الأرشمندريت إلياس مرقص
قبل تلاوة الإنجيل في القدّاس الإلهيّ، أو في الخدم الليتورجيّة، ترتِّب الكنيسة هذا الإعلان: «الحكمة فلنستقم ونسمع الإنجيل المقدّس»، أو: «من أجل أن نكون مستحقّين لسماع الإنجيل المقدّس». وفي الأساس يتلو الكاهن الإفشين التالي: «أيّها السيّد المحبّ البشر أشرق في قلوبنا نور معرفتك الإلهيّة الذي لا يضمحلّ، وافتح حدقتي ذهننا لإدراك تعاليم إنجيلك، وضع فينا خوف وصاياك، لكي ندوس كلّ الشهوات الجسديّة ونستسير سيرة روحيّة، معتقدين وعاملين كلّ ما يرضيك، لأنّك أنت استنارة نفوسنا وأجسادنا أيّها المسيح الإله…». والقدّيس إسحق السريانيّ يوصي بأن نسأل الله قبل البدء بمطالعة الإنجيل «أن نحسّ بقوّة الكلام» الذي نقرأ. هذا يحثّنا على أن نسمع الإنجيل المقدّس بعد الاستعداد المناسب له، وأن نتوخّى الغاية التي ترمي الكنيسة إلى تحقيقها في حياتنا من جرّاء قراءة الإنجيل.
فإلى جانب «الاستقامة» و«الاستحقاق» «لسماع» الإنجيل المقدّس، أي الإصغاء إليه لطاعته، من الواضح أنّنا، في الإفشين المشار إليه، نطلب إلى الله أن يفعل في حياتنا وكياننا: «أن يشرق في قلوبنا نور معرفته». وأن «تستنير نفوسنا وأجسادنا». فالقلب هو مركز الحياة والكيان، والجسد يشترك مع النفس في حياة الروح والاستنارة. ذلك بأنّ «المعرفة» التي نطلبها هي أكثر من معرفة العقل. إنّنا نطلب «نور المعرفة» الذي يشرق في القلب، ذلك النور«الذي لا يضمحلّ»، والذي ينير النفس والجسد كليهما. إنّها معرفة الله معرفة حيّة كيانيّة. وهذا يدخل في سياق القدّاس الإلهيّ كلّه الذي يرمي إلى تقديس حياتنا في العمق.
ولكنّ ذلك لا يتمّ إلّا بالسيرة النقيّة. لذا نرى الإفشين المذكور يسأل السيّد بإلحاح أن «افتح حدقتي ذهننا لإدراك تعاليمك الإنجيليّة، وضع فينا خوف وصاياك لكي ندوس كلّ الشهوات الجسديّة، ونستسير سيرة روحيّة، معتقدين وعاملين كل ما يرضيك». إذ ينبغي التوصّل إلى اقتناء حالة – لا موقف فكريّ فقط [1]– حالة تخوّلنا الإحساس بالمعاني العميقة، وبالقوّة السرّيّة التي تكمن في الآيات المقدّسة.
وللقدّيس إسحق السريانيّ قول بليغ في هذا الشأن. يقول: «في كلّ قول من أقوال الكتاب فتّش عن المعنى العميق الذي يحويه لكيما تدخل إلى عمق فكر القدّيسين. إن الذين تقودهم النعمة يعاينون دومًا نوعًا من شعاع روحيّ تستضيء به الآيات المقدّسة، ويتيح للذهن أن يميّز الأقوال الخارجيّة عن الأفكار العميقة الموحاة إلى النفس. من يقرأ هذه الآيات الغنيّة المعنى ويهمل التعمّق فيها لا يُغني قلبه، بل تنطفئ فيه القوّة المقدّسة التي تفعم القلب الفهيم حقًّا بمذاقٍ لذيذ. النفس الموهوبة بالروح تتبيّن الفكر ذا القوّة الروحيّة، فتتمثّل مضمونه بشوق وحرارة. ليس لكلّ إنسان أن يُبنى بالأقوال الإلهيّة التي تكمن فيها قوّة سرّيّة عظيمة. فالفكر السماويّ يتطلّب قلبًا منسلخًا عن الأرض». فإذا انفتحنا للنعمة الإلهيّة باستحقاق نُعطى أن نذوق حلاوة الله المذّخرة في كلامه قوّة السرّيّة.
يقول الأرشمندريت صفروني ساخاروف: «لم تكن قليلة المرّات التي لمست فيها الأقوال النازلة من العلى قلوب الناس كالرعد، وأضاءت ضمائرهم كالبرق». ولكنّ الأقوال المقدّسة قد تكرّرت عبر الأجيال من دون أن تعار الانتباه اللائق بها، وربّما لهذا فقدت قوّتها، تلك القوّة التي كانت لها أصلًا عند الأنبياء والرسل والقدّيسين.
لذا يجب أن نزيد انتباهنا ووعينا لئلّا نبقى غرباء خارج السرّ. ولا بدّ لنا من أن نشير هنا إلى تأثير العقلانيّة الغربيّة التي تكون أغلب الأحيان عائقًا كبيرًا في هذا المضمار. «فاللاهوت الأكاديميّ المقرون بالإيمان المعاش يسفر عن نتائج مباركة. لكن بإمكانه بسهولة أن ينحطّ إلى مستوى النظريّة المجرّدة، ويتوقف عن أن يكون ما نجده في حياة الرسل والأنبياء والآباء، أي عمل الله المباشر فينا».
وهذا الاحتمال وارد بتأثير النهج الغربيّ، لأنّ من يتوغّل في درس الكتاب «علميًّا» وعقلانيًّا، في مستوى نقديّة العقل والمنطق، كما هو جارٍ الآن في الغرب، من دون أن يحافظ بجدّ واستماتة على الوجه الروحيّ المعاش، غالبًا ما يؤخذ بلذّة تلك الدراسة، وكثيرًا ما لا يعود يحسّ بفقدان ذلك الوجه.
وهذا ما يدعو القدّيس ثيوفانس الحبيس إلى القول بأنّ «من يقرأ لكي يعرف ولا يمتلئ ندمًا وتوجّعًا على خطاياه يصير معجبًا بذاته». فيبدو أنّ التوجّع على الخطايا، بكلّ ما يعني ذلك من حرقة قلب وانسحاق ودموع… لا بدّ منه للإقامة في حالة من الصفاء والرقّة تتيح للمرء أن يحسّ بكنوز معاني الكتاب.
هذا ويذهب القدّيس كاسيانوس إلى القول: «على الراهب الذي يبتغي الوصول إلى معرفة الكتاب المقدّس ألّا يجهد نفسه في مطالعة المفسّرين والمعلّقين على الكتاب، بل أن يوجّه بالحريّ كلّ عناية روحه وحرارة قلبه إلى التنقية من الرذائل الجسديّة، إذ عندما يتحرّر منها يسقط حجاب الأهواء عن حدقتي القلب، ومتى استعادت هاتان صحّتهما فمجرّد قراءة الكتاب تكفيهما لمعاينة المعرفة الحقيقيّة، ولا حاجة لهما إلى دروس المعلّقين. ذلك نظير عيون الجسد التي لا حاجة لها إلى من يعلّمها النظر، إن كانت سالمة من الماء الزرقاء أو العمى».
وقد يكون من المناسب أيضًا التذكير بوجوب عدم التباعد عن تقليد كنيستنا الأرثوذكسيّة الذي يوصي بأن ينزل الذهن إلى القلب. فإنّ القدّيس ثيوفانس الحبيس يذهب إلى القول بأنّ «سرّ الحياة الروحيّة يكمن كلّه في حصر الذهن في القلب، ومن هناك الشخوص إلى الله الحاضر فيه غير منظور، ومناجاته. فالذهن هو في الرأس، والعقلانيّون والذين يتعاطون العلم يعيشون دائمًا في الرأس ويعانون ضجيج أفكار لا ينقطع. فما دام الذهن في الرأس فإنّه لا يستطيع البقاء على ذكر الله، بل يبتعد عن هذا الذكر كلّ لحظة. وفقط عندما يتّحد الذهن بالقلب يقدر الإنسان على أن يوحّد ذاته ويتقدّم في ذكره لله ويقيم فيه».
نقول هذا كلّه لا إقصاءً «لعلم الكتاب» الذي لا حاجة بنا إلى تأكيد فائدته، بل (وعلاوةً عليه) تنبيهًا إلى ما نحن بحاجة ماسّة إليه من الحياة الروحيّة الأصيلة تمشّيًا مع تقليدنا المقدّس، مقابل التيّارات الغربيّة المتكاثرة هذه الأيّام.
___________________
يقول القدّيس إسحق السريانيّ: «إنّه لا يكفي أن تكون لنا أفكار صالحة، بل «حالة» ثابتة».
المرجع : مجلّة النور، العدد السادس، ١٩٩٥.
[1] يقول القدّيس إسحق السريانيّ: «إنّه لا يكفي أن تكون لنا أفكار صالحة، بل «حالة» ثابتة».