الأرشمنديت الياس مرقص
«ميلادك أيّها المسيح إلهنا قد أطلع نور المعرفة في العالم»… لا معرفة العقل: «لأنّ الساجدين للكواكب به تعلّموا من الكوكب السجود لك يا شمس العدل»… بل معرفة سجود، السجود «لشمس العدل». سجود نُقبل به من الظلام إلى النور، «نور العالم». «لأنّك استنارة نفوسنا وأجسادنا». سجود نشخص به ونرتقي إلى نبع الوجود، إلى المشارق: «وأن يعرفوا أنّك من مشارق العلو أتيت يا ربّ المجد لك». سجود كلّ الكيان.
سجودنا هذا يتمّ أمام سرّ: سرّ من أسرار الله الفائق الإدراك. ولذلك فالعقل يجب أن ينسحب. أن يتوقّف عند عتبة السرّ وينسحب. ما هذا العجب الصائر؟ كيف الإله يصير طفلًا؟ الإله الخالق، اللامحدود، القدّوس، يولد في مغارة للبهائم، يتخلّى عن مجده وسلطانه وكيانه! ملك الملوك يتّخذ صورة عبد! إنّه السرّ الذي يُسجد أمامه، سرّ اتّضاع الله حبًّا بالناس، سرّ كيان «الله – المحبّة». في الاتّضاع كرامة كيانيّة، لا يستطيعها إلّا من له الكيان… أو من يتشبّه بمن له الكيان. الاتّضاع فضيلة إلهيّة، تفترض تجاوز الذات وتتطلّبه، أي تبتغي كيانًا أوفر… مزيدًا من الكيان. في الاتّضاع كرامة وعزّة وملوكيّة… فالمغارة تصير محلًّا للملكوت… وفيه ضياء… في الخفاء يسطع نور الله…
واقع الإنسان، منذ خطيئة آدم، واقع سقوط وحاجة إلى خلاص. وهذا ليس فقط على صعيد تاريخيّ. الحاجة إلى الخلاص حقيقة إنسانيّة، آنيّة أبدًا. حقيقة قائمة في كلّ إنسان لا بدّ من أن يشعر بها عاجلًا أم آجلًا. والميلاد هو ميلاد المخلّص، «الذي يخلّص شعبه من خطاياهم». الذي يستطيع أن يخلّص والخلاص بيده على الدوام، بل أتى ليخلّص… لأنّه الإله هو الذي يحبّ ويبذل نفسه في سبيل من يحبّ. الميلاد هو ميلاد عمّانوئيل «الله معنا»…
فإذا كان الربّ يسوع، الطفل المولود، أتى ليخلّصني، فإنّ تعييدي للميلاد لا يستقيم ولا يكتمل إلّا إذا فكّرت بخطيئتي وشعرت بها. إذا كان أتى ليخلّصني فعليّ أن أعرض نفسي لهذا الخلاص وأتقبّله: فأتطلّع إليه من عمق خطيئتي وأتقبله بإيمان وشكر وفرح… لقد تنازل الله اليوم إلى المذود، ولكنّه تنازل أكثر أيضًا من المذود: إذ تنازل إليّ أنا الخاطئ. فإذا بقي الميلاد عندي على الصعيد التاريخيّ أو الكنسيّ ولم يتمّ على الصعيد الشخصيّ فماذا أستفيد؟ يجب أن يتمّ الميلاد لي، أن يبزغ خلاصه فيّ، أن يدخل الله إليّ، أن يولد المسيح فيّ بندى الطهارة كما ولد من البتول، كقول القدّيس يوحنّا السلّميّ.
المسيح يولد في التاريخ كلّ يوم. العالم في تخبّط وتفكّك وبلبال، ولكنّه من وسط شرّه الرهيب، في عمقه غير المنظور، في كيانه الجوهريّ، يتوق إلى الإله المتجسّد فيه، بل يحوي المسيح في طيّاته الخفيّة، ويصبو إلى طهره وعدله وسلامه. لأنّه إنّما خُلق بالمسيح، الذي «كلّ شيء به كان» (يو ١ : ٣).
وقوّة المسيح الخفيّة هذه، إذا ما استقرّت ونمت في القلوب المتّضعة والنفوس الملتزمة، هي الرادع الوحيد لكلّ شرّ، والمقيم الأخير لكلّ عدل ومحبّة وسلام.
نسجد لميلادك أيّها المسيح، نسجد لميلادك ونعبدك أيّها الإله المتأنّس، الطفل الغريب، الإله الخفيّ. نحار نحن أمام سرّك مضّجعًا في مذود، يا من لا تسعه السماوات… ونؤمن خاشعين.
كيف لا تكون الإله الحقّ، وقد أتيت إلينا لا بالسلطان والجبروت بل بالامّحاء والتفاني؟ لم تفرض ذاتك على الناس يا يسوع لكنّك جئت لهم أخًا بل عبدًا خادمًا وبالدم فاديًا. همّك كلّه خلاص الناس، وخلاص الناس أجمعين.
نحار أمام سرّك يا ربّ. كيف تخلّيت عن قدرتك ومجدك، عن ملكك ولاهوتك؟ أنت الكائن كيف صرت إلى ما لم يكن؟ لقد ارتضيت أن تصير من عالم المخلوقات لأجلنا، وخضعت لنواميس الأرض في كلّ شيء وأنت لم تزل الإله القدير الخالق. أفرغت ذاتك وأخليتها لتساوي نفسك بخليقتك. أنت أردت وبسلطانك جرّدت ذاتك من سلطانك، حتّى تفدينا بحبّك.
نحار أمام سرّك يا ربّ … ونؤمن خاشعين…
المرجع : مجلّة النور، العدد السادس، ١٩٩٦.