نُنزِل الذهن إلى القلب، مركز الكيان، بعد أن نتنقّى بالنسك والصمت، وكيف، حينئذٍ، يتلقّى الكيان كلّه، (ذهنًا وقلبًا وجسدًا)، الروح القدس، فيعاين نور الله، ويعاين ذاته نورًا، ويصير نورًا….
- الأمر بعيد عن أن يكون سهلًا وقريبًا. فهو يتطلّب تهيئة حياةٍ وذلك في سعي حثيث للتحرّر من الأهواء وعيشٍ حقيقيّ للإنجيل ووصاياه وتواضع كيانيّ… وعلاوة على ذلك فلا بدّ، في القدّاس الإلهيّ، من أن ننتقل إلى العالم الآخر، إلى «مملكة الآب والابن والروح القدس» و«نطرح عنّا كلّ اهتمام دنيويّ» ونضع قلوبنا فوق، ونمتدّ، في نقاوة كلّيّة، إلى معاينة الله… حتّى نصير أهلًا وأن نرتّل حقًّا: «قد نظرنا النور الحقيقيّ»..
وعلى كلّ حال يجب ألّا نسعى إلى ذلك قبل أوانه.. إلّا إذا شاء الربّ..
كتب القدّيس ذيونيسيوس الأريوباغيّ في هذا المجال (في كتابه التراتبيّة السماويّة I : ١) «كلّ عطيّة صالحة وكلّ موهبة كاملة منحدرة من العلو من لدنك يا أبا الأنوار». ولكن كلّ ما ينحدر من لدن الآب ويكشف لنا نوره، يُدفع منه حينما يأتينا بسخاء، يجعلنا بالمقابل، لكونه قوّةً موحّدة، ننشدّ إلى العلو ويحوّلنا إلى وحدانيّة الآب المجمِّع وإلى بساطته المؤلّهة، لأنّ «كلّ شيء منه وله» «يقول الكتاب».
المرجع : مجلّة النور، العدد الرابع، ١٩٩٥.
[1] انظر مقالنا «في بعض وجوه الصلاة» في مجلّة النور، العدد الثالث، السنة ٥١، العام ١٩٩٥، الصفحة ١٠٤.
[2] انظر مقالنا «مراحل الحياة الروحيّة كما توحي به الكاطافاسيّات» – في مجلّة النور، العدد السادس، السنة ٤٩، العام ١٩٩٣، الصفحة ٢٤٦.
[3] ولا ننسى الفوطاغوجيكات في الصوم الكبير ومعناها «مُظهِرَة النور» «أيّها الرب أرسل نورك الأزليّ وأنر عيني قلبي الخفيّتين» وغيرها…
[4] كتب القدّيس ذيونيسيوس الأريوباغيّ في هذا المجال (في كتابه التراتبيّة السماويّة I : ١) «كلّ عطيّة صالحة وكلّ موهبة كاملة منحدرة من العلو من لدنك يا أبا الأنوار». ولكن كلّ ما ينحدر من لدن الآب ويكشف لنا نوره، يُدفع منه حينما يأتينا بسخاء، يجعلنا بالمقابل، لكونه قوّةً موحّدة، ننشدّ إلى العلو ويحوّلنا إلى وحدانيّة الآب المجمِّع وإلى بساطته المؤلّهة، لأنّ «كلّ شيء منه وله» «يقول الكتاب».
[5] من المعروف أنّ كنيستنا هي كنيسة النور ولذا يترتّب على من تعلّم رسم الأيقونات أن يرسم أوّلًا، بحسب التقليد، أيقونة التجلّي.