الأرشمندريت إلياس مرقص
رئيس دير القدّيس جاورجيوس، دير الحرف
كيف لنا أن نتكلّم على سرّ الصليب؟ وكيف نستطيع أن نتكلّم على الصليب إن لم نختبره، إن لم نعشه حقًّا؟
إذ يبدو لي أنّ الصليب في حياتنا نحن ليس هو موت المرء مهزوءًا به ومصلوبًا. كما أنّه ليس مجرّد إنكار الذات على صعيد السلوك والإماتات والتضحية وما إلى ذلك. ليس سرّ الصليب فقط كما يعرضونه عادة، مكتفين بالصعيد الأخلاقيّ، وهو صعيد يبقى أفقيًّا، وتاليًا سطحيًّا.
لقد قال يسوع: «من أهلك نفسه يخلّصها». فالموضوع إذًا إهلاك النفس، إهلاك في العمق، إهلاك كيانيّ إذا جاز القول. إهلاك الذات، إهلاك الأنا في أعماقه. «المسيح أفرغ ذاته»[1]..
إنّه نوع من موت. فالقيامة تفترض الموت. إنّ لفظة قيامة تعني قيامة من شيء ما، من وضع معيّن، وهنا من الموت. ليست هي بالنسبة إلينا قيامة من موت جسديّ، بل من موت آخر. لقد تمّت بالصليب، ولذا تفترض الصليب كموت. فالصليب إذًا هو موت بالنسبة إلينا، موت عن أنفسنا. ولكّنه في الوقت ذاته قيامة. إنّه يساوي القيامة… الصليب = القيامة. المسيح «وطئ الموت بالموت».
هذا السرّ العظيم هو سرّ الحياة. نحن خلقنا من العدم. حياتنا انطلقت من العدم. لأنّها انحرفت في ما بعد، يبدو لي أنّه علينا أن نعود إلى شيء من العدم لنعود وننطلق منه إلى الحياة. لا بدّ (ربّما) من المرور بالعدم… «ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه؟»، فلا بدّ لخلاص النفس من تخلّيها عن كلّ شيء، عن كلّ هذا العالم، وربّما عن الحياة ذاتها. لا بدّ من إهلاكها لتعبر إلى الحياة (الحياة الحقّ، «الحياة الأوفر»).
يقول القدّيس مكسيموس المعترف ما معناه إنّ من يعرف سرّ الصليب يعرف سرّ قيام الكون. فاللَّه حفظ الكون، وهو يحفظه بقوّة سرّ صليب المسيح. ولذا إذا أراد المؤمنون أن «يشاركوا الطبيعة الإلهيّة» – كما يترتّب عليهم – مساهمين بحفظ الكون، فعليهم الدخول في سرّ الصليب الذي هو سرّ المسيح.
وهذا الواجب يترتّب (منطقيًّا) على الرؤساء، أوّلًا، اقتداء بالمسيح. إنّ الرؤساء، من جراء طبيعة عملهم ومسؤوليّتهم، معطون أكثر من غيرهم أن يدخلوا سرّ الصليب وذلك لمعاناتهم الرئاسة وشقاء الرئاسة.
إلّا أنّ حياة جميع المؤمنين، في كلّ أبعادها، تجري تحت علامة الصليب. ألا يردّد داود النبيّ قوله: «ذبيحة التسبيح»… و«ذبيحة البرّ»… وأليس الروح المنسحق لا يرذله الله: الروح المنسحق؟ فبُعد الذبيحة والانسحاق يتمّ على صعيد الروح والكيان… المسيح كَسَرَ نفسه… فينبغي أن يُكسر شيء فينا، أن يُسحق ويُطحن، أن يموت، ينبغي لبذار الموت الذي فينا أن يموت…
أمّا إذا اكتفينا بالصعيد الأخلاقيّ (من دون الكيان) فنبقى في مجال الألم والعذاب فقط، العذاب السلبيّ، من دون القيامة. فالأخلاق لا تؤدّي إلى القيامة… لا نستطيع…
أمّا بعد، فيجدر بنا ألّا نيأس… إنّ بطرس الرسول أنكر المسيح ثلاث مرّات. أنكر حتّى إنّه يعرفه… ولمّا عاتبه المسيح برقّة قائلًا: «أتحبّني؟»، سأله ثلاثًا في نوع من تدرّج، في شبه نزول أو تنازل: أوّلًا: «أتحبّني أكثر من هؤلاء»، ثمّ «أتحبّني؟»، ثمّ «أتودّني؟». وكأنّه يريد أن يقول إنّه يكتفي – للتكفير عن الإنكار- بأدنى مرتبة من المحبّة. «ولكن متى شخت فإنّك تمدّ يديك وآخر يمنطقك ويذهب بك حيث لا تشاء… مشيرًا إلى أيّة ميتة كان مزمعًا أن يمجّد الله بها»: ميتة الصليب… وكان الشرط الوحيد لمسيرته الخلاصيّة هذه: «أنت اتبعني»…
إلى المنتهى اتبعني…
المرجع : مجلّة النور، العدد الثالث، ٢٠٠٠.
[1] يقول اللّاهوتيّون إنّ صليب المسيح لم يكن بالدرجة الأولى في أوجاعه. فآلام الصليب تضاهيها بل تفوقها آلام جسديّة أخرى أكثر إيلامًا بكثير. إنّما كان الصليب أوّلًا في تخلّي المسيح عن لاهوته، عن مجده، كان في إفراغ ذاته، في كسر ذاته…