الأرشمندريت إلياس مرقص
ب – نقد المذهب الماركسيّ
لا شكّ في أنّ في الماركسيّة نواحي حسنة ومفيدة لا يجوز نكرانها، وأنّ هناك قيمًا روحيّة أصيلة تفعل في كثيرين من الشيوعيّين، بل تكمن في بنيان الشيوعيّة.
الشيوعيّة قد أرهفت، عمليًّا، الحسّ بالاستغلال والظلم الذي يصيب القسم الأكبر من الإنسانيّة وتاليًا أنمت ونشرت فكرة العدالة الاجتماعيّة وضرورة المحاربة من أجلها. وأكثر من ذلك فإنّ الشيوعيّة أوضحت بقوّة فساد العالم الحاليّ المبنيّ على المال وضرورة هدمه لبناء عالم جديد مكانه، ففتحت آفاقًا جديدة واسعة لتقدّم الإنسانيّة في هذا الطريق.
الأبحاث الشيوعيّة ونظريّاتها الحدسيّة عن الإنسان وتاريخ الإنسان قد تعمّقت في معرفة الإنسان وأوضاعه وتجلّت به قيمة العمل الإنسانيّ، كما أنّها دلّلت على مدى تأثير الناحية الاقتصاديّة المادّيّة على بقيّة نواحي الحياة غير المادّيّة.
وثبتت الشيوعيّة كقوّة ذات فعاليّة عظيمة في حقل العمل والتحقيق، ثمّ برزت فيها وفي رجالها أسمى معانى التضحية إذ إنّهم لا يكترثون لمشاكل الإنسان الفرديّة، مشاكل السعادة والشقاء لكلّ إنسان على حدة، بل يضحّون بسعادة الإنسان لعشرات السنين حتّى يتسنّى تحقيق سعادة المجتمع بكامله.
هذا عدا حسنات مفهوم الشيوعيّة للملكيّة من حيث إنّه يقصر الملكيّة على حاجات الاستعمال والاستهلاك ويبعد الاستغلال ويعتق الإنسان، إلى حدّ ما، من قيود الملكيّة كهدف لا كواسطة للحياة.
ولعمري ما من أحد يستطيع بإخلاص أن يكون يومًا من الأيّام مع حزب المال والمدافعين عن المال ضدّ المساكين والبؤساء. وما من أحد يستطيع أن ينكر أنّ مبدأ الحرّيّة الاقتصاديّة (Libéralisme) والمجتمع البورجوازيّ يخدمان بصورة غير مباشرة و«ريائيّة» مصالح وأطماع أعداء الكرامة والحرّيّة الإنسانيّة.
فالعالم الحديث فاسد ومسوّس لدرجة كبيرة وجوهريّة لا بدّ معها من انهيار البناء كلّه لتنبت النبتات الجديدة مكانه، وقد حان الوقت لنتحرك في عمل التجديد ونتطلّع إلى الافق الذي ينفتح أمامنا ويتّسع يومًا بعد يوم. غير أنّ في المذهب الماركسيّ نقاطًا أساسيّة خاطئة ومضرّة وبعيدة عن الواقع.
١- في ما يتعلق بالإنسان والمجتمع:
مفهوم الماركسيّة للإنسان يفرغه من «الملء» الذي فيه. إذ يعتبر أن ليس هناك كيان أصليّ للإنسان سوى كيانه المادّيّ، وأنّ كلّ نشاطاته غير المادّيّة ليست سوى مظاهر أو نتائج لنشاطه المادّيّ. فيصبح الإنسان بالأصل ما يأكل، والحبّ تجاذب الخلايا الجنسيّة، والنفس من وظائف البروتوبلاسما… وكلّ حياة الإنسان النفسيّة والروحيّة تفسّر على هذا الأساس المادّيّ، ولا يعود فيه بعد ذلك من سرّ..
لا أحد ينكر أهمّيّة الإنتاج المادّيّ بالنسبة إلى شخصيّة الإنسان ومدى تأثير وضعه الاقتصاديّ عليه وعلى المجتمع. ولكن أليس هذا سطح الإنسان لا جوهره؟ لماذا يكون النشاط الإنتاجيّ المادّيّ هو الذي يميّزنا عن الحيوان وهو النشاط الأصليّ في الإنسان ومنه ينتج النشاط الروحيّ وليس العكس بالعكس؟ هل الإنسان مجرّد آلة وحياته الداخليّة ناتجة من تدوير هذه الآلة؟ وهل بالحقيقة يمكن تفسير الروح، أو إنكار وجوده، بهذه الطريقة وهذه السهولة؟ (هذه النقطة مهمّة جدًّا بالنسبة إلى النتائح العمليّة التي تتأتّى عنها).
للماركسيّة كلّ الحقّ في أن تريد تغيير الإنسان وإصلاحه من طريق تنظيم اقتصاديّ واجتماعيّ سليم. ولكنّها تخطىء عندما تعتقد بإمكان تغيير الإنسان من الخارج، بصورة آليّة. لا شكّ في أنّ الوضع الاقتصاديّ يساعد على تحسين الإنسان، ولكنّ الداخل هو الذي يغيّر الخارج لا العكس بالعكس، والنزوات المختلفة الكامنة فيه هي فيه ومنه لا من الوضع الاجتماعيّ الخارجيّ رغم تداخلهما. فكلّ إصلاح حقيقيّ وشامل للإنسانيّة يجب أن يشمل، بالإضافة إلى المجتمع، الإنسان نفسه من الداخل.
تعتبر الماركسيّة فوق كلّ شيء مجموعة البشر (Collectivité) وهي تضحّي في سبيل المجموعة بالشخص الإنسانيّ وبكلّ ما يخصّه. فهي مثلًا تَحذَر وتخشى الكيان الشخصيّ كما تَحذَر كيان المجموعات الصغيرة التي تحيط بالفرد كالعائلة والمجموعة المهنيّة الاختصاصيّة والقوميّة.. ومن هنا نفسّر معاداة الماركسيّة للعالِم النفسانيّ فرويد ونظريّاته ولكلّ ما يتعلّق بالتحليل النفسيّ، وكذلك معاداتها كلّ المبادئ الوجوديّة (Existentialismes) إلحاديّة كانت أو مسيحيّة.. فأين يصبح الإنسان بالنتيجة في وسط الجماعة البشريّة العمياء هذه؟.. الحرّيّة الحقيقيّة الوحيدة في نظر الماركسيّة هي الحرّيّة الجماعيّة، حرّيّة الجماعة. أمّا الحرّيّة الشخصيّة، حرّيّة الفرد، فيما أنّ الفرد هو كائن اجتماعيّ أساسًا وجوهريًّا، فحرّيّته الفرديّة تبدو للماركسيّة كشيء وهميّ وخطر في آن واحد. ولذلك تبقى حرّيّته هذه خاضعة دومًا للاقتصاد ولأهداف المجتمع الاقتصاديّة ومشروطة بهذا النظام.
ليس لدى الماركسيّة نظريّة في الأخلاق الشخصيّة الذاتيّة (Morale Subjective) لتحسين الإنسان مبنيّة على الضمير الفرديّ. فخير الإنسان كفرد غير مكترث به ومحتقر. وليس عندها أيضًا أخلاق عامّة، أخلاق مطلقة وقائمة بحدّ ذاتها، فالأخلاق مشروطة ومكيّفة بالعلاقات والأوضاع الإنتاجيّة والاقتصاديّة القائمة وتتغيّر بتغيّرها. أمّا الأخلاق التي تؤمن بها الماركسيّة فهي أخلاق ثوريّة أي في سبيل الثورة. فكلّ ما يطابق مصالح الثورة العمّاليّة هو أخلاقيّ وكلّ ما يعارضها غير أخلاقيّ. وما هو أخلاقيّ اليوم يمكن أن يصبح غير أخلاقيّ غدًا. «إنّنا نستنتج أخلاقنا من الحوادث» (لينين). والغاية تبرّر الواسطة. وقال لينين أيضًا «يجب أن نستعمل كلّ الوسائط والحيل والطرائق غير المشروعة وأن نكون مستعدّين لإخفاء الحقيقة». (كتابه «في الدين»).
وهكذا نرى أنّ عدم اعتبار قيمة الشخص الإنسانيّ وأصالته يؤدّي إلى إفراغه من «داخليّته» وفقدانه كلّ أسس أخلاقيّة ثابتة، وخنق حرّيّته الشخصيّة وتسلّط الجماعة عليه بشكل تعسّفيّ، وتسلّط الاقتصاد الدائم… ما عاد هناك قيمة لكرامة الإنسان بحدّ ذاتها. وإذا ربح الإنسان الشيوعيّ من الناحية الاقتصاديّة، فهو يصبح من ناحية أخرى «أعدم» الناس بالحقيقة.
٢- العائلة في المذهب الماركسيّ
من نتائج المفهوم الماركسيّ للإنسان والمجتمع الاعتقاد أن ليس هنالك عائلة بموجب حقّ طبيعيّ أو حقّ إلهيّ. أي ليس هناك شكل معيّن للعائلة يكون وحده مطابقًا للأخلاق. فأنجلز مؤسّس الماركسيّة إلى جانب ماركس، يشيد بجمال الحبّ الحرّ ويعتبر الطلاق طبيعيًّا. ويحلّل الإجهاض ويعتبر الأولاد قضيّة الدولة. غير أنّ الدولة السوفياتيّة التي بدأت تطبّق هذه النظريات عادت واضطرّت في العام ١٩٣٧ إلى التراجع عنها بانتظار يوم تصبح فيه النساء السوفياتيّات بمستوى عالٍ من الوعي الاشتراكيّ يمكّنهنّ من استعمال الحرّيّة المسموح لهنّ بها، من دون الإضرار بالمجتمع ومن دون إحجامهنّ عن إنجاب الأولاد.
٣- في ما يتعلّق بالمادّيّة
هنا المجال واسع لا يمكن خوضه الآن. لكنّنا سنقول إنّ المادّيّة كمبدأ فلسفيّ في الماركسيّة قد أتتها كردّ فعل ضدّ المثاليّة (Idéalisme). جاء ماركس وأنجلز وفيورباخ، الذي تأثّر به الأولان، في وقت كانت مثاليّة هيغل مسيطرة فيه فلسفيًّا. والمثاليّة تعتقد أنّ الوجود الأصليّ هو وجود «الفكرة» (L’Idée). الفكرة هي الحقيقة المطلقة وبها يبتدئ الكون وينتهي مارًّا في طريق تجارب المادّة. أمّا المادّة فليس لها كيان أصليّ. فردّ الفعل الشيوعيّ كان أن عكس الأمر تمامًا فكانت أصالة الوجود للمادّة دون الفكرة ودون الروح. والسؤال هنا هو: ألم يتجاوز ردّ الفعل هذا هدفه ويقع في الخطأ المضادّ؟. لِمَ لا نوفّق بين المادّة والروح ونعترف بحقيقة الاثنين معًا؟. كما أنّ هناك واقعًا مادّيًّا هناك أيضًا واقع روحيّ لا يقلّ «واقعيّة» عن الواقع المادّيّ. يدرك الإنسان الواقع الروحيّ بالاختبار الداخليّ ولو كان هذا الواقع لا ينتج صناعيًّا، بل يتوصّل الإنسان إلى يقين بوجوده لا يقلّ يقينًا عن اليقين العلميّ.. المسيحيّة توفّق بين المادّة والروح وتؤمن بحقيقة الاثنين مع أوّليّة الروح على المادّة وخضوع المادّة للروح: (في سرّ التجسّد الإلهيّ تتجلّى حقيقة ذلك وتتبلور).
٤- في ما يتعلّق بالمادّيّة الديالكتيكيّة
مادّيّة الماركسيّة مادّيّة خاصّة تنفي ذاتها بذاتها بالنتيجة. إنّها المادّيّة الديالكتيكيّة التي تسير و(تصير) بموجب قانون داخليّ حتميّ في طريق التطوّر المستمرّ نحو تحقيق أهدافها الطبيعيّة العضويّة. (رأينا أنّ هذا التطوّر إلى الأمام يتمّ من طريق تصادم الأوضاع المتناقضة ثمّ حلول أوضاع جديدة ثمّ تصادم جديد وهكذا.. ومحرّك هذا التصادم وهذا المصير هو الطبقات وصراع الطبقات). فهذه الديالكتيكيّة المادّيّة أو المادّيّة الديالكتيكيّة غير ممكنة بالمعنى الذي تفهم به الماركسيّة المادّة. وبقدر ما تكون الماركسيّة فلسفة ديالكتيكيّة فهي لا تستطيع أن تكون مادّيّة. لأنّ طريقة الديالكتيكيّة هي الطريقة الرياضيّة الفكريّة المثاليّة Idéalisme بكلّ معنى الكلمة.
الماركسيّة تؤمن بالمادّيّة العلميّة التجريبيّة، مادّة العلماء. ولكنّ مادّة العلماء هذه ليست ديالكتيكيّة بشكل من الأشكال. المادّة التي يعرفها العلماء بالمجاهر ويحلّلونها في المخابر مادّة كمّيّة وميكانيكيّة ولا يمكننا أن نلمس فيها أيّة ديالكتيكيّة. ومنها يتّضح أنّ الماركسيّة ليست مادّيّة بالمعنى الملموس ولكن بالمعنى الفلسفيّ الميتافيزيكيّ. وهي ككلّ فلسفة تنطلق من مبادئ أوّليّة مفروضة (Principes à priori) لا تناقش لأنّها معتبرة من البديهيّات. إذًا فالأصحّ أنّ في الماركسيّة: المادّيّة والديالكتيكيّة المادّيّة كفلسفة أوّليّة وميتافيزيكيّة والديالكتيكيّة كفهم مثاليّ لمصير الإنسان الاجتماعيّ وكطريقة عمل ثوريّة، لا المادّيّة الديالكتيكيّة.
وتجدر الملاحظة هنا أنّ الخلط بين المادّيّة والديالكتيكيّة هو من أهمّ أسباب قوّة الماركسيّة العلميّة. فحسب مقتضيات الحاجة يستطيع الماركسيّون أن يرجعوا تارة إلى الحجج الخاصّة بالمادّيّة، وطورًا إلى الحجج الخاصّة بالديالكتيكيّة التي هي فكرة ومثاليّة بعيدة عن المادّيّة. وهكذا تستند الشيوعية في الوقت عينه أوّلًا إلى بساطة المادّة ومتانتها، هذه الحقيقة الأوّليّة الملموسة والثابتة في نظر الشعب، وثانيًا إلى غنى الفكرة وقوّتها، هذه الحقيقة العليا الحماسيّة. فإذا انتقدت ما في مادّيّة الماركسيّة من ضيق وخطأ أجابوك بأنّك تتكلّم على المادّيّة العاديّة الكمّيّة والميكانيكيّة بينما مادّيّة الماركسيّة هي ديالكتيكيّة، وإذا تعرّضت للديالكتيكيّة مبيّنًا مثلًا أنّها تفترض «تعالي» الفكر الروح، أجابوك بأنّك تتكلّم على الديالكتيكيّة المثاليّة الفكريّة، في حين أنّ ديالكتيكيّة الماركسيّة هي مادّيّة.. هنا تكمن قوّة الشيوعيّة وتأثيرها في حقل العمل الثوريّ..
وقبل أن نختم ملاحظاتنا حول الديالكتيكيّة المادّيّة، يمكن التساؤل أوّلًا هل أنّ المتناقضات والتصادم والمصير الدائم- أي النسبيّ- يصحّ أن يكون أصل الحقيقة والقانون الأساس للفكر؟ ثمّ عندما تصل البشريّة إلى المرحلة الثابتة حيث لا طبقات ولا صراع طبقات ولا مصير، كيف سيستمرّ مثل هذا المجتمع بدون تصادمات تسير به إلى الأمام؟…
٥- في ما يتعلّق بالمادّيّة التاريخية
كتب أنجلز: «ماركس وأنا نحمل جزئيًّا مسؤوليّة إعطاء الشباب الناحية الاقتصاديّة وزنًا أكثر ممّا يجب إعطاؤها أحيانًا». وسبب ذلك عائد: «لأنّه كان علينا تجاه أعدائنا التأكيد على المبدأ الجوهريّ الذي ينكرونه، ولهذا لم نكن نجد الوقت أو المكان أو المناسبة لإنصاف بقيّة العوامل التي تشترك في العمل المتفاعل». ( رسالة إلى ج. بلوخ العام ١٨٩٠). «فلذلك من الصعب البرهان مثلًا على أنّ الحرّيّة المطلقة التي كانوا يتمتّعون بها في إنكلترا بشأن حقّ الوصيّة وبالعكس الحدّ من هذه الحرّيّة إلى حدّ كبير في فرنسا لم يكن لهما في كلّ خصائصهما سوى أسباب اقتصاديّة» (رسالته إلى كونراد شميت في ٢٧ تشرين ١٨٩٠).
وكتب أيضًا في (أبحاث فلسفيّة) «أساس الحوادث ليس في أكثر الأحيان سوى عنصر اقتصاديّ سلبيّ». فإذا كان هذا يعني أنّ الإنسان يحتاج إلى بعض الشروط الاقتصاديّة ليمارس كلّيًّا بعض النشاطات العليا، أو أنّ بعض الأوضاع الاقتصاديّة تجعل من المستحيل كلّ نشاط روحيّ أصيلًا، فإنّنا متّفقون كلّ الاتّفاق مع المادّيّة التاريخيّة المفهومة على هذا الأساس.
غير أنّ أنجلز عاد فكتب العام ١٨٩٤. «نعتبر أنّ الأوضاع الاقتصاديّة هي التي تشرط في النهاية Conditionne en dernière instance التطوّر التاريخيّ». هذا الكلام لا يدخل في مجال ما يبرهن عليه. نعم الأوضاع الاقتصاديّة تسبّب في كثير من الأحيان الحوادث التاريخيّة ولكن لا دائمًا. فهناك عوامل عديدة لا تحصى تتفاعل مع بعضها البعض. مثلًا فإنّه رغم رأي ماركس الذي كان يعتقد أنّ الأوضاع الاقتصاديّة في روسيا لم تكن تساعد على قيام الثورة العالميّة فيها فقد تمّت الثورة فيها. وذلك بفضل شخصيّة لينين وتأثيره… واكتشف أنجلز العام ١٨٩٤ أنّ من السذاجة بمكان أن نجعل من قيصر أو نابليون مجرّد نتاج للقوى الاقتصاديّة. كما كتب العام ١٨٩٠ أنّ البلاد المتأخّرة اقتصاديًّا تستطيع أن تسبق بقيّة الدول في المجال الفلسفيّ (رسالته إلى كونراد شميت). لا يستطيع الإنسان أن يفلسف إلّا بعد حدّ أدنى من الراحة المادّيّة ولكنّ تعديلات التكوين الاقتصاديّ لا تستطيع أن تؤكّد التكوين الفكريّ، وليس هناك من علاقة شديدة تامّة بين الأولى والثاني. وليس من المعقول إذًا أن نتكلّم على دين أو أخلاق أو رسم أو حقوق تكون خاصّة فقط بالاقتصاد التجاريّ أو بالاقتصاد الصناعيّ أو الرأسماليّ أو الاشتراكيّ…
ومن ناحية ثانية صراع الطبقات– هو العامل الأساس في المادّيّة التاريخية– ويتطلّب أن تعي الطبقة وجودها كطبقة ليتمّ الصراع. فهذا الوعي عنصر فكريّ مثاليّ لا يدخل في المادّيّة التاريخيّة.
ثمّ إنّ المنطق يفترض أنّ إلغاء الطبقات الاجتماعيّة في نهاية مقدّمة التاريخ، كما تعتقد الشيوعيّة، سينتج منه إلغاء التاريخ ذاته إذ سوف لا يكون حينئذٍ عامل صراع الطبقات لكي «يصير» التاريخ..
ومن يضمن أنّ الدولة ستحلّ من تلقاء ذاتها عند بلوغ تلك المرحلة؟ بل من يضمن ألّا يصبح الحاكمون طبقة أخرى فوق الشعب؟. وهل يستبعد عندئذٍ استغلال هذه الطبقة للطبقات الأخرى واستغلال الإنسان للإنسان ؟.. وهذا المجتمع المقبل المثاليّ بدون طبقات ولا دولة ولا قيود ولا شرّ.. أليس حلمًا خياليًّا؟ وهل يدلّ سير التاريخ حتّى الآن على أنّنا سائرون نحو مجتمع بدون طبقات وهل تدلّ معرفة الإنسان على أنّ تاريخه هو تاريخ هندسيّ: الآن كلّه أسود ثمّ كلّه أبيض، الآن شرّ وعبوديّة ثمّ خير وحرّيّة… أم أنّ الخير والشرّ والحرّيّة والعبوديّة كامنة في نفس الإنسان تتصارع في داخله في كلّ وقت بين نور وظلام إلى نهاية التاريخ…؟
٦- في ما يتعلّق بالملكيّة
«ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه» – «اكنزوا لكم كنوزًا في السماء» – « إن لم يزهد في جميع أمواله لا يستطيع أن يكون لي تلميذًا».. المسيحيّة لا تعترف أصلًا بالملكيّة الفرديّة إلّا للأشياء اللازمة لحفظ الحياة وتنميتها فقط. لكنّ القياس الأخير ليس الإنتاج كما تعتقد الماركسيّة، إنّما حاجة الإنسان إلى الحياة. ولذلك فالملكيّة هي «حقّ استعمال الأشياء» بالعمل نملك. ولكن ليس العمل الأساس الوحيد للملكيّة. الأساس الآخر والأخير هو لكي أستطيع أن أعيش ملء حياتي، المادّيّة والروحيّة، وكلّ أشياء الدنيا ليست إلّا وسيلة لهذه الغاية. العمل أساس ولا شكّ في حياة الإنسان على الأرض وقد قال بولس الرسول «من لا يعمل لا يأكل»، لكن كوسيلة أي أنّي أعمل لأعيش ولا أعيش لأعمل.
ومن ناحية ثانية يجب قدر الإمكان أن نجمع بين احترام العمل واحترام العامل. فالعمل الإجباريّ مثلًا: كنقل العمّال جبرًا للعمل في معسكرات أشغال شاقّة، بعد فصلهم عن عائلاتهم، ينافي احترام العمل وتقديسه لأنّه يحتقر العامل.
٧ – في ما يتعلّق بالدين
ماركس وأنجلز كانا ملحدين قبل أن يكونا شيوعيّين. إنّهما (والشيوعيّة) لم يعرفا يومًا الدين إلّا من الخارج. تفسير الدين والتأثيرات الاجتماعيّة والتاريخيّة الخارجيّة يبدو تفسيرًا جذّابًا، لكنّه في الواقع ساذج لا يفسّر شيئًا من الخصائص الطبيعيّة للحياة الدينيّة الداخليّة. الشيوعيّة ذاتها- مهما تقول في هذا الأمر- قد أصبحت في الواقع دينًا، لها كلّ خصائص ومظاهر الحياة الدينيّة والإيمان بكلّ معنى الكلمة. فموقفها من الدين موقف غير عارف، لها منه مواقف تكتيكيّة ومؤقّتة، إنّه موقف محاربة: لا يهمّ الماركسيّة فحوى المسيحيّة ومضمونها الذاتيّ بل كونها دينًا.
فالدين ليس عقيدة فلسفيّة نظريّة. إنّما هو حقيقة واقعة. الله ليس فكرة بل حقيقة المسيحيّة ليست نظريّات بل حوادث: في العالم شرّ ومقابل الشرّ حادث المسيح والصلب والقيامة يجاوب على حادث الشرّ، الخلاص مقابل الهلاك. وقائع نلمسها: مثلًا المحبّة حقيقة كبرى لا يمكن تجاهلها كما تفعل الماركسيّة، والصلاة مهمّة جدًّا في حياة الإنسان والملحدون أيضًا يصلّون على طريقتهم. أن تستغلّ المسيحيّة والدين لظلم البشر ليس حجّة وليس الدين مسؤولًا عنه: واقع الشرّ الموجود في الإنسان مسؤول عنه وعن كلّ استغلال. أيّ مبدأ أو عقيدة أو مذهب لم يستغلّ من قبل الفاسدين؟ الشيوعيّة ذاتها ألا يوجد من يستغلّها كلّ يوم؟.. والخلاصة أنّ الدين ليس نتيجة أوضاع اقتصاديّة بل أصل وسبب في طبيبعة الإنسان منذ أن كان الإنسان وإلى أن يكون ولا يمكن تجاهله أو ردّه.
ح – الموقف الذي يمكن استخلاصه ممّا تقدّم
الأمر يتطلّب كثيرًا من التروّي العقليّ. ما عادت الجرأة في أيّامنا الحاضرة أن يقول المرء عن نفسه شيوعيًّا، وربّما كان العكس الصحيح. ولكن من ناحية أخرى لا بدّ قبل كلّ شيء من الاعتراف برياء «العالم الحرّ» أو الذي يسمّي نفسه حرًّا… لا بدّ من الاعتراف برياء وفساد العالم الرأسماليّ وضرورة تغييره وهدمه. والقضيّة ليست بالضرورة قضيّة انتقاء بين الرأسماليّة والشيوعيّة. إنّما يتّضح منذ الآن أنّ المعركة النهائيّة ستكون بين ثلاثة وثلاثة فقط لا موقف وسطيّ بينهما: – الشيوعيّة الكلّيّة – الدفاع عن الرأسماليّة والبورجوازيّة – وطريق ثالث يتمركز بالإجمال حول عقليّة الروحيّة المسيحيّة، أي حول قيم الحرّيّة والكرامة الإنسانيّة والعدل كشروط أوّلية للبناء.
وهذا الطريق الثالث يقضي أوّلًا: ثورة روحيّة، روحيّة في الجوهر وبعمق تستمدّ حماسها من قانون الكمال والعنف الداخليّ المتواصل الذي يقتضيه ملكوت الله.. وثانيًا بدون أيّ تحفظ الحكم على النظام الرأسماليّ الحاليّ وقلبه بكلّ الوسائل والطرائق البشريّة (يقول إمانويل مونيه حتّى بالوسائل غير المشروعة أي الفعّالة). ذلك بأنّ الثورة شيء مؤرّخ يجب أن يتمّ في الزمان، لا فكرة خياليّة. غير أنّ هذه الثورة الثانية تنبعث من الأولى، ولا تحيا إلّا بها. لا نسعى إلى قلب الحرّيّة الاقتصاديّة الحاليّة إلّا لتحرير الحرّيّة الروحيّة والسياسيّة الإنسانيّة.
ويجب أن يكون واضحًا أنّ الغاية ليست إيجاد عالم سعيد كامل، إنّما عالم «إنسانيّ» يوفّر كلّ الإمكانيّات لمتطلّبات حياة الإنسان الجوهريّة. أمّا النواقص التي لا شكّ ستبقى في العالم نقبلها كواقع. واقع الروح الذي يعيش في الجسد، واقع الأزليّ الذي يتحقّق في التاريخ الظرفيّ، مع العلم بأنّ ليس ما يلزمنا أن نلوّث ونلصق الأبديّ الذي فينا بالأشكال المائتة التي تلبسها الروح.
وعلى كلّ حال يجب أن نجاهد في سبيل العالم الإنسانيّ هذا. يجب أن تجاهد جميع العناصر القادرة على الجهاد، العناصر الواعية والشابّة والمخلصة ويجب أن تتّصل هذه العناصر بعضها ببعض وتحتكّ وتتجاوب. لا تحارب سيستماتيكيّ بل استعداد للاستماع والمناقشة وتفهّم وجهات النظر المختلفة، ثمّ العمل معًا: لأنّ القضيّة ليست قضيّة فلسفة بل قضيّة حياة والهدف واحد. محاربة الشرّ والظلم والاستبداد وإعادة الكرامة والحرّيّة للإنسان وتمكينه من تحقيق إنسانيّته. وهذه الإنسانيّة واحدة أيضًا لا نستطيع أن نغيّر من واقعها مهما اختلفنا وتفلسفنا حولها، وواقعها يشعر به كلّ إنسان فيعرف أنّ له كيانًا إنسانيًّا بميزاته الخاصّة وعدم محدوديّته وأسراره العميقة: روح متجسّد لا يكتمل إلّا بالعمل والعراك والألم والجهاد المتواصل في هذه الحياة.
وأخيرًا ففي التجسّد الإلهيّ تتبلور حقيقة الإنسان وطريقه: الإله المتجسّد الذي يؤلّه الإنسان، سماء وأرض متّحدتان معًا بالألم والدم، جهاد حتّى الموت لنصل إلى القيامة… الذين يكرّسون حياتهم حتّى الموت في خدمة الإنسانيّة هم وحدهم يجاهدون الجهاد الحسن. ولعمري إنّ هؤلاء – أيًّا كانوا – هم أقرب الناس إلى المسيح وإلى حقيقة الإنسان الكامل في المسيح من حيث يدرون ولا يدرون، ولعلّ أكثرهم لا يدرون…
المرجع: مجلّة النور، العدد الثامن، تشرين الأوّل، ١٩٦٥.