مرسيل مرقص
١ – الله تحديدًا أساس وسرّ كل شيء. هو الأول والنهاية، الألف والياء، السبب والغاية. إنّ معرفته هي معرفة سرّ الحياة. فهل يمكن معرفة الله؟
٢ – يعلّموننا في الكتب أنّ الله روح، أزليّ، ضابط الكلّ، كلّ المعرفة… إلى غيرها من صفاته، ولكن هل أنّ معرفة صفات الله هي معرفته؟ إنّنا نعرف كثيرين من الأشخاص على هذه الصورة. نعرف اسمهم وصفاتهم وأخلاقهم لكن من بعيد. فهل نعرفهم مثلما نعرف أصدقاءنا الذين نخالطهم وتتّصل حياتنا بحياتهم؟ كلّا. إذًا فمعرفتنا لهم معرفة ناقصة. لماذا؟ لأنّ الإنسان لا يعرف بعقله فقط ومن بعيد، بل بقلبه أيضًا. هو يعرف حقًّا بالاختبار وباللقاء الشخصيّ. أي بالاتّصال. العقل ليس كلّ الحياة والمعرفة بالعقل ليست كلّ المعرفة. إلى جانب المعرفة العقليّة الجافة هناك المعرفة الشخصيّة الحياتيّة.
٣ – ولذلك ليس من برهان عقليّ قطعيّ عن وجود الله. هناك براهين عقليّة كثيرة يوردونها في الكتب عن وجود الله. ولكن في الحقيقة هذه البراهين غير مقنعة. لأنّ العقل وحده، في مثل هذه الأمور، لا يقنع. لا بدّ من أن أرى بنفسي مثل توما. وعندئذِ أحصل لا على الاقتناع فقط بل على اليقين بوجود الله. اليقين غير المبنيّ على المحاكمة والمنطق، ولكن على المشاهدة الذاتيّة المباشرة. كيف نعرف مثلًا أنّ منظرًا ما جميل أو أنّ قطعة موسيقيّة جميلة؟ أبالبرهان؟ كلّا: إنّنا نرى جمال المنظر والموسيقى ونلمسه مباشرة كأمر واقع لا حاجة إلى أن يقنعنا به أحد، ولا فائدة من أن يناقشنا به أحد.
٤ – لكنّ الكثيرين منّا لا يرون جمال المنظر أو جمال الموسيقى. الكثيرون يمرّون أمام شمس الغروب البديعة ولا ينظرون إليها. والذين لا يتذوّقون جمال الموسيقى عددهم يفوق بكثير عدد الصمّ الحقيقيّين. لماذا؟ لأنّهم لم يستعدّوا داخليًّا ولم يهيّئوا أنفسهم لتقبّل هذا النوع من الجمال، وبهذا يغلقون على أنفسهم باب عالم بكامله. وكذلك أيضًا فإنّ التعرّف إلى الله، الذي هو مصدر كلّ جمال، والشعور بحضوره الإلهيّ يقتضي منّا أن نهيّئ أنفسنا ونعدّها لهذا الأمر. إنّه أمر غير بسيط. بخاصّة وأنّ الإنسان مخلوق جسديّ ومادّيّ أيضًا لا روحيّ فقط، وفي حياته بالعالم تطغي عليه حواسّه بسهولة، وعيشه الجسديّ يلهيه عن حياته غير الحسّيّة، الروحيّة، عدا عن أنّ الخطيئة والشهوة وتعظيم الذات تعميه عن التفتيش عن الله. كيف يمكننا أن نرى الله إذا لم نُزِل عن أعيننا الغشاوة وكيف يمكننا أن نلتقي مع الله غذا لم نفتح قلبنا لاستقباله؟ لأنّ القلب هو مكان اللقاء. وقد دلّنا المسيح على الطريق حين قال: «طوبى لأنقياء القلب فإنّهم لله يعاينون».
٥ – ولا بدّ من أنّ كلًّا منّا قد اختبر إلى حدّ ما في حياته معاينة الله. ولا حاجة لذلك إلى علم اللاهوت أو غيره. «لقد أخفيت ذلك عن ذوي الحكمة والدهاء وكشفته للأطفال» (لو ١٠ – ٢١) والمعاينة لا تعني مشاهدة ذات الله المباشرة. لأنّ الإنسان لا يستطيع أن يحتمل هذه المشاهدة. كما أنّ الإنسان لا يحتمل النظر إلى الشمس مباشرة، غير أنّه يشعر بنور الشمس ودفئها- والشعور بنور الشمس وحرارتها أهمّ وأنفع للحياة من مشاهدة الشمس- وكذلك فقد أعطي لنا، إذا أردنا، أن نشعر ونعيش في نور الله ودفئه: إنّه «ملكوت» الله، أي كلّ ما يشعّ منه من بركات ونعم وسلام ومجد وقوى إلهيّة، نشعر بها في بعض لحظات حياتنا، وفي هذه اللحظات نؤمن فعلًا في أعماقنا بوجود الله.
٦ – لا نستطيع أن نعبّر تمامًا أو نصف وصفًا كاملًا اختبارنا هذا لوجود الله لأنّه اختبار شخصيّ داخليّ، وككلّ أمر شخصيّ يصعب إيضاحه للغير. لكنّنا نعرف أنّنا نختبر اختبارًا واحدًا. كلّ منّا، وحده، يشعر بالشيء ذاته الذي يشعر به الآخر: الأحاسيس عينها والحالة الروحيّة ذاتها. إنّ آباء الكنيسة والقدّيسين العديدين الذين استطاعوا أن يكتبوا شيئًا عن اختباراتهم الروحيّة على مرّ العصور قد اتّفقوا جميعهم في وصف هذه الأحاسيس الواحدة وهذه الحياة الواحدة. نعم إنّ الاختبار الروحيّ يختلف بين شخص وآخر في قوّته ودرجة عمقه. ولكن لا في نوعه وماهيّته. إنّه نوع واحد من الاختبار.
٧ – إذا حاولنا أن نصف هذا الاختبار يمكننا أن نقول:
أ – عندما نختبر وجود الله، فكأنّنا نشعر بحضور اللامنظور. الله يظهر لنا كشيء خفيّ مجهول. إنّه شعور غريب خاصّ ولكن يمكن للإنسان أن يعرف مثله. فمثلًا إذا كنّا أمام غرفة مغلقة لا أحد يعرف ما فيها ولا يمكن فتحها مطلقًا، نعرف أنّ هنالك شيئًا في هذه الغرفة ولكن لا نعرف ماذا. وكذلك فإنّنا نكتشف الله كشيء غير واضح وغامض وسرّيّ ولكن حاضر. نشعر بالله كشيء عميق فينا وقريب جدًّا، وبالوقت عينه بعيد. كشيء متدانٍ ومتعالٍ جدًّا في آن واحد. كما كتب المغبوط أوغسطينوس مخاطبًا الله: «لقد ناديتني من بعيد وقد سمعت كما يسمع المرء في قلبه».
ب – ولكنّنا عندما نعرف الله حقًّا، لا نعرفه كشيء عامّ ومجرّد بل نشعر بحضور حيّ وشخصيّ، بحقيقة إلهيّة لها ميزاتها وصفاتها. نشعر بالقدرة والقوّة التي تفوق الإنسان ونشعر بالإله الحاضر في كلّ مكان والمالئ الكلّ، ونعرف أنّ الله المعين والمعزّي، والله إله الجميع الذي به يزول كلّ جنس وعِرق وشِقاق وخصام… وإذا تعمّقنا في الاختبار نعرف أيضًا الله القدّوس، الكلّيّ الكمال والكلّيّ المحبّة كما نعرف مجد الله وجماله الذي لا يوصف وعظمته التي لا حدّ لها… إلى غيرها من صفاته. فما عادت هذه الصفات مجرّد كلمات لا توحي بشيء بل تصبح حقائق حيّة نتلمّسها فنرتجف لها ونسجد..
ج – لأنّ معرفة الله لا تكون صحيحة إلّا إذا أصبحت معرفة عبادة لأنّ الإنسان لا يستطيع عندئذٍ إلّا أن يسجد ويعبد بكلّ ذاته. بل يتخلّى عن ذاته ويرتمي بكلّيّته في حَركة ارتمائيّة كلّيّة من الانسحاق والسجود والعبادة أمام الله تعالى. وفي هذه اللحظات يخاطب الإنسان الله مثل توما الرسول بقوله: ربّي وإلهي. إذ لا يعود الله إلهًا عامًّا ومجرّد فكرة بل إلهي أنا، ربّي وإلهي.
د – ويخرج الإنسان من هذا الاختبار كأنّه إنسان جديد: إذ ينال سلامًا غريبًا (لا كسلام العالم) وقوّة داخليّة هادئة وثابتة وغبطة لا توصف. ويشعر في صميمه أنّه في الحقّ وأنّ هذا هو الطريق وهذه هي الحياة. وهو كيان الإنسان الأصليّ والحقيقيّ، كيانه في الله. ولذلك يشعر أنّه في الحقّ وأنّ هذا هو الطريق وانّ هذه هي الحياة.
٨ – لكنّ هذه اللحظات المباركة من حياتنا تزول سريعًا ولا تبقى منها سوى الذكرى وحتّى الذكرى أيضًا تزول. ذلك بأنّ الإنسان في ظروفه المادّيّة لا يستطيع أن يبقى على الدوام شاعرًا بحضرة الله ومختبرًا وجوده تعالى. هذا بالإضافة إلى الخطيئة التي تُبعده عن الله كما قلنا وتبقيه في حالة الجفاف. وهنا – في حالة الجفاف والابتعاد عن الله – يفيد الإيمان. الإيمان بمعناه السائد وهو أن نؤمن بشيء لا نراه ولكنّنا نؤمن بشيء رأيناه، أي سبق أن اختبرنا وجوده وسوف نختبر أيضًا إذا اتّبعنا الطريق اللازم. في حياتنا الزمنيّة نتبع طرقًا عديدة في التفتيش عن السعادة، ونجهد في سبيلها ونتعب ونشقى كثيرًا ولا نملّ، غير حاصلين إلّا على لحظات قصيرة من شبه سعادة مقابل أضعاف مضاعفة من الشكّ والألم. في حين أنّ لحظات اختبارنا لله والعيش بنعمته تعطينا الثقة الكلّيّة بأنّنا شاهدنا الحقّ، ووجدنا كياننا الأصليّ وما تطلبه روحنا حقًّا، وقد قال المغبوط أوغسطينوس: «خُلقنا لأجل الله ولن نجد راحة إلّا فيه». أفلا يستحقّ ذلك أن نجهد لأجله ونتعب ونستمرّ في طلبه ولا ننساه ولا نملّ؟..
٩ – والجهد هنا ليس أن نترك طريقة معيشتنا ونأتي بالمعجزات. معيشتنا الآن وأعمالنا اليوميّة يمكن أن تؤدّي بنا إلى الله. وذلك بشرط واحد: هو أن نؤدّيها بمحبّة، بمحبّة مجّانيّة لا تطلب أجرًا. نحن في الواقع نصل إلى الله في كثير من لحظات حياتنا وهي اللحظات التي نشعر بها بالسعادة الحقيقيّة، حين نكون قد أحببنا شخصًا مجّانًا وضحّينا في سبيله بإخلاص ولم نفتكر بأنفسنا. إنّها المحبّة وعندما نمارسها فعلًا نقترب من الله بل يعمل الله فينا لأنّ «الله محبّة هو»، كما قال يوحنّا الرسول.
١٠ – وختامًا «تعال وانظر» بالمحبّة تأتي وتنظر. «ذوقوا وانظروا ما أطيب الربّ». وأعتقد أنّ القضيّة ذات بال…
المرجع: مجلّة النور، العدد الثاني، شباط، ١٩٥٧.